الحي
كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كم في الأمم الماضية من كانت عامرة؟! ولسكانها حافلة، ولمعيشتها ورفاهيتها، سالكةٌ ساكنة، وأُسر كانت غنية، وتمتعت بالشهوات والرفاهية، فأسرفت وبذرت فانقلبت حياتها، وتعست في أحوالها، وتلفت أموالها، وتقوضت خيامها، وتفرقت مجتمعاتها، وهتكت أعراضها، وانفصلت أولادها، قلبوا وتأملوا البلدان المجاورة، والدول القريبة كانت، وكانت ثرية، وبالمال غنية فأسرفت وطغت فانظر حالها الآن، حل النكد والألم، واللؤم والندم، والحسرة ولا ساعة مندم، تأملوا حياتهم، ورغدهم، ورفاهيتهم وقصورهم لما عصوا، وبغوا سلط الله عليهم يتمنى أحدهم الخبزة اليابسة، والجرعة من الماء دافئة والغطاء واللحاف والسكون والالتفاف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي أمر بالعدل والإنصاف، ونهى عن الظلم والتبذير والإسراف، وأشهد أن لا إله إلا الله صاحب الألطاف، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرشد إلى الاقتصاد ونبذ الإسراف، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه لا سيما الخلفاء الأربعة بلا خلاف، وبقية العشرة وجميع الصحب والآل أهل الاعتدال والإتلاف، وترك التبذير والإسراف.
أما بعد: فاتقوا الذي خلقكم واستعينوا على بقاء نعمه بما رزقكم، واشكروه، فالشكر سببٌ لبقاء نعمكم معشر الجماعة، حسن الإنفاق وترشيد الاستهلاك، والاقتصاد في الحياة من أهم الوسائل التي تملك الأمة بها الأوائل، وتحفظ بها مكانتها في الأواخر والأوائل، وضد الاقتصاد والقناعة والارتياد الإسراف؛ إذ هو من قبائح الذنوب، وأعظم العيوب الإسراف يهدم الاقتصاد، ويورث الانفراد، ويجلب التفرق والبعاد، يقود إلى المجاعات، ويورث الخزي والندامات، سبب الهلاك والدمار، والذل والعار والصغار، قال الواحد القهار: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه:127].
الإسراف قيل: هو إنفاق المال الكثير في العرض الخسيس، وقيل: أن يأكل ما لا يحل له فوق الاعتدال ومقدار الحاجة.
إذًا هو التجاوز في الحد والقدر، وعليه ليس خاصًّا بالأكل والشرب، بل إلى ما هو أبعد من ذلك فيأتي الإسراف في العبادات، والتجاوز في الطاعات، ويأتي في كثرة الذنوب والسيئات، وفي جميع شؤون الحياة فمن تجاوز ما حُد له، وما قُدر عليه فقد خسر وعصي ربه، ومن وضع الأشياء في غير موضعها فقد أسرف وبغى.
قال إياس بن معاوية -رحمه الله-: "ما جاوزت به أمر الله فهو سرف"، من الطبيعة البشرية، والحياة الأسرية التوسعة في النفقة، والمبالغة في الاستهلاك والرفاهية، والتمتع بالكماليات والاتساع في الموارد والمشتهيات قال سبحانه في محكم الآيات: (كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى) [العلق:6]، (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق:7]، وقال سبحانه: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ) [الشورى:27].
ولهذا لابد من ضبط النفس وجمحها عن مألوفاتها، وصدفها عن غيها، فجاء السياج المنيع والحصن الرفيع بالقصد في الأمور، والنهي عن الإسراف والتبذير في الحياة والدور، فجاء النهي العام: (وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام:141]، قال عطاء -رحمه الله-: "نُهوا عن الإسراف في كل شيء".
فيدخل فيها العبادات والعادات، والإسراف لقبحه وذمه كان قرين الكفر في ذمه (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس:83]، بل من كان ديدنه الإسراف وشعاره البذخ والإتلاف فلا سمع ولا طاعة له بغير خلاف، قال سبحانه: (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) [الشعراء:151]، لماذا؟ (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) [الشعراء: 152].
فالإسراف: بوابة الفساد، صاحب الإسراف بعيدٌ عن الهداية والألطاف (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28].
وشعار أهل الكبر والخيلاء، والبطر والثراء الإسراف، ففي أوصاف فرعون اللعين (إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [الدخان:31].
صاحب الإسراف متعرض للهلاك والدمار والزوال والانفكاك كما قال المولى -عز وجل- وعلا: (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [الأنبياء:9].
فهو يهدم عمره، ويضيع نفسه، ويهلك حياته، صاحب الإسراف متعرضٍ لدخول النار، ومعصية الجبار، قال الواحد القهار: (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) [غافر:43].
الإسراف أيها الإخوان: من الصفات الجالبة لغضب الرحمن، ونقص الإيمان، وطاعة الشيطان، والنقص والهلاك والخسران، سببٌ لدخول النيران، وحرمان الجنان (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء:27].
كل واشرب، واعمل واكدح، والبس واخلع دون سرف ولا مخيلة، كما صح عن ابن عباس عند البخاري تعليقه قال: "كُل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأك اثنتان سرف أو مخيلة"، أي: خيلاء، ومن إضاعة المال وضعه في غير موضعه، وفي الصحيح "ونهى عن إضاعة المال"، فمن وضع الشيء في غير موضعه فقد أسرف.
الإسراف داء قتال، وذنبٌ سريع الانفعال، وأعظم سببٍ لتعرض النعمة للزوال، يعرض الأمم أفرادًا وجماعات للمهالك والعطب والنكبات، (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) [الإسراء:16].
ثلاثة فيهن للملك التلف: الظلم والإهمال فيه والسرف، تصفحوا طيات التاريخ، وقلبوا أوراق الماضي كم في الأمم الماضية من كانت عامرة؟! ولسكانها حافلة، ولمعيشتها ورفاهيتها، سالكةٌ ساكنة، وأُسر كانت غنية، وتمتعت بالشهوات والرفاهية، فأسرفت وبذرت فانقلبت حياتها، وتعست في أحوالها، وتلفت أموالها، وتقوضت خيامها، وتفرقت مجتمعاتها، وهتكت أعراضها، وانفصلت أولادها، قلبوا، وتأملوا البلدان المجاورة، والدول القريبة كانت، وكانت ثرية، وبالمال غنية فأسرفت وطغت فانظر حالها الآن، حل النكد والألم، واللؤم والندم، والحسرة ولا ساعة مندم، تأملوا حياتهم، ورغدهم، ورفاهيتهم وقصورهم لما عصوا، وبغوا سلط الله عليهم يتمنى أحدهم الخبزة اليابسة، والجرعة من الماء دافئة والغطاء واللحاف والسكون والالتفاف.
بل خافوا على أعراضهم ونسائهم، وذهبت أموالهم ومساكنهم، الإسراف يفتك بالمجتمعات، ويغير الحال إلى حالات، كم من الناس اليوم من حاز على نعمٍ يحلم بها غيره؟! ويتمنى لو رآها ولو في الحُلم مرة، فعرضها للزوال بالإسراف والتبذير والنكال، والإهدار والاستهلاك.
إذا كنت في نعمة فارعها | فإن المعاصي تزيل النعم |
وداوم عليها بشكر الإله | فإن الإله سريع النقم |
أيها المسرفون وفي حياتهم مفرطون: تأملوا صفحات التاريخ، فإن النعم مع المعاصي لا تدوم، ولا تغتروا بحلم الله، فالمعاصي تؤثر ولابد، إن الإنسان أيها المسلمون ليقف حائرًا وشعر رأسه واقفًا حينما يتلو قول المولى جل وعلا: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام:44]، أليست انفتحت علينا النعم؟! أليس أسبغ الله علينا الكرم؟! (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20]، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34].
