الأمن الاجتماعي وكيفية تحقيقه

عناصر الخطبة

  1. أهمية الأمن في المجتمع
  2. ثمرات تحقق الأمن الاجتماعي وفوائده
  3. أسس الأمن الاجتماعي في الشريعة الإسلامية
  4. مقومات أمن المجتمع
  5. تحريم الإضرار بأمن المجتمع
  6. وجوب تكاتف الجميع في تحقيق الأمن.
اقتباس

إن صناعةَ الأمن الاجتماعيِّ من الضَّرورات التي لا تقبلُ المُساومَة والمُراجعَة، وهي ليست مسؤوليَّةَ جهةٍ دون جهةٍ، ولا فردٍ دون فردٍ؛ بل هي مسؤوليَّةُ الجميع؛ لتتضافَرَ جهودُ الأفراد والمُؤسَّسات، والعلماء والمُصلِحين، وذوِي الرأي والمكانة، والمُثقَّفين والإعلاميِّين، وأصحابِ الأقلام في الصحافة وشبكَات التواصُل الاجتماعيِّ، خاصَّةً في ظلِّ التحديَّات الداخلية والخارجية التي تمرُّ بها الأمة. لا بُدَّ أن يعرِفَ المُسلِمون صديقَهم من عدوِّهم، وتتكاتَفَ جهودُهم للحفاظِ على أمن المُجتمع في جميع بلادِ المُسلمين، وبالأخصِّ هنا في بلاد الحرمين، أرض النبُوَّة والوحيِ، والأمن والأمان.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله – عباد الله -، واعلَموا أن التقوَى أساسُ كلِّ خيرٍ ومنبَعُ كل فضيلةٍ، والله تعالى لا ينظرُ إلى صورِكم ولا أموالِكم، ولكن ينظُر إلى قلوبِكم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28]. فأصلِحوا قلوبَكم بالتقوى تصلُح لكم أعمالُكم.

أيها المسلمون:

تُعاني البشريَّةُ من موجاتٍ عنيفةٍ من الصِّراعات الفكريَّة والثقافيَّة، والثورات المحمُومة، والحروبِ النفسيَّة والعسكريَّة، التي نتَجَ عنها ألوانٌ من الخوفِ والجُوعِ وسَفكِ الدماءِ، ونقصٍ من الأموال والأنفُس والثمرات.

وتُؤثِّرُ هذه الصِّراعات المُختلفة على كثيرٍ من الناسِ في عقائِدهم وتصوُّراتهم وأخلاقِهم، مما كان سببًا في اختلالاتٍ ظاهرةٍ في الأمن الاجتماعيِّ، الذي أصبحَ تحقيقُه في المُجتمع والحفاظُ عليه يُشكِّلُ الهاجِسَ الأكبرَ في حياةِ الأفرادِ والمُجتمعات اليوم، وتسعَى كلُّ الممالِكِ والأُمم إلى إرسائِه؛ ليعيشَ المُجتمعُ حياةَ الهُدوءِ والاستِقرار والعمل المُنتِج البنَّاء، وليأمَنَ الفردُ على نفسِه وأُسرتِه ومعيشتِه.

إن الأمنَ الاجتماعيَّ غايةٌ من أجلِّ الغاياتِ الشرعيَّة، ومقصَدٌ عظيمٌ من مقاصِد الدين، وهو منَّةٌ إلهيَّةٌ كُبرى يضرِبُ الله به الأمثال، ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ [النحل: 112].

وهو فريضةٌ ربَّانيَّة، وضرورةٌ من ضرُورات العُمران البشريِّ والاستِخلافِ والنُّهوضِ الحضاريِّ، ولذلك قرَنَ الله بين نعمةِ العيشِ ونعمةِ الأمن، وامتنَّ بهما على عبادِه، وجعلَهما من أهمِّ أسبابِ التمكينِ من عبادةِ الله، ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ(4)﴾ [قريش: 3، 4].

أمة الإسلام:

إن شُعور كل فردٍ في الأمة بالطُّمأنينة والسَّكينة في غُدوِّه ورَواحِه، وسفَره وإقامتِه، وتمكُّنه من عبادة ربِّه، وهناءَه بالاستِقرار النفسيِّ والأُسريِّ والمعيشيِّ، فلا خوفٌ ولا فزَع، ولا تفرُّقٌ ولا تناحُرٌ، من أعظمِ نعمِ الله وأجلِّ كرائِمِه، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67].

