الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة |
ليس هذا الرجل الذي نريد وإنما نريد الرجل الذي يتمتع بقوة نفسية تحمله على معالي الأمور وتبعده عن سفسافها.. فالرجولة قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه... الرجولة: قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه... الرجولة: قوة تحمل صاحبها على أن يؤدي واجبه نحو ربه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو أهله ودينه وأمته ..
أيها الأحبة: في بيت من بيوت المدينة النبوية جلس عمر رضي الله عنه إلى جماعة من أصحابه، فقال لهم: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق.. ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان. رواه الحاكم في المستدرك، وقال الذهبي صحيح على شرط البخاري ومسلم، وفي رواية فقال رجل: ما أَلوْتَ الإسلام (أي: قصرت عنه) فقال عمر: ذلك الذي أردت. رحم الله عمر رضي الله عنه الملهم لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقيقية، وتنهض به الرسالات الكبيرة وتحيا به الأمم الهامدة..
إن الأمم والرسالات تحتاج في قيامها إلى الإمكانات المادية بكل أنواعها لتقوم بدورها، ولكنها تحتاج قبل ذلك إلى الرجال ذوي النفوس العالية والقلوب الكبيرة والعزائم القوية ليقوموا برعايتها وتوظيفها والقيام بها خير قيام..
أيها الإخوة: الرجل أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين ولذلك كان وجودُه عزيزاً في دنيا الناس حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً". رواه البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قال الشيخ السعدي رحمه الله -معلقاً على هذا الحديث-: "هذا الحديث مشتمل على خبر صادق وإرشاد نافع.. أما الخبر فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن النقص شامل لأكثر الناس، وأن الكاملَ أو المقارب الكمال فيهم قليل، كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ تستكثرها، فإذا أردت منها راحلة تصلح للحمل والركوب والذهاب والإياب لم تكد تجدها.. وهكذا الناسُ كثيرٌ.. فإذا أردت أن تنتخب منهم من يصلح للتعليم أو الفتوى أو الإمامةِ، أو الولاياتِ الكبارِ أو الصغارِ.. أو الوظائفِ المهمة لم تكد تجد من يقوم بتلك الوظيفة قياماً صالحاً.. وهذا هو الواقع فإن الإنسان ظلوم جهول والظلم والجهل سبب للنقائص وهي مانعة من الكمال والتكميل..".
أيها الأحبة: الرجل الكفء الصالح هو حامل الرسالة، وروح النهضة، ومحور الإصلاح... إن القوة ليست بقوة وجَوْدَةِ السلاح بقدر ما هي كامنة في قلب الجندي.. والتربية والتعليم ليستا في الإمكانات المادية بقدر ما هي في روح معلم.. وإنجاز المشروعات ليس في تكوين فرق العمل بقدر ما هو في حماسة القائمين عليها.
أيها الإخوة: لله در أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ما أحكمه حين لم يتمن الإمكانات المادية وإنما تمنى الرجال الأفذاذ الذين تفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.. إن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.
والناسُ ألفٌ منهُمُ كواحدٍ | وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عَنَى |
روى ابن حجر في الإصابة: "أن خالد بن الوليد استمد أبا بكر رضي الله عنهما لما حاصر الحيرة فأمده بالقعقاع بن عمرو.. وقال لا يُهزم جيش فيه مثله.. وقال أبو بكر رضي الله عنه عن القعقاع: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل.. وكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما أي فارس كان أفرس في القادسية: فكتب إليه أني لم أر مثل القعقاع بن عمرو حمل في يوم ثلاثين حملة يقتل في كل حملة بطلاً"...
ولما أبطأ على عمرو بن العاص فتح مصر كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده فأمده عمر بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم رجل وكتب إليه عمر بن الخطاب إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل على كل ألف رجل منهم مقامُ الألف: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد، واعلم أن معك اثني عشر ألف رجل، ولا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة. رواه في كنز العمال.
معاشر الأحبة: من هو الرجل الذي نريد.؟ هل هو كل من طَرَّ شاربه ونبتت لحيته من بني الإنسان هو الرجل الذي نريد..؟ وهل الرجولة ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية فقط..؟ لا..!! فقد قال الله عن طائفة من المنافقين: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون:4] وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ اقْرَءُوا (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف:105]..
إذن: ليس هذا الرجل الذي نريد وإنما نريد الرجل الذي يتمتع بقوة نفسية تحمله على معالي الأمور وتبعده عن سفسافها.. فالرجولة قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره، قوياً في ضعفه... الرجولة: قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه... الرجولة: قوة تحمل صاحبها على أن يؤدي واجبه نحو ربه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو أهله ودينه وأمته...
الرجولة.. بإيجاز هي قوة الخُلُق وخُلُق القوة. الرجولة: بُعْدٌ عن الميوعة.. واعتزازٌ بالشخصية واقتداءٌ بهادي البشرية صلى الله عليه وسلم... الرجولة: تعني الإصلاح لا الإفساد...
الرجولة: تعني تأليف القلوب لا تفريقها.. الرجولة: تعني العمل لا القعود بلا عمل.. الرجولة: تعني التواضع ولين الجانب لا الكبر واحتقار الناس.. الرجولة: تعني الدور الايجابي للرجل في بيته وفي أهله وفي قريته وفي مدينته وفي دولته لا الدور السلبي...
بارك الله لي ولكم بالقرآن...
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: لم يكن يوماً من الأيام ضعفُ البنية وصغرُ السن قادحاً في الرجولة.. فقد روى الخطيب في تاريخ بغداد عن معاوية بن قرة عن أبيه أن بن مسعود رضي الله عنه كان يجني لهم نخلة، فهبت الريح فكشفت عن ساقيه.. قال: فضحكوا من دقة ساقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتضحكون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد".
وكم من غلام في مقتبل العمر، ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه. من ذلك مر عمر رضي الله عنه على ثلة من الصبيان يلعبون فهرولوا، وبقي صبي مفرد في مكانه، هو عبد الله بن الزبير، فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال الطفل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه الذي تلمع فيه حياة الرجولة: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك!
وروي في كتب السير: أن وفداً من المهنئين لعمر بن عبدالعزيز بالخلافة من أهل الحجاز غلام صغير وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبِهِ ولسانِه، فإذا منح اللهُ العبدَ لساناً لافظاً وقلباً حافظاً، فقد استجاد له الحلية (استحق أن يتكلم) يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك (أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سناً) فقال عمر: تحدث يا غلام، فتحدث وأجاد فأعجب به وشجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه وجراءة، فقال له: عظنا يا غلام وأوجز، فوعظه، فأنشأ عمر رحمه الله يقول:
تَعَلّم فليس المرء يولد عالماً | وليس أخو علم كمن هو جاهل |
وإن كبير القوم لا علم عنده | صغير إذا التفّتْ عليه المحافل |
أيها الإخوة ذكر الشيخ السعدي رحمه الله: وهو يشرح قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً" هذا الحديث مشتمل على خبر صادق وإرشاد نافع.. ذكرت الخبر أول الخطبة، أما الإرشاد النافع فقال: فإن مضمون هذا الخبر إرشاد منه صلى الله عليه وسلم إلى أنه ينبغي لمجموع الأمة أن يسعوا ويجتهدوا في تأهيل الرجال الذين يَصْلُحُون للقيام بالمهمات، والأمور الكلية العامة النفع.. إلى أن قال: فالوظائف الدينية والدنيوية، والأعمال الكلية لا بد للناس منها ولا تتم مصلحتهم إلا بها وهي لا تتم إلا بأن يتولاها الأكفاء والأمناء وذلك يستدعي السعي في تحصيل هذه الأوصاف بحسب الاستطاعة....اهـ.
أيها الإخوة: ومما ينمّي الرجولة عند الصغار: إحضارهم لمجالس الرجال العامة، وتعليمهم الأدب واحترام الكبار.. واحترام الصغار وتقديرهم إذا حضروا إلى مجالس الرجال وعدم إخراجهم منها.. أو إهانتهم أمام الناس وكسر شخصياتهم.. وأن يكون توجيههم برفق واحترام.. وحثهم على مطالعة سير السابقين والحاضرين ممن يقتدى بهم.. ومنها تعليمهم الجرأة مثل: أن يكون عند الصغير الجرأة على الأذان والإمامة والحديث أمام الآخرين... ومنها تعويدهم على الحشمة في ملابسهم وتجنيبهم كل ما يكون سبباً في الميوعة، وعدم تعويدهم على الترف والبذخ والكسل.. وحثهم وأمرهم بصلاة الجمعة والجماعة مع المسلمين... وإلقاء السّلام عليهم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِم. رواه مسلم.
وكذلك استشارتهم وأخذ رأيهم، أيضاً توليتهم مسئوليات تناسب سنّهم وقدراتهم وكذلك استكتامهم الأسرار.. من ذلك حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا وبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّه لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ.؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ.! قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا. رواه مسلم.