ألا نعتبر بحال غيرنا؟! بدلوا نعمة الله كفرًا، فكانت حالهم بعد اليسر عسرًا، وبعد الغنى ضيقًا وفقرًا، وبعد الأمن قلقًا وخوفًا، وبعد الاجتماع انفكاكًا وتشريدًا، وبعد الاجتماع تفككًا وتشريدًا، وبعد الزيادة جوعًا ونقصًا، وبعد العزة والوحدة ذلًا وشتاتًا، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الأنفال:53].
فريقان لا ثالث لهما: شاكرٌ لنعم ربه، أو كافرٌ بنعم ربه، وكم من قرية باتت صالحة وفيها حياتها ناصحة، ولخيراتها صادقة، ولثروتها ناجحة فكفرت بنعم الله، فباتت خائبة، خاسرة (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112].
الإسراف: أنواعٌ وألوانٌ أعظمها خطرًا الذنوب والمعاصي، وصوره كثيرة كالإسراف في المأكولات والمشروبات، والمراكب والمساكن والكماليات، وتتبع الموديلات والماركات، وإشعال الكهرباء والطاقات، والاحتفالات بمناسبات، والزواجات، والإسراف في الموائد والقصور الشاهقات، وتكاليف الزواج بالأموال والاستئجار الباهظات، وتراكم المداينات.
ومن صوره: إهدار المركوبات، وإتلافها في التفحيط والتطعيسات، واللهث وراء الأزياء والموضات، وتقليد الكفرة والفسقة في اللباس والقصات، ورمي فائض الأطعمة في النفايات، وتجد من يعيش حياة الترف، والإسراف وحب الشرف تفنن في المأكولات، وتمتع في الحياة، في حين أناس يموتون جوعًا، ويتسللون لواذا، ويتعففون كفافًا، إنك لتعجب حينما ترى من استغرق بالكماليات، وألوان الشهوات، وهو يرى ويسمع ما حوله من الدول المجاورات.
ومن صوره المعاصرة: ما انتشر في الجوالات الذكية، والرسالة الواتسية من غسل الأيدي بالطيب والعود، والتلاعب بالسلاح، والمراكب، ومسك الدراهم حائلة عن الحرارة، بل ورمي الطعام كالقهوة أمام الجماعة، ووضع الذبائح لأشخاصٍ أو شخصٍ منفردًا، والتمثيل بالولد، وتبهير القهوة بالمال والهيل.
ومن صوره: وضع المبالغ الطائلة للبهائم، أو وضعها في الطعام سفاهة واستهزاء، وهذا فعل السفهاء، وتبذيرٌ وإسرافٌ، وتلاعبٌ بمال الله، ويعدون ذلك كرامة وشهامة، وهي والله خزي وحسرةٌ وندامة، الكرم محدود، والسخاء معدود مما يجب الأخذ على أيديهم حفاظًا للنعمة، وحماية للأمة، ومنعًا للعبث والسفه.
ومن صوره: إهدار الماء في غير موضعه، وإذا كان النهي عن الإسراف في الوضوء وهو عبادة، فما بالك في ما لا حاجة فيه ولا عبادة؟! فكم من إهدار الماء وضوءًا وغسلاً وتنظيفًا حتى كأن الإنسان على شواطئ البحار ومجاري الأنهار.
ومن صوره: استخدام المرافق العامة كالماء والكهرباء، والأمور المشتركة، ومما هو داخل في إضاعة المال، فالإسراف يبدد الثروات، وينقص مستهلكات، كيف؟ تأمل وتذكر كيف كان حال العراق اليوم، والأنهار كانت تجري من تحتهم، كيف حال الشام والأشجار من فوقهم؟ كيف حال اليمن والبحار من حولهم؟ ونحن بحمد الله في نعمةٍ، وأمان، وراحةٍ وإيمان، فلا نغيرها بمعصية الرحمن، فعدوا فعدو النعمة الإسراف، والإسراف سببٌ للإتلاف.
