الجواد
كلمة (الجواد) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعال) وهو الكريم...
العربية
المؤلف | رشيد بن إبراهيم بو عافية |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لنا حديثٌ في هذه الجمعة حول نعمتين عظيمتين، امتنَّ الله -تعالى- بهما على العباد، هما من أساسيَّاتِ الحياة الإنسانية، وعليهما يقوم استقرارُ كُلِّ المجتمعات البشريَّة، قال الله سبحانه ممتنًّا على العِبادِ، وطالبًا منهم شُكرَ النّعم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون)[النحل: 112].
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الواحد الأحد، الفرد الصّمد، له الحمدُ سبحانه في الأولى والآخرة و له الحكمُ وإليه المَرجِع، نحمده سبحانه حمدًا كثيرًا طيّبًا مبارَكًا فيه ملءَ السمواتِ وملءَ الأرضِ وما بينهما، وملءَ ما شاءَ ربُّنا من شيءٍ بعد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نِد، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسوله، بلّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ وجاهد، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين وصحابته الميامين، ومن تبعَهُم بإحسانٍ و سلّم
ثمّ أما بعد:
معشر المؤمنين: حيّاكُم اللهُ وبيّاكُم، وجعلَ الجنّةَ دارَ المتّقين مثواكُم.
لنا حديثٌ في هذه الجمعة حول نعمتين عظيمتين، امتنَّ الله -تعالى- بهما على العباد، هما من أساسيَّاتِ الحياة الإنسانية، وعليهما يقوم استقرارُ كُلِّ المجتمعات البشريَّة، قال الله سبحانه ممتنًّا على العِبادِ، وطالبًا منهم شُكرَ النّعم: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون)[النحل: 112].
وقال سبحانه في شأن قريش: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْف)[قريش: 3-4].
فمن خلال هذه الآيات نُدركُ النعمتين: إنهما نعمتا: "الرخاء والأمن".
لا شكَّ أنَّ لهاتين النعمتينِ أسباب، متى ما توفَّرت وُجدَ الرخاءُ، ووُجِدَ الأمن والاستقرار والسلام، ومتى ما اختفت، أو ضَعُفت وُجِدَ الجوعُ بمفهومه الاقتصادي العام، ووُجدَ الخوفُ والاضطراب، بِحْسبِ حالِ تلكَ الأسباب، حولَ هذه الأسباب يكونُ كلامُنا، وإن أريدُ إلاَّ الإصلاحَ ما استطعت، وما توفيقيَ إلا بالله، عليك توكلت، وإليه أُنيب.
السببُ الأوَّلُ الذي لا ينبغي أن نقَدِّمَ عليهِ ولا بينَ يديه: "استيفاءُ حقِّ اللهِ -تعالى-":
فالأمنُ والسلامُ، والشّبَعُ والرِّيُّ، والرَّخاءُ الاقتصاديُّ، والسلامُ الاجتماعيُّ، حقوقٌ للإنسان، وهي في نظَرِ الإسلامِ مُكتسباتٌ خزائنها بيَدِ اللهِ -سبحانه-، مالكِ السَّمواتِ والأرَضين، ومُدَبِّرِ شؤونِ الخلقِ أجمعين، أليسَ من أبسطِ المُسلَّماتِ وأوضَحِ البديهيَّاتِ أنَّ الحقَّ يُقابلهُ واجب، وأنَّ طالبَ الحقِّ مع التقصيرِ في الواجب ظالمٌ مُقصِّرٌ في نظَرِ النَّاسِ أجمعين؟!
انظُروا في حال الشعوب والحضارات، حضاراتٌ كاملة اختفت بسبب استكبارها على الله ورفضِها طاعةَ الله والخضوعَ لأمره: قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور)[سبأ: 15-17].
رخاءٌ اقتصاديٌّ، وطاقةٌ مائيَّةٌ جبَّارة، وجِنانٌ وزروعٌ ليسَ لها مثيل، ولكنَّهم عندَما استكبروا على الله وضيَّعُوا أمره، بعثَ اللهُ عليهمُ الأسباب، فانهارَ اقتصادُهُم، وبَدَّلَهم الله بتلكَ الجنانِ الفسيحةِ قحطًا وعطَشًا وشَوكًا، وانتهت حضارَتُهم وعَفَا عليها التاريخ!.
