الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | صالح بن عبد الرحمن الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فضل سلامة القلب؛ من الغل والحقد والحسد والبغضاء، وأن صاحب هذا القلب من خير الناس، وأنه من أهل الجنة، وكيف كان الأنبياء والصالحون والأولياء، يتسابقون إلى هذه الفضيلة. واسمعوا إلى موقفين من مواقف أئمتنا السابقين؛ تدل على صفاء القلب، وسخاء النفس. أما الأول: فموقف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العليم بذات الصدور، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقلب القلوب والأبصار، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل: (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد: 8 - 11].
وأشهد أن محمدا رسول الله وخليله، صلوات الله وتسليماته عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
وبعد:
فيا إخواني: وصيتي لنفسي ولكم؛ تقوى الله -عز وجل-، فاتقوه يجعل لكم فرقاناً، ويدخلكم جناناً.
أيها المسلمون: ألا وإن من تقوى الله: أن يعتني الإنسان بإصلاح قلبه، وتطهيره من الأمراض المهلكة، والأدواء الخطيرة.
أيها المسلمون: الإنسان محل الخطأ والنسيان، والإساءة والعدوان، والعاقل حينما يتعامل مع الناس لا يؤاخذهم على كل تصرف، ولا يحاسبهم على كل خطأ منهم في حقه، إذ لو فعل ذلك لما استطاع أن يتعايش معهم أبداً، ولأمرض نفسه، وأشغل فكره، ولطال منه الأسف والحزن، وامتلأ قلبه من الغيظ والحقد والحسد، وهذا بحده بلاء وداء، قال أبو الدرداء: "يا ابن آدم عليك بنفسك، فإنه من تتبع ما يرى في الناس يطل حزنه، ولا يصفي قلبه".
سامح الناس فإني أراهم | أصبحوا إلا قليلا ذئاباً |
سلامة الصدر للمسلمين؛ ثوابه الجنة، تطهير القلب من الغل والحسد والحقد والضغينة؛ جزاءه نعيم مقيم، وبهذا أثنى الله على الأنصار -رضي الله عنهم- فقال: (وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
فهم لا يجدون في صدورهم غيظاً ولا حسداً مما أوتي المهاجرون.
وكان عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- يكثر من الدعاء في طوافه، قائلاً: "اللهم قني شح نفسي، فقيل له: ما أكثر ما تدعو بهذا؟ فقال: "إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة".
ولقد قال الله -تعالى- موضحاً ما عليه أهل الإيمان الذي جاؤوا بعد الصحابة: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر:10].
وإن من أولى أهل الإيمان الذين يجب أن يسلم صدرك من الغل والحقد لهم؛ هم الصحابة -رضي الله عنهم-، وهذا بخلاف ما عليه الرافضة الذين يبغضون الصحابة، ويكفرونهم ويسبونهم.
أيها المسلمون: هنيئاً لمن خلا قلبه من الحسد والبغضاء للمسلمين عموما، وللصحابة -رضي الله عنهم- خصوصاً، لقد حاز الأجر والخيرية؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لما سأل عن خير الناس، فقال: "ذو القلب المخموم، واللسان الصادق" قيل: وما القلب المخموم؟ قال: "هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد" قيل: فمن على أثره؟ قال: "الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة" قيل: فمن على أثره؟ قال: "مؤمن في خـلق حسـن" [رواه ابن ماجة والطبراني].
وبما أن الرسل والأنبياء، هم صفوة الخلق، وأكرم الناس على الله، فلقد أخذوا بحظ وافر من صفاء السريرة، ونقاء السيرة، وسلامة الصدر، وذكاء القلب، وتبعهم على ذلك الصالحون من أهل الإيمان.
هذا رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- كان يكره نقل الكلام الذي يؤدي إلى إيغار الصدور، وجفوة الناس؛ ففي مسند الإمام أحمد: "لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر".
وحياته عليه الصلاة والسلام حلم وصبر، وعفو وبر، عفا عن أهل مكة حين فتحها، وعفا عن الأعرابي الذي جبذه بردائه، وأغلظ له في القول، فالتفت صلى الله عليه وسلم، وأمر له بعطاء.
وهذا يوسف نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، حسده أخوته، وألقوه في الجب، وباعوه رقيقاً، وفرقوا بينه وبين أبيه، وجرى له بعد ذلك سجن وأذى، ولما قدر عليهم، قال: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92].
وإذا كانت هذه حال الأنبياء، فإليكم شيئاً من أحوال الأولياء.
صحابي مجاهد، هو أبو جادنة، دخل عليه بعض أصحابه، وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: ما لوجهك يتهلل؟ فقال: "ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، والأخرى كان قلبي للمسلمين سليماً".
وشتم رجل ابن عباس -رضي الله عنهما-، فقال له ابن عباس: "إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله -عز وجل-، فلودت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم منها، وإني لأسمع بالحكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه، فأفرح به، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين، فأفرح به، وما لي به من سائمة".
فأين من يحملون في قلوبهم الحسد والبغضاء والحقد والشحناء لعباد الله؛ بسبب تصرفات يسيرة، قد تكون غير مقصودة، ناهيك بمن يملئون قلوبهم بالأحقاد بلا سبب -نعوذ بالله من ذلك-.
أين أصحاب الضغائن عما فعله علبة بن زيد الأوسي الأنصاري -رضي الله عنه- فلما حض النبي -عليه الصلاة والسلام- على الصدقة، وجاء كل رجل من الصحابة بما يستطيع قام علبة رضي الله عنه من الليل، فصلى ودعا، فقال: "اللهم ليس عندي ما أتصدق به، اللهم إني أتصدق بعرضي على من ناله من خلقك" فلما أصبح قال عليه الصلاة والسلام: "أين المتصدق بعرضه البارحة؟" فقام علبة بن زيد فقال: أنا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد قبلت صدقتك" .
وفي رواية أنه قال: "من آذاني أو شتمني أو لمزني، فهو في حل" فقال لعلبة: "أبشر فو الذي نفسي بيده، لقد كتبت في الزكاة المتقبلة".
ويروى هذا عن أبي ضمضم، أنه جاد بعرضه، فقال: "اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني، أو قذفني، فهو في حل".
قال ابن القيم -رحمه الله- معلقاً: "وفي هذا الجود من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه".
ألا فاستعينوا بالله -عز وجل-، واحذروا من أسباب الشحناء، وطرق الحسد والبغضاء، وتحلوا بالقناعة، وإياكم أن يسيطر حب الدنيا على القلب، فينافس الإنسان فيها، ويعادي من أجلها.
وفقني الله وإياكم لرضاه، ونسأله أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، إنه جواد كريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيه من الموعظة والحكمة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وخليله، وأمينه على وحيه.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فها قد سمعنا فضل سلامة القلب؛ من الغل والحقد والحسد والبغضاء، وأن صاحب هذا القلب من خير الناس، وأنه من أهل الجنة، وكيف كان الأنبياء والصالحون والأولياء، يتسابقون إلى هذه الفضيلة.
واسمعوا إلى موقفين من مواقف أئمتنا السابقين تدل على صفاء القلب، وسخاء النفس.
أما الأول: فموقف إمام أهل السنة والجماعة، الإمام الصابر المبجل، أحمد بن حنبل -رحمه الله-، فلقد ضرب وسجن، وأذوي في ذات الله، فصبر، فلما انكشفت المحنة، قال: "أحللت المعتصم من ضربه لي، ورأيت الله يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النــور: 22] ثم قال: "كل من ذكرني ففي حل، إلا مبتدع، وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم بسببك".
وجاء إليه إنسان، فقال: "يا أبا عبد الله قد اغتبتك فاجعلني في حل؟ قال: أنت في حل إن لم تعد".
أما الموقف الثاني: فموقف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فلقد واجه صنوفاً من العذاب والسجن والأذى، وسعى فيه جماعة من أهل العلم إلى الولاة في زمنه، فماذا فعل الشيخ -رحمه الله- لما أدخل مع أخيه عبد الله السجن؟
جعل عبد الله يدعو على هؤلاء الذي تسببوا في أذاهم، فقال الشيخ -رحمه الله-: "لا تدعو عليهم، ولكن قل: "اللهم هب لهم نورا يهتدون به إلى الحق".
وقال في رسالة كتبها لبعض إخوانه كلاماً طويلاً، وفيه: "والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي".
قال ابن القيم -وهو من أخص تلاميذه-: "وجئت يوما إليه -أي إلى ابن تيمية رحمه الله- أبشره بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة، وأذى له، فنهرني، وتنكر لي، واسترجع، وقال: تبشرني بموت مسلم؟ ثم قام من فوره إلى أهل الميت فعزاهم، وقال: أنا لكم مكانه، ولا يكون لكن أمرا تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحالة منه" فرحمه الله، ورضي عنه.
قال ابن القيم: "وكان بعض الأكابر، يقول -عن ابن تيمية-: ودت أني لأصحابي؛ مثله لأعدائي وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، بل كان يدعو لهم".
هكذا، فلتكن الأخلاق الفاضلة، والقلوب السليمة، وليجاهد الإنسان نفسه.
اسأل نفسك -عبد الله- هل قلبك للمسلمين سليماً؟ هل تدعو لإخوانك فضلاً عن أقرانك ومن بينك وبينهم خصومة؟
يا قوم لقد طغى حب الدنيا علينا، فامتلأت قلوب الكثير بغضاً وغلاً، فمن الناس من يدعي ما ليس له، ومنهم من يأخذ ما لا حق له فيه، حتى لو أدى الأمر إلى قطيعة الرحم، والعقوق، ما دام سيحصل على دنيا ودينار ودرهم، ألا فتعس عبد الدينار والدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش.
أيها الراغبون في سلامة الصدور وطهارة القلوب: استبقوا إلى الخيرات، اعمروا قلوبكم بذكر الله، والصلة به، ودعائه، والتضرع إليه، حسنوا الظن بإخوانكم.
أخرجوا طمع الدنيا من قلوبكم، لا تستمعوا للمشائين بالنميمة، المفرقين بين الأحبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].
تيقنوا أن السلامة من الناس لا تحصل ولن تحصل: (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [البقرة: 237].
ابتعدوا عن جميع ما يثير الخلاف والجدل من توافه الأمور، شمروا إلى الجنة بالعفو والصفح عن إخوانكم.
أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، فوالله إن ما عند الله من الأجر والمثوبة والجزاء خيرا لأهل العفو والصفح والمسامحة: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 133- 134].
فيا بشارتهم حين يجمعون في الجنة، ينظرون إلى ربهم، وتسلم عليهم الملائكة، ويتمتعون بنعيمها، وحورها وقصورها وثمارها: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) [الحجر: 47- 48].
اللهم اجعلنا ووالدينا وأزواجنا وذرياتنا منهم بمنك وكرمك.
اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسننا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
اللهم أصلح فساد قلوبنا...