لا تبذر وإن ملكت كثيرًا | فزوال الكثير بالتبذير |
قليل المال تصلحه فيبقى | ولا يبقى الكثير مع الفساد |
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، عباد الله ديننا دين الوسطية، يأمر بالاعتدال، وينهى عن الرفاهية، يقول ابن القيم في قوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67]، "أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم، فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلًا، خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا" انتهى.
قال عليٌ -رضي الله عنه-: "ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت به فهو لك، وما أنفقت رياء، وسمعة فذلك حظ الشيطان".
إن السرف في هذه العصور المتأخرة صار ظاهرة سيئة يجتاح الأمة، فالواجد يسرف، والمعدم يقترض ليجاري الأغنياء، ويفاخر أهل الخيلاء، وطلبات الأسرة لا تنتهي، يقترض ليسافر بدول الكفر، يقترض لدعوة وليمة باهظة في حين يموت الآلاف جوعًا وبردًا، يقترض ليركب المراكب الفارهة، ويسكن المساكن الشاهقة فتتراكم عليه الديون، وتصيبه الهموم والغموم، ولو اقتصد، وصار على المنهج الوسط لسلم من التبعات، وأراح نفسه من النكبات، كان السلف يحفظون أموالهم ويشكرون ربهم، كانوا مقتصدين متوسطين، ولربهم شاكرين حامدين.
قال الحسن -رحمه الله-: "كانوا في الرحال مقاصيد، وفي الأثاث والثياب مجاذيب، ولما رأت أم سلمة ميمونة -رضي الله عنها- حبة رمان في الأرض فأخذتها وقالت: إن الله لا يحب الفساد".
وقال أحمد بن محمد البراثي: "قال لي بشر بن الحارث لما بلغه ما أنفق من تركة أبينا: قد غمني ما أنفق عليكم من هذا المال، ألا فعليكم بالرفق والاقتصاد في النفقة، فلأن تبيتوا جياعًا، ولكم مال أعجب إليَّ من أن تبيتوا شباعًا وليس لكم مال، ثم قال: أقرع على والدتك السلام وقل لها: عليكِ بالرفق والاقتصاد في النفقة".
كلماتٌ حانية، ووصية جامعة، وعقولٌ راسخة، ولما التقط أبو الدرداء -رضي الله عنه- حبًا منثورًا في غرفةٍ له قال: "إن من فقه الرجل رفقه في معيشته"، وقال عمر -رضي الله عنه-: "الخرق في المعيشة أخوف عندي عليكم من العوز، لا يقل شيءٌ مع الإصلاح، ولا يبقى شيءٌ مع الفساد".
ومن حفظ ماله شكر ربه، وحفظ نعمته وصان عرضه، يقول الحكماء: من حفظ ماله فقد حفظ الأكرمين: الدين والعرض. من حفظ ماله حفظ الأكرمين الدين والعرض، ومن قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع.
اجتمع مالك ودينار ومحمد بن واسعٍ عليهما -رحمة الله- فتذاكرا العيش، فقال مالك: "ما شيءٌ أفضل من أن يكون للرجل غلةٌ يعيش فيها"، فقال محمدٌ: "طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاءً، ووجد عشاءً ولم يجد غداء وهو عن الله راض، والله عنه راض".
وقال جابر -رضي الله عنه-: "رأى عمرٌ لحمًا معلقًا في يدي، فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته، فقال عمر: "أفكلما اشتهيت يا جابر اشتريت؟ أما تخاف هذه الآية يا جابر (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف:20]".
فهذه صور مشرقة، وأقوال سلفية، وحكم إيمانية، تعطي خلاصتها درس الاعتدال والتوسط في المال، وأن الإسراف ليس خاصًّا بالمال، بل يشمل الأقوال والأفعال والتقيد بالسنة والكتاب، والعمل بإخلاصٍ وصواب، فيها درس الاقتصاد فيه الاستقرار، وبقاء النعم، وحفظها من النقم، وعدم الحاجة للآخرين، فما عال من اقتصد، وما افتقر من عمل بعدلٍ وجد.
والله أعلم.