البحث

عبارات مقترحة:

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

الحكم

كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...

الواثق بالله هارون

الواثق بالله هارون، أبو جعفر -وقيل: أبو القاسم- ابن المعتصم بن الرشيد. أمه أم ولد رومية، اسمها قراطيس. ولد لعشر بقين من شعبان سنة ست وتسعين ومائة، وولي الخلافة بعهد من أبيه، بويع له في تاسع عشر ربيع الأول سنة سبع وعشرين. وفي سنة ثمانٍ وعشرين استخلف على السلطنة أشناس التركي، وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجًا مجوهرًا، وأظن أنه أول خليفة استخلف سلطانًا، فإن الترك إنما كثروا في أيام أبيه. وفي سنة إحدى وثلاثين ورد كتابه إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في ذلك، ثم رجع في آخر أمره. وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي، وكان من أهل الحديث، قائمًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أحضره من بغداد إلى سامرا مقيدًا، وسأله عن القرآن، فقال: ليس بمخلوق، وعن الرؤية في القيامة، فقال: كذا جاءت الرواية، وروى له الحديث، فقال الواثق له: تكذب، فقال للواثق: بل تكذب أنت، فقال: ويحك! يرى كما يرى المحدود المتجسم ويحويه مكان ويحصره الناظر؟! إنما كفرت بربي وصفته، ما تقولون فيه؟ فقال: جماعة من فقهاء المعتزلة الذين حوله: هو حلال الضرب، فدعا بالسيف، وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربًّا لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيد، فمشى إليه، فضرب عنقه، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فصلب بها، وصلبت جثته في سر من رأى، واستمر ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل، فأنزله ودفنه. ولما صلب كتب ورقة وعلقت في أذنه، فيها: هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره، ووكل بالرأس من يحفظه ويصرفه عن القبلة برمح، فذكر الموكل به أنه رآه بالليل يستدير إلى القبلة، فقرأ سورة يس بلسان طلق، رويت هذه الحكاية من غير وجه. وفي هذه السنة استفك من الروم ألفًا وستمائة أسير مسلم، فقال ابن أبي دؤاد قبحه الله: من قال من الأسارى القرآن مخلوق خلصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر. قال الخطيب: كان أحمد بن أبي دؤاد قد استولى على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن، ويقال: إنه رجع عنه قبل موته. وقال غيره: حمل إليه رجل فيمن حمل مكبّلًا بالحديد من بلاده، فلما دخل -وابن أبي دؤاد حاضر- قال المقيد: أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله فلم يدع الناس إليه، أم شيء لم يعلمه؟ قال ابن أبي دؤاد بل علمه، قال: فكان يسعه ألا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم؟ قال: فبهتوا وضحك الواثق، وقام قابضًا على فمه ودخل بيتًا، ومد رجليه وهو يقول: وسع النبي أن يسكت عنه ولا يسعنا، فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار، وأن يردّ إلى بلده، ولم يمتحن أحدًا بعدها، ومقت ابن أبي دؤاد من يومئذ. والرجل المذكور هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذرمي شيخ أبي داود والنسائي. قال ابن أبي الدنيا: كان الواثق أبيض، تعلوه صفرة، حسن اللحية، وفي عينيه نكتة. قال يحيى بن أكثم: ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق، ما مات وفيهم فقير. وقال غيره: كان الواثق وافر الأدب، مليح الشعر، وكان يحب خادمًا أهدي له من مصر، فأغضبه الواثق يومًا، ثم إنه سمعه يقول لبعض الخدم، والله إنه ليروم أن أكلمه من أمس فما أفعل، فقال الواثق. ياذا الذي بعذابي ظل مفتخرًا*****ما أنت إلا مليك جار إذا قدرا لولا الهوى لتجارينا على قدر*****وإن أفق منه يومًا ما فسوف ترى ومن شعر الواثق في خادمه: مهج يملك المهج*****بسجى اللحظ والدّعج حسن القد مخطف*****ذو دلال وذو غنج ليس للعين إن بدا ***** عنه باللحظ منعرج وقال الصولي: كان الواثق يسمى المأمون الأصغر لأدبه وفضله، وكان المأمون يعظمه ويقدمه على ولده، وكان الواثق أعلم الناس بكل شيء، وكان شاعرًا، وكان أعلم الخلفاء بالغناء. وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقًا بضرب العود، راوية للأشعار والأخبار. وقال الفضل اليزيدي: لم يكن في خلفاء بني العباس أكثر رواية للشعر من الواثق، فقيل له: كان أروى من المأمون؟ فقال: نعم، كان المأمون قد مزج بعلم العرب علم الأوائل من النجوم والطب والمنطق، وكان الواثق لا يخلط بعلم العرب شيئًا. وقال يزيد المهلبي: كان الواثق كثير الأكل جدًّا. وقال ابن فهم: كان للواثق خوان من ذهب مؤلف من أربع قطع يحمل كل قطعة عشرون رجلًا، وكل ما على الخوان من غضارة وصفحة، وسكرجة من ذهب، فسأله ابن أبي دؤاد ألا يأكل عليه للنهي عنه، فأمر أن يكسر ذلك ويضرب ويحمل إلى بيت المال. وقال الحسين بن يحيى: رأى الواثق في النوم كأنه يسأل الله الجنة، وأن قائلًا يقول له: لا يهلك على الله إلا من قلبه مرت، فأصبح فسأل الجلساء عن ذلك، فلم يعرفوا معناه، فوجه إلى أبي محلم وأحضره، فسأله عن الرؤيا والمرت، فقال أبو محلم: المرت: القفر الذي لا ينبت شيئًا، فالمعنى على هذا لا يهلك على الله إلا من قلبه خالٍ من الإيمان خلو المرت من النبات، فقال له الواثق: أريد شاهدًا من الشعر في المرت، فبادر بعض من حضر فأنشد بيتًا لبني أسد: ومرت مروتاة يحار بها القطا*****ويصبح ذو علم بها وهو جاهل فضحك أبو محلم، وقال: والله لا أبرح حتى أنشدك، فأنشده للعرب مائة قافية معروفة لمائة شاعر معروف في كل بيت ذكر المرت، فأمر له الواثق بمائة ألف دينار. وقال حمدون بن إسماعيل: ما كان في الخلفاء أحد أحلم من الواثق، ولا أصبر على أذى ولا خلاف منه. وقال أحمد بن حمدون: دخل هارون بن زياد مؤدب الواثق إليه، فأكرمه إلى الغاية، فقيل له: من هذا يا أمير المؤمنين الذي فعلت به هذا الفعل؟ فقال: هذا أول من فتق لساني بذكر الله، وأدناني من رحمة الله. ومن مديح علي بن الجهم فيه: وثقت بالملك الواثق بالله النفوس*****ملك يشقى به المال ولا يشقى الجليس أسد يضحك من شداته الحرب العبوس*****أنس السيف به واستوحش الطلق النفيس يا بني العباس يأبى الله إلا أن تروسوا مات الواثق بـ: سر من رأى، يوم الأربعاء لستٍ بقين من ذي الحجة سنة مائتين واثنتين وثلاثين ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين: الموت فيه جميع الخلق مشترك *****لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ما ضر أهل قليل من تفارقهم *****وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا وحكي أنه لما مات ترك وحده واشتغل الناس بالبيعة للمتوكل، فجاء جرذون فاستل عينه فأكلها. مات في أيامه من الأعلام: مسدد، وخلف بن هشام البزار المقرئ، وإسماعيل بن سعيد الشالخي شيخ أهل طبرستان، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو تمام الطائي الشاعر، ومحمد بن زياد بن الأعرابي اللغوي، والبويطي صاحب الشافعي مسجونًا مقيدًا في المحنة وعلي بن المغيرة الأثرم اللغوي، وآخرون. ومن أخبار الواثق: أسند الصولي عن جعفر بن الرشيد قال: كانّا بين يدي الواثق وقد اصطبح، فناوله خادمه مهج وردًا ونرجسًا، فأنشد في ذلك بعد يوم لنفسه: حياك بالنرجس والورد ***** معتدل القامة والقد فألهبت عيناه نار الهوى ***** وزاد في اللوعة والوجد أملت بالملك له قربة ***** فصار ملكي سبب البعد ورنحته سكرات الهوى *****فمال بالوصل إلى الصد إن سئل البذل ثنى عطفه *****وأسبل الدمع على الخد غر بما تجنيه ألحاظه *****لا يعرف الإنجاز للوعد مولى تشكي الظلم من عبده *****فأنصفوا المولى من العبد قال: فأجمعوا أنه ليس لأحد من الخلفاء مثل هذه الأبيات. وقال الصولي: حدثني عبد الله بن المعتز قال: أنشدني بعض أهلنا للواثق وكان يهوى خادمين لهذا يوم يخدمه فيه، ولهذا يوم يخدمه فيه: قلبي قسيم بين نفسين ***** فمن رأى روحًا بجسمين يغضب ذا إن جاد ذا بالرضا ***** فالقلب مشغول بشجوين وأخرج عن الحزنبل قال: غنى في مجلس الواثق بشعر الأخطل: وشاد مربح بالكاس نادمني ***** لا بالحصور ولا فيها بسوار فقال: أسوار أو سئار؟ فوجه إلى ابن الأعرابي يسأل عن ذلك، فقال: سوار وثاب، يقول: لا يثب على ندمائه، وسئار مفضل في الكأس سؤرًا، وقد رويا جميعًا، فأمر الواثق لابن الأعرابي بعشرين ألف درهم. وقال: حدثني ميمون بن إبراهيم، حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال: تلاحى الحسين بن الضحاك ومخارق يومًا في مجلس الواثق في أبي نواس وأبي العتاهية أيهما أشعر؟ فقال الواثق: اجعلا بينكما خطرًا، فجعلا بينهما مائتي دينار، فقال الواثق: من ههنا من العلماء؟ فقيل: أبو محلم، فأحضره فسئل عن ذلك، فقال: أبو نواس أشعر، وأذهب في فنون العرب، وأكثر افتنانًا من أفانين الشعر، فأمر الواثق بدفع الخطر إلى الحسين. "تاريخ الخلفاء" للسيوطي.