هذا السَّببُ -معشر المؤمنين-: يعملُ في الخفاء، وكلُّ الأمم ممتحنةٌ عليه شاءت أم أبت، صغارًا وكبارًا، حُكَّامًا ورَعيَّة، فللكونِ ربٌّ يحكُمُه، لهُ علينا الطاعةُ والانصياع، ولنا منه الرزقُ والكفاية، قال سبحانه-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين)[الذاريات: 56-58].
فحاسبوا أنفسَكم على هذا الواجبِ حُكّامًا ومحكومين، رجالاً ونساءً، أفرادًا وجماعات، وتوبُوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلّكم تُفلحون وتُرحمون!.
معشر المؤمنين: ومن أكبر الأسبابِ التي يتحقق بها للعبادِ الرخاءُ والسلام: "تحقيقُ العدلِ ومجانبةُ الظُلمِ والجور":
وللهِ في هذا سُنَّةٌ لا تتخلَّف، فقد يعطي اللهُ الأمَّةَ على عدلها وإن كانت كافرة، ويمنعُ الأمَّةَ بسبب ظُلمِها وبغيِها وإن كانت مُسلمة، وأخطرُ مجالاتِ العدلِ على الإطلاق: "عدلُ الرَّاعي مع الرَّعيَّة" فهذا لهُ تأثيرٌ قويٌّ في تحقيق الرَّخاءِ والأمن والسلام.
العدلُ بمفهومه العام: العدل في القضاء والأحكام، العدل في إيصال الحقوق لأصحابها، العدلُ في المحاسبةِ وتنزيل العقوبات على المخطئين، العدل في توزيع الثرواتِ والمواردِ العامَّة، في التعامل مع المال العامِّ مالِ الأمَّة، في الرحمةِ بالضعيف، وتقريبِ البعيد، وغيرِها من مجالات العدل.
خرجَ عُمَرُ بن الخطابِ يومًا إلى السوق فرأى إبلاً سِمانًا، فقال: إبِلُ من هذه؟ فقالوا: إبِلُ عبدِ اللهِ بنِ عُمر، ابنِ أميرِ المؤمنين! فقال عُمر: "بَخٍ بَخٍ يا ابن أمير المؤمنين!".
فأرسلَ في طلبه، فلما حضَرَ، قال له: "ما هذه الإبلُ يا عبدَ الله؟" قال: "اشتريتُها بمالي" وبعثتُ بها إلى الحِمَى أُتاجرُ فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال عُمر: "ويقول الناسُ حينَ يرونها: ارعُوا إبِلَ ابنِ أمير المؤمنين، اسقُوا إبِلَ ابنِ أمير المؤمنين، وهكذا تسمنُ إبلُك، ويربُوا ربحُكَ".
ثم صاحَ به: "خُذ رأسَ مالك واجعلِ الرّبحَ في بيتِ مال المسلمين" [صلاح الأمة في علو الهمة 6/49)].
تُرى معشر المسؤولين: هل يحتاجُ هذا الكلامُ النفيسُ إلى تعليق؟!
يقول لأقاربِهِ: "إنّي قد نهيتُ الناسَ عن كذا وكذا، وإن الناسَ ينظُرون إليكم كما ينظُرُ الطيرُ إلى اللحم؛ فإن وقعتم وقعوا، وإني والله لا أوتَى برَجُلٍ منكم وقع فيما نهيتُ الناسَ عنه إلا ضاعفتُ له العذاب لمكانه منّي، فمن شاءَ منكم فليتقدّم، ومن شاءَ فليتأَخّر".
تُرى معشر المسؤولين: هل يحتاجُ هذا الكلامُ النفيسُ إلى تعليق؟!
