فضل الوقف وحكمة مشروعيته

عناصر الخطبة

  1. ثمار الوقف ودوره في حفظ هوية المسلمين
  2. معنى الوقف
  3. مجالاته
  4. خصائص الوقف في الإسلام
  5. مَقصد الوقف
  6. ضرورة تفطُّن الواقف لتوسُّع حاجات المسلمين
اقتباس

إنَّ الوقف يُعَدُّ صورة من صور التعاون على البر والتقوى، وإبرازاً لمعنى التلاحم والشعور بالجسد الواحد للأمة، ليس هذا فقط؛ وإنما تظهر منفعته بجلاء للمُوقِفِ بعد وفاته، قال الله -تعالى-: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ..

أما بعد: رغم ما آل إليه أمر المسلمين من ضعف، وما تعرض له الإسلام من إقصاء عن ميادين الحياة في أصقاع شتى من أرض الله، إلا أن الوقف ظل يؤتي ثماره في التواصل بين أفراد المجتمع المسلم، وبين أجياله المتعاقبة، وكان خير دليل عملي يلمسه المسلمون، ويراه غيرهم، على التكافل الإجتماعي في الإسلام. 

وقد أسهم بشكل كبير في دعم المؤسسات الخيرية والعلمية التي يرجع إليها الفضل بعد الله -تعالى- في استمرارية رسالة الخير، ودعم مسيرة الدفاع عن دين الله -عز وجل- عبر القرون، خاصة وأن الوقف في الإسلام يخدم كل طبقات المجتمع، بل تعدى ذلك إلى عالم الحيوان.

وليس من المبالغة أن يقال إن للوقف دوراً بارزاً عبر القرون في الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية ومواصلة الدعوة إلى دين الإسلام.

معشر المؤمنين: أصل الوقف: الحبس والمنع، فيقال: وقفت الدار لوجه الله -تعالى-، أي: حبستها في سبيل الله. فالوقف: تحبيس في الابتداء، وتسبيل للمنفعة على الدوام، فأصل المال من نقد أو عقار أو مركب أو مصنع أو مزرعة، أو بئر يحبس فلا يملك لأحد، وإنما يتصدق بمنفعته في وجوه البر المختلفة.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "احبس أصلها وسبل ثمرتها" رواه ابن حبان.

ويفهم من هذا -أيها الأفاضل- أن المنفعة أو ريع الوقف ليس مقصوراً على أفراد بعينهم، كالواقف وذريته وأقربائه، أو الفقراء فحسب، وإنما يمكن أن يشمل جهات خيرية عدة تعود بالنفع على جموع المسلمين، وذلك كالمساجد والمستشفيات ودور العلم والمدارس ودور الأيتام والمعوقين، والأربطة للفقراء والمساكين، وحفر الآبار، وتسوير المقابر وحفر القبور، وكل ما يوظف ريعه لنصرة الإسلام ونفع المسلمين.

وهنا أؤكد على أن الوقف مجاله واسع كما سمعنا، وليس قاصراً على بناء المساجد وحفر الآبار، وتسبيل برادات الماء.

أيها المؤمنون: إنَّ الوقف يُعَدُّ صورة من صور التعاون على البر والتقوى، وإبرازاً لمعنى التلاحم والشعور بالجسد الواحد للأمة، ليس هذا فقط؛ وإنما تظهر منفعته بجلاء للموقف بعد وفاته، قال الله -تعالى-: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:261].

والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.

الوقف في الإسلام -عباد الله- يتميز بخصائص أكسبته ديمومة واستمراراً وتسابق الناس إليه؛ منها: أن الإسلام منح الواقف الحرية الكاملة في الكيفية التي يرغب بها في التصرف فيما يوقفه من أموال، وللموقف أن يشترط شروطاً تلبي رغباته إذا كانت وفق المقاصد العامة للشريعة.

عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، أن أباه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضاً بخيبر، ولم أصب مالاً قط أنفَس عندي منه، فما تأمر به؟ قال: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها".

قال: فتصدق بها عمر: أنها لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم، غير متمول. رواه البخاري.

وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها" دلالة على أن للواقف الحرية في اختيار مصارف الوقف.

ومن خصائص الوقف في الإسلام دوام الأجر للواقف وعدم انقطاعه، طالما بقيت العين الموقوفة، عن عثمان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: "مَن يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟"، فاشتريتها من صلب مالي. رواه مسلم.

ولما رواه البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن احتبس –أي: أوقف- فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات".

أيها المسلمون: إن المقصود بالوقف في شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- هو التقرب إلى الله -تعالى-، ونفع الموقوف عليهم، وهذا يتم في حياة الشخص، وليس بعد مماته، فإن ما يكون بعد مماته هو الوصية، ولا يجوز ولا يملك الشخص أن يوصي بشيء بعد مماته أكثر من ثلث ما يملك، أما إذا أوقفه في حياته فله أن يوقف ما شاء.

في صحيح مسلم أن رجلاً قال يا رسول الله: أي الصدقة أفضل؟ وفي لفظ أعظم أجراً؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان".

اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى…

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو الواحد القهار، وفق من شاء من عباده للتنافس في طرق الخير وسبل البر، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص:68].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار والتابعين الأبرار، ومن تبعهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: الكثير من المسلمين ممن وفقهم الله -تعالى- إلى وقف جزء من أموالهم، يقصرون ذلك على جهات معينة، أو أعمال محدودة، والكثير ينصون في وصاياهم على أن ثلث أموالهم توقف وتصرف في تأدية الحج، وأضحية تذبح عن الموصي، أو حفر بئر، ونحوها، ويقصرون الوقف على ذلك، وهذا فيه خير كثير، والحاجة إليه ماسة.

لكن -مع ذلك- يتعين على الموقف أن يعلم أن ريع وقفه ربما يكون كبيراً، غير أن نص الوصية يفوت عليه وعلى المسلمين الانتفاع بها أكثر، ويمنع ويحول دون تمدد نفعها.

إن الوقف قربة إلى الله -تعالى-، يتواصل ثوابه حتى بعد الممات، وحاجة المسلمين تزداد، ومشاريعهم تتوسع، فينبغي على من أوقف أن يتفطن إلى هذه المعاني؛ رجاء أن يصل نفع وقفه جهات كثيرة.