وقد جعلَ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – الشُّعورَ بالأمن في المُجتمع أحد مُقوِّمات السعادة والقنَاعة؛ حيث قال – عليه الصلاة والسلام -: «من أصبحَ منكم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنِه، عنده قُوتُ يومِه، فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها» (أخرجه الترمذي وابن ماجه).

وهذا كلُّه – يا عباد الله – أثرٌ من آثارِ شُيُوع الأمن الاجتماعيِّ، فينعكِسُ ذلك إيجابًا على الأمة، وتظهرُ بمظهَر العزَّة والقوَّة، بسبب تلاحُم أفرادِها وترابُطهم، وتعايُشهم فيما بينهم بالحبِّ والمودَّة، والتناصُح والتباذُل، والتعاوُن والسَّتر، والصَّفح والعدل والإنصاف والعفو عن المُسيء.

إن أمنَ المُجتمع ضرورةٌ حياتيَّةٌ للعيش الهنِيء الرَّغيد، والسعادة والسُّلوك الحسَن، والتقدُّم والرُّقيِّ، فلذلك توالَت النصوصُ من القرآن والسنَّة في التأكيدِ على الأمن الاجتماعيِّ والحرصِ عليه؛ لينعمَ المُجتمعُ بأسرِه بالهُدوءِ والاستِقرار، ويتمكَّنُ من إقامة شرعِ الله، وتسخيرِ الأرض وعُمرانها في تحقيقِ الخير والصلاحِ.

ولن يحصُل لهم ذلك – يا عباد الله – إلا بالتعاوُن على البرِّ والتقوى، والحذَر من التعاوُن على الإثمِ والعُدوان، وهو أساسٌ عظيمٌ من أُسس بناءِ الأمنِ الاجتماعيِّ، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].

أمة الإسلام:

إن من أجلِّ ما يُبنى عليه أمنُ المُجتمع: أن يقوم على قاعدةٍ راسِخةٍ ثابتةٍ من الأُخوَّة الإيمانيَّة، التي تُؤسِّسُ العلاقات بين أفراد المُجتمع تأسيسًا قويًّا ثابتًا.

فتشيعُ بينهم أواصِرُ المحبَّة والإيثار والتناصُر والتعاوُن، وحبِّ الخير بعضِهم لبعضٍ، وتنتشِرُ بينهم صُورُ الإحسان والبرِّ للوالدَين والأرحام والجيرانِ، والتكافُل الاجتماعيِّ، ورعاية الأيتام والأرامل والمساكين، والسعي في تفريجِ كُربات وحوائِج الناسِ، وقضاءِ دُيونهم، وإنظارِ مُعسِرهم، والسَّتر على مُخطِئهم، وغير ذلك من صُور الإحسانِ والأُخوَّة الإيمانية، التي هي من أعظم مُقوِّمات المُجتمع الآمِن.

كما قال – سبحانه -: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وقال – سبحانه -: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 71].

وقال – عليه الصلاة والسلام -: «أفضلُ المُسلمين إسلامًا: من سلِم المُسلمون من لسانِه ويدِه» (أخرجه الطبراني بسندٍ حسن).

وقال – عليه الصلاة والسلام -: «المؤمنُ من أمِنَه الناسُ على دمائِهم وأموالِهم» (أخرجه أحمد والترمذي).

وقال – عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم، وأحبُّ الأعمالِ إلى الله سُرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، أو تكشِفُ عن كُربَة، أو تقضِي عنه دَينًا، أو تطرُدُ عنه جُوعًا» (أخرجه الطبرانيُّ بسندٍ حسنٍ).

إن الأُخوَّة الإيمانيَّة الصادقة من أهم أُسس فشُوِّ الأمن الاجتماعيِّ، فيشعُرُ كلُّ مُسلمٍ أنه في مُجتمعٍ أفرادُه برَرةٌ رُحماء، مُتعاطِفون مُتحابُّون، هيِّنون ليِّنون، مُشفِقون مُتباذِلُون، يُكرِمون المُحسِن ويُعينُونَه، ويستُرون على المُخطِئ ويرحَمونَه، ولا يُقابِلونَه بالتشهير والتعنيفِ والإقصاء، ولا يُعينُون عليه الشيطان، فهو ما زال أخًا لهم.

فينشأُ من ذلك كلِّه مُجتمعٌ آمنٌ، مُستقرٌّ مُتماسِكٌ قويٌّ، كما قال النبيُّ – صلى الله عليه وآله وسلم – في وصفِ هذا المُجتمع الآمِن: «مثَلُ المُؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسَد» (أخرجه أحمد ومسلم).

وهذا الشُّعور – يا عباد الله – بالاستِقرار والأمن والمُعاملة الحسَنَة لا يختصُّ بالمُسلمين فقط؛ بل هو حقٌّ مكفُولٌ لكلِّ من يعيشُ بينهم من أهل الأديان الأخرى؛ كاليهود والنصارى، والمُعاهَدين والمُستأمَنين. فقد ضمِن لهم الإسلامُ الأمنَ والعيشَ والاستقرارَ، وأن يُعامَلوا بالعدل والإنصافِ والرحمةِ والإحسان، كما قال – سبحانه -: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8].

وقد كان لابن عُمر – رضي الله عنهما – جارٌ يهوديٌّ، فكان أولَ ما يبدأُ بالإطعام والهدايا يبدأُ به، وكان يُوصِي به دائمًا.

وهذه صورةٌ مُشرِقةٌ ناصِعةٌ من محاسِن الإسلام، وحِرصِه على شُيُوع الأمن الاجتماعيِّ لكل أفرادِه ولمن يعيشُ تحت كنَفِه. فأين من يتَّهمُ الإسلام بالإرهاب، ويُحاولُ وصمَ أهله بذلك زُورًا وبُهتانًا؟!

أيها المسلمون:

إن أمنَ المُجتمع لن يتحقَّق ويسُود بين جميعِ شرائِحِه إلا إذا كانت شريعةُ الله هي الحاكمةُ والمُهيمِنة، وكان لها من قُوَّة السُّلطان والدولة ما يجعلُ لها الثَّباتَ والشُّمولَ والهيبَة، فتطمئنُّ النفوسُ وتهدأُ الخواطِرُ، ويشعرُ كلُّ فردٍ أنه آمِنٌ على دينِه ونفسِه وأهلِه، فيعيشُ بحريَّةٍ وكرامةٍ وعزَّة.

ولذلك جاءَت الشريعةُ بحفظِ مكانةِ وهيبةِ الحاكمِ والأميرِ المُسلمِ، وأمرَت بطاعتِه في المعرُوفِ وإجلالِه وإكرامِه، وحرَّمَت عِصيانَه والخروجَ عليه، وإظهارِ عيبِه والتشهير بأخطائِه تشغيبًا وتأليبًا عليه، ورغبةً في زعزعة أمن المُجتمع، وفشُوِّ الفوضَى والاضطِراب، وانفِراط قاعدةٍ من أهمِّ قواعد بناءِ الأمنِ الاجتماعيِّ.

إن المُجتمعَ الآمِن هو الذي يقومُ على طاعة الله وطاعة رسولِه – صلى الله عليه وآله وسلم – وأُولي الأمر، ومن أطاعَ الأميرَ فقد أطاعَ الرسولَ – صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن أطاعَ الرسولَ فقد أطاعَ الله، وإن الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن.

والشريعةُ تحُثُّ وتأمرُ أن تنشَأَ المحبَّةُ والوِئامُ والثِّقةُ بين الرَّاعِي والرعيَّة، والحاكم والمحكُوم، فتعيشُ الأمةُ في أمنٍ وارِفٍ، وظلٍّ ظليلٍ من الاستِقرار والتمكينِ والثَّبات.

أيها المسلمون:

أمرٌ آخرُ في غايةِ الأهمية، له أثرُه البالِغُ في أمنِ المُجتمع، وهو أن يعلَمَ الواحدُ منَّا أنه لا يعيشُ لوحدِه في المُجتمع، ولا يحيَا لذاتِه أو لتحقيقِ مصالِحه الشخصيَّة فقط؛ لأن المُسلمَ الواعِيَ الصادقَ يشعُرُ بصدقٍ أنه مسؤولٌ عن نفسِه وأهلِه ومُجتمعه وأمَّته ووطنه، مسؤولٌ عن الأمن والاستقرار، مسؤولٌ عن كل ما يحفظُ للأمة عقيدتَها وعزَّها ومكانتَها، خاصَّةً في ظلِّ الهجَمات المُتوالِية، والحمَلات الإعلاميَّة المحمُومة من أعداء الأمة، التي تُهاجِمُ عقيدةَ الأمة وثوابتَها، وتُشوِّهُ صورةَ القائِمين عليها في بلادِ الحرمَين وغيرِها من بلادِ المُسلمين.

إن إحساسَ كل فردٍ في الأمة أنه مسؤولٌ مسؤوليَّةً مُباشِرةً عن الحفاظِ على عقيدتِه وكِيانِ أمَّته ووطنِه، يجعلُه عُنصرًا إيجابيًّا نافعًا ومُفيدًا لنفسِه ولمُجتمعه، ومُدرِكًا للأخطار والمكائِد المُحدِقة بدينِه ووطنِه وأمَّته.

ويرتقِي بوعيِه، فلا يغشُّ أمَّتَه ولا يخونُها، ولا يكونُ عينًا وظهيرًا لأعدائِها، وتُكأةً للمُفسِدين والحاقِدين؛ بل يكون مُساهِمًا مُساهمةً فاعلةً في الحفاظِ على أمن المُجتمع، ليرُدَّ عُدوانَ كلِّ مُعتدٍ وكائِدٍ في الداخلِ والخارِجِ.

إن الشُّعورَ بالمسؤوليَّة الفرديَّة والجماعيَّة من أهم أُسس بناءِ مُجتمعٍ آمنٍ مُستقرٍّ واعٍ مُتماسِك، وسوف يُسألُ الناسُ جميعًا عن نعمة الأمن: هل شكَروها وحافظُوا عليها أم لا؟ ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: 8]. قال ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – وقتادةُ: "هو الأمنُ والصحَّة".

وثبتَ في "الصحيحين": عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِه وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأةُ راعيةٌ في بيتِ زوجِها وهي مسؤولةٌ عن رعيَّتها، والخادمُ راعٍ في مالِ سيِّده وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في مالِ أبيه وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته».

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقولُ قولِي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

اللهم لك الحمدُ حتى ترضَى، ولك الحمدُ ملئَ السماوات وملئَ الأرض وملئَ ما بينهما، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على المبعُوث رحمةً وأمنًا وأمانًا للعالمين، وعلى آله وأصحابِه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

وبعد .. أيها المسلمون:

إن من كمال الشريعة: أنها تتشوَّفُ دائمًا إلى تحقيقِ الأمن واستِقرار المُجتمع؛ لما في ذلك من المصالِح الكُبرى والمنافِع العُظمى في الدين والدنيا، ولذلك حرَّمَت الشريعةُ جُملةً من الأعمال المنافية لهذه المصالِح والمُناقِضة لأمن المُجتمع واستِقراره؛ كالظُّلم والبغيِ والخيانة، وعقوق الوالدَين وقطيعة الأرحام، وأكلِ أموالِ الناسِ بالباطلِ بالرِّبا والرِّشوَة، والسرقة والاحتِيال.

كما حرَّمَت الشريعةُ قتلَ النفس بغير حقٍّ، وشُربَ الخمر، والزِّنا، والتبرُّج والسُّفور، والاعتِداء على الناس باللسان والقول من الغِيبة والنَّميمة والسُّخرية والاستِهزاء، والتنابُز بالألقاب، وشهادة الزُّور، والتجسُّس، وتتبُّع العورات، والظُّنون الكاذِبة، وغير ذلك مما يُشيعُ الفاحشةَ في المُجتمع، ويُسبِّبُ شرخًا مُهلِكًا في بناءِ المُجتمع الآمِن ووحدتِه وتماسُكِه.

ومن أعظمِ ما حرصَت عليه الشريعةُ لبناءِ المُجتمع الآمِن: الحَصانةُ والصيانةُ الفكريَّة للأمة من فتنة الشُّبهات والأفكار الضالَّة، وأفكار التطرُّف والغلُوِّ التي تُسبِّبُ العنفَ والقسوةَ والجُنوحَ في التعامُل مع المُجتمع.

وهذا من أخطَر ما تُواجِهُه المُجتمعات الآمِنة، فتُحيلُها إلى مُجتمعاتٍ ثوريَّة فوضويَّة مُتمزِّقة مُتناحِرة مُتقاتِلة، مما يُشكِّلُ أعظمَ مُناقضَةٍ لمقصد الشريعة العظيم: أن تكون الأمةُ جسدًا واحدًا قويًّا مُتماسِكًا.

أمة الإسلام:

إن من أهم وسائل الشريعة في حفظِ الأمن الاجتماعيِّ وبنائِه: نظامَ العُقوبات وإقامةَ الحُدود والتعزيرات، وتمكين القضاء العادِل، وتقوِية الحرَس والجيُوش والشُّرَط، والعنايةَ بذلك، والعملَ بالإجراءات التي تردَعُ الظالِمَ والمُعتدِي، وتأخُذ الحقَّ للمظلُوم والضَّعيف، فيعيشُ المُجتمع آمنًا مُستقرًّا، مكفُولةً حقوقُه، مُحاطًا بسِياجِ العدلِ والرحمةِ والإحسانِ.

هذا وإن من أفخَم أُسس بناءِ مُجتمعٍ آمِن: أن يتعاوَنَ الجميعُ على بناءِ اقتصادٍ قويٍّ مُتنوِّعٍ مُزدهِر، يُشارِكُ في بنائِه كلُّ من له قُدرةٌ وطاقةٌ ومعرفةٌ لتحقيقِ القوَّة الاقتصاديَّة والرُّقيِّ الحضاريِّ، لتكون الأمةُ آمنةً مُطمئنَّةً يأتيها رِزقُها رغدًا من كل مكانٍ، ولتكون مُهابةً مرهوبةَ الجنابِ بين الأُمم.

أيها المُسلمون:

إن صناعةَ الأمن الاجتماعيِّ من الضَّرورات التي لا تقبلُ المُساومَة والمُراجعَة، وهي ليست مسؤوليَّةَ جهةٍ دون جهةٍ، ولا فردٍ دون فردٍ؛ بل هي مسؤوليَّةُ الجميع؛ لتتضافَرَ جهودُ الأفراد والمُؤسَّسات، والعلماء والمُصلِحين، وذوِي الرأي والمكانة، والمُثقَّفين والإعلاميِّين، وأصحابِ الأقلام في الصحافة وشبكَات التواصُل الاجتماعيِّ، خاصَّةً في ظلِّ التحديَّات الداخلية والخارجية التي تمرُّ بها الأمة.

لا بُدَّ أن يعرِفَ المُسلِمون صديقَهم من عدوِّهم، وتتكاتَفَ جهودُهم للحفاظِ على أمن المُجتمع في جميع بلادِ المُسلمين، وبالأخصِّ هنا في بلاد الحرمين، أرض النبُوَّة والوحيِ، والأمن والأمان.

إن الحفاظَ على أمنِ بلاد الحرمَين فريضةٌ واجبةٌ على كل مُسلمٍ ومُسلمةٍ؛ فقد جعلَها الله قيامًا للناسِ، وأمنًا للعالمين، ومهوَى أفئِدة المُسلمين، والحفاظُ عليها وعلى أمنِها تحقيقٌ لدعوة إبراهيم الخليل – عليه وعلى نبيِّنا أفضلُ الصلاة والتسليم -؛ حيث قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: 35].

فلا يجوزُ بأي حالٍ من الأحوال – يا عباد الله – إثارةُ الفوضَى، والتفرُّق والخُصومات، أو الفتُّ في عضُدِ وُلاةِ الأمر القائِمين على أمنِها بكل ما يستطيعُون، ولا يجوزُ الطَّعنُ في عقيدتِها ومناهجِها التي مصدرُها الكتاب والسنَّة، أو تشويه صُورتها بالأكاذِيب والتُّهم الباطلة والدعاوَى المُضلَّة.

لأن قيامَ الأمن – يا عباد الله – في بلاد الحرمين هو في الحقيقةِ أمنٌ للأمة كلِّها، واستِقرارٌ وثباتٌ لمُجتمعاتِ المُسلمين، ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97]، وقال – سبحانه -: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125]، وقال – سبحانه -: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا(97)﴾ [آل عمران: 96، 97].

إن "عاصفةَ الحزم" والتحالُف الإسلاميَّ و"رعد الشمال" أوضَح دليلٍ على الحَزم والعَزم والحَسم في مُواجهة الإرهابِ العالميِّ والإقليميِّ، والتطرُّف والطائفيَّة، وردِّ العُدوان في نحر الكائِدين والحاقِدين، للحفاظِ على أمن بلاد الحرمين وبلاد المُسلمين جميعًا.

ثم صلُّوا وسلِّموا على سيِّد البشرية وهادِيها وسِراجها المُنير، فإن الله – عز وجل – قد أمرَنا بالصلاة والسلام عليه؛ حيث قال في مُحكَم تنزيله: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

وثبتَ عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على عبدِك ورسولِك نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا وقُدوتنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة الراشدين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر أزواجه وذريَّاته الطيبين الطاهرين، وسائر صحابتِه الكرام الأبرار الأطهار، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصُر دينَك، وكتابَك، وسُنَّةَ نبيِّك، وعبادَك الصالِحين.

اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالهم في فلسطين، وفي الشام، وفي العراق، وفي اليمن، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.

اللهم ألِّف بين قلوبِ المُسلمين، اللهم ألِّف بين قلوبِ المُسلمين، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ، وانصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ العباد والبلاد، واجعَلهم مفاتيحَ للخير مغاليقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا وارحمنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ولمن له حقٌّ علينا، اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافِنا واعفُ عنَّا، وارزُقنا واجبُرنا برحمتِك يا أرحم الراحمين.

سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وآله وصحبِه أجمعين.