قال عبد الله بنُ ربيعةَ يحكي تصرُّفَ عمرَ بن الخطاب في المال العام: "صحبتُ عُمَرَ بن الخطّاب من المدينة إلى مكة في الحج، ثم رجعنا، فما ضُربَ له فسطاطٌ ولا خباءٌ، ولا كان له بناءٌ يستظل به، إنما يلقي كساءً على شجرة فيستظل تحته، فقال له عمر: "كم أنفقنا في حجَّتنا هذه؟" قال: "خمسة عشر دينارًا!" فقال أمير المؤمنين: "لقد أسرفنا في هذا المال!".
يقول هذا وتحت يده مال الأمة وخزائن الروم وكسرى! فهل يحتاجُ هذا الكلامُ أيضًا إلى تعليق؟!
إنّ هذا السبب -معشر المؤمنين-: أعني تحقيق العدل، ومجانبة الظلم والجَور -مخاطبٌ به كلُّ واحدٍ منّا حاكمًا كانَ أو محكومًا، مسؤولاً كبيرًا كان أم صغيرًا، رجالاً ونساءً، أفرادًا وجماعاتٍ وجمعيّات، كلُّنا مخاطبون بهذا السبب وكلُّنا نتحمّل مسؤوليّة القيام به، أو التفريط فيه؛ لأنّ السفينةَ واحدة، والمصيرَ واحد، ولا يظلمُ ربُّكَ أحدَا.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوةُ في الله: ومن أكبر الأسبابِ التي يتحقق بها للعبادِ الرخاءُ والسلام: "لزومُ الشرعِ في أوقاتِ الفتَنِ العامَّة": الفتنُ خطَّافةٌ للعقول، مُذهبةٌ للأحلام والنُّهى، تختلطُ فيها الأمور، ويكثُرُ فيها القيلُ والقال، ولا يظهرُ فيها سِوَى الهرجُ والمَرْجُ والإفسادُ وحظوظُ النَّفس.
ولذلك فقد أرشدَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إلى لزومِ الشرعِ والعقل أزمانَ الفتن، وإلى لزومِ البيوتِ وتركِ القيلِ والقال لتقليلها، وإلى دعاءِ اللهِ بتفريجِ الكروب وتسهيل الأمور، وإلى تركِ الإفسادِ بالقول والعمل:
هذا عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- يقول: "بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذكر الفتنة، فقال: "إذا رأيتم الناس قد مَرِجَت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا "وشبك بين أصابعه" قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: "الزم بيتك واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك ودع عنك أمر العامة"[حسن صحيح، سنن أبي داود 4343)].
انظُر إلى هذه الأصول ما أجلَّها: لزوم البيت أي مفارقة الفتن بالبَدن- وإمساكُ اللسان عن القيل والقال، لعَدَمِ إشعال نار الفتنة، والحذرُ من العامَّة والدَّهماءِ، فإنَّهم وَقودُ الفتَنِ، وبهم تشتعلُ نيرانُها!.
وانظُروا -معشر المؤمنين- في الفتن على اختلافِها، من كان وَقُودُها؟! وجوهٌ لا تُعرَفُ ولا تُكشَف، أَجِنْدَات مشبوهة لا تعرفُ عنها شيئًا، مخطّطات ربّما كانت استراتيجيّة، تأتي على الأخضر واليابس في البلاد، وتُفسِدُ في الأرض بعد إصلاحها، تبدأُ بالمطالب الاجتماعيّة أو ما شابَه، ثم لا تفتأُ تتحوّلُ إلى لصوصيَّةٍ ومصالحَ شخصيَّة وسرقةٍ ونهبٍ لأرزاقِ العبادِ وخيرَاتِ البلاد، وهذه طبيعةُ الفتنِ على الدوام!.
أيها الإخوةُ في الله: قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الرعد: 11].
لا بدَّ من الصلاح والإصلاح، وصفاء القلوب من الرعية، ولا بدَّ من العدل والقسط وصفاء القلوب من الرُّعاة، حتى تكونَ النتائج والثمرات، ويتنزَّلَ السلام والرخاءُ على هذا البلد الطيِّب.
فإنَّ السلامَ والرخاء نِتاجُ هذه المعاني جميعًا من المسلمين جميعَا، والله -تعالى- يقول: (وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِين)[العنكبوت:69].
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان...