الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
ما يفرضه السلطان على الناس بحقٍ؛ لتجهيز الجيش، وتهيئة المرافق، وفداء الأسرى . ومن شواهده قولهم : "وَأَمَّا النَّوَائِبُ، فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُرِيدَ بِهِ مَا يَكُونُ بِحَقٍّ؛ كَأُجْرَةِ الْحُرَّاسِ، وَكَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَالْمَالِ الْمُوَظَّفِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ، وَفِدَاءِ الْأَسَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أُرِيدَ بِهِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ الَّتِي يَأْخُذُهَا الظَّلَمَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ ".
جَمْعُ نَائِبَةٍ، وَهِي النَّازِلَةُ وَالمُصِيبَةُ وَكُلُّ مَا يَنُوبُ الإِنْسَانَ، أَيْ: يَنْزِلُ بِهِ مِنَ المُهِمَّاتِ وَالحَوَادِثِ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، تَقُولُ: نابَتْهُمْ نَوَائِبُ الدَّهْرِ أَيْ نَزَلَتْ بِهِمْ، والنَّوْبُ: نُزُولُ الأَمْرِ، يُقَالُ: نابَ الأَمْرُ نَوْبًا ونَوْبَةً أي نَزَلَ، وَيَأْتِي النَّوْبُ بِمْعَنْىَ: القِيَامُ مَقَامَ غَيْرِه، يُقَالُ: نَابَ الشَّيْءُ نَوْبًا ومَنَابًا قَامَ مَقَامَهُ، وَأَصْلُ النَّوْبِ: الرُّجُوعُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَنَابَ إِلى اللَّهِ إِنَابَةً رجَعَ إِلى الطّاعَة فَهُوَ مُنِيبٌ، وَسُمِّيَتْ المَصَائِبُ وَالحَوَادِثُ نَوَائِبُ؛ لِعَوْدِهَا وَرُجُوعِهَا.
يَرِدُ لَفْظُ (النَّوَائِبِ) أَيْضًا فِي مَوَاطِنَ أُخْرَى مِنْ كُتُبِ الحَنَفِيَّةِ كَكِتَابِ البُيُوعِ فِي بَابِ الشُّرُوِط فِي البَيْعِ، وَكِتَابِ الوَقْفِ فِي بَابِ أَحْكَامِ الوَقْفِ، وَكِتَابِ الكَفَالَةِ فِي بَابِ أَرْكَانِ الكَفَالَةِ، وَكِتَابِ الضّمَانِ فِي بَابِ ضَمَانِ الأَمْوالِ، وَغَيْرِهَا. وَيُسْتَعْمَلُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي بَابِ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَكِتَابِ الجِهَادِ فِي بَابِ قِسْمَةِ الغَنَائِمِ، وَغَيْرِهِ، بِمَعْنَى: (مَا يَنْزِلُ بِالنَّاسِ مِنْ مَصَائِبَ وَمَضَرَّاتٍ كَالقَحْطِ وَالزَّلاَزِلِ وَنَحْوِهَا).
نوب
ما ينزل بالإنسان من المصائب الشديدة، والكوارث، والحوادث المؤلمة.
* لسان العرب : 1 /774 - تاج العروس : 4 /317 - العناية شرح الهداية : 7 / 222 - درر الحكام شرح غرر الأحكام : 2 / 301 - كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم : 2 /1679 - لسان العرب : 1 /774 - درر الحكام شرح غرر الأحكام : 2 / 301 - الـمجموع شرح الـمهذب : 19 /379 - الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) : 5 /332 -
التَّعْرِيفُ:
1 - النَّوَائِبُ فِي اللُّغَةِ: جَمْعُ نَائِبَةٍ، وَهِيَ مِنْ فِعْل نَابَ، يُقَال: نَابَ الأَْمْرُ نَوْبًا وَنَوْبَةً: نَزَل.
وَالنَّوَائِبُ: هِيَ مَا يَنُوبُ الإِْنْسَانَ، أَيْ يَنْزِل بِهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ وَالْحَوَادِثِ.
وَالنَّائِبَةُ: النَّازِلَةُ.
وَالنَّائِبَةُ: الْمُصِيبَةُ، وَاحِدَةُ نَوَائِبِ الدَّهْرِ.
وَنَابَ عَنِّي فُلاَنٌ أَيْ: قَامَ مَقَامِي.
وَنَاوَبْتُهُ مُنَاوَبَةً بِمَعْنَى: سَاهَمْتُهُ مُسَاهَمَةً، وَالنَّوْبَةُ اسْمٌ مِنْهُ، وَالْجَمْعُ نُوَبٌ، مِثْل قَرْيَةٍ وَقُرًى.
وَتَنَاوَبُوا عَلَيْهِ: تَدَاوَلُوهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، يَفْعَلُهُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً.
وَأَنَابَ زَيْدٌ إِلَى اللَّهِ إِنَابَةً: رَجَعَ (1) .
وَأَمَّا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالُوا: إِنَّ النَّوَائِبَ قَدْ يُرَادُ بِهَا مَا يَكُونُ بِحَقٍّ، مِثْل مَا يُوَظِّفُهُ الإِْمَامُ عَلَى النَّاسِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الأُْسَارَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال مَالٌ، وَمِثْل ذَلِكَ كُرْيُ الأَْنْهَارِ الْمُشْتَرَكَةِ لِلْعَامَّةِ وَأُجْرَةُ الْحَارِسِ لِلْمَحَلَّةِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، كَالْجِبَايَاتِ الَّتِي تُفْرَضُ ظُلْمًا عَلَى النَّاسِ (2) .
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّوَائِبِ:
أ - حُكْمُ فَرْضِ النَّوَائِبِ:
2 - النَّوَائِبُ بِمَعْنَى: مَا يُفْرَضُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَمْوَالٍ، قَدْ يَكُونُ فَرْضُهَا وَاجِبًا، وَقَدْ يَكُونُ جَائِزًا، وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
3 - يَكُونُ فَرْضُ النَّوَائِبِ وَاجِبًا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلأُْمَّةِ وَتَحْتَاجُ إِلَى مَالٍ، وَلاَ يُوجَدُ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَكْفِي لِتَحْقِيقِ الْمَصْلَحَةِ، كَأَنْ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ، وَفِدَاءِ الأُْسَارَى، فَلِلإِْمَامِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ شَيْئًا مِنَ الْمَال.
جَاءَ فِي تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ: وَكُرِهَ الْجُعْل إِنْ وُجِدَ فَيْءٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَضْرِبَ الإِْمَامُ الْجُعْل عَلَى النَّاسِ لِلَّذِينِ يَخْرُجُونَ إِلَى الْجِهَادِ؛ لأَِنَّهُ يُشْبِهُ الأَْجْرَ عَلَى الطَّاعَةِ، فَحَقِيقَتُهُ حَرَامٌ، فَيُكْرَهُ مَا أَشْبَهَهُ؛ وَلأَِنَّ مَال بَيْتِ الْمَال مُعَدٌّ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ جُمْلَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَال فَيْءٌ لاَ يُكْرَهُ؛ لأَِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الْجِهَادِ مَاسَّةٌ، وَفِيهِ تَحَمُّل الضَّرَرِ الأَْدْنَى لِدَفْعِ الأَْعْلَى، وَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِغَيْرِ رِضَاهُ (3) وَعُمَرُ - ﵁ - كَانَ يَغْزِي الْعَزْبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ، وَقِيل: يُكْرَهُ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَالصَّحِيحُ الأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ، وَجِهَادٌ مِنَ الْبَعْضِ بِالْمَال وَمِنَ الْبَعْضِ بِالنَّفْسِ، وَأَحْوَال النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ وَالْمَال، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ بِأَحَدِهِمَا، وَكُل ذَلِكَ وَاجِبٌ (4) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (5) } وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيل اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ (6) } وَقَال تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى (7) } وَقَال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا (8) .
وَيَقُول الشَّاطِبِيُّ: إِنَّا إِذَا قَرَّرْنَا إِمَامًا مُطَاعًا مُفْتَقِرًا إِلَى تَكْثِيرِ الْجُنْدِ لِسَدِّ حَاجَةِ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ الْمُتَّسِعِ الأَْقْطَارِ، وَخَلاَ بَيْتُ الْمَال، وَارْتَفَعَتْ حَاجَاتُ الْجُنْدِ إِلَى مَا لاَ يَكْفِيهِمْ فَلِلإِْمَامِ إِذَا كَانَ عَدْلاً أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى الأَْغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الْمَال، إِلَى أَنْ يَظْهَرَ مَال بَيْتِ الْمَال، ثُمَّ إِلَى الإِْمَامِ النَّظَرُ فِي تَوْظِيفِ ذَلِكَ عَلَى الْغَلاَّتِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَل مِثْل هَذَا عَنِ الأَْوَّلِينَ فِي الْعُصُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الأُْولَى لاِتِّسَاعِ بَيْتِ الْمَال فِي زَمَانِهِمْ بِخِلاَفِ زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ فِيهَا وُجُوهٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ هُنَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَل الإِْمَامُ ذَلِكَ بَطَلَتْ شَوْكَةُ الإِْمَامِ، وَصَارَتْ دِيَارُهُ عُرْضَةً لاِسْتِيلاَءِ الْكُفَّارِ، وَإِنَّمَا نِظَامُ ذَلِكَ كُلُّهُ شَوْكَةُ الإِْمَامِ، فَالَّذِينَ يُحَذِّرُونَ مِنَ الدَّوَاعِي لَوْ تَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الشَّوْكَةُ - أَيْ لَوْ ضَعُفَ الْجَيْشُ عَنِ الدِّفَاعِ - يَسْتَحْقِرُونَ بِالإِْضَافَةِ إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، فَضْلاً عَنِ الْيَسِيرِ مِنْهَا، فَإِذَا عُورِضَ هَذَا الضَّرَرُ الْعَظِيمُ بِالضَّرَرِ اللاَّحِقِ بِهِمْ بِأَخْذِ الْبَعْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلاَ يَتَسَاوَى فِي تَرْجِيحِ الثَّانِي عَنِ الأَْوَّل، وَهُوَ مَا يُعْلَمُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ قَبْل النَّظَرِ فِي الشَّوَاهِدِ (9) .
وَيَقُول الْمَاوَرْدِيُّ وَأَبُو يَعْلَى: مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَى بَيْتِ الْمَال عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالإِْرْفَاقِ دُونَ الْبَدَل، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي بَيْتِ الْمَال وَجَبَ فِيهِ وَسَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَال، وَكَانَ إِنْ عَمَّ ضَرَرُهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَقُومَ بِهِ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ، وَذَلِكَ كَالْجِهَادِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لاَ يَعُمُّ ضَرَرُهُ كَوُعُورِ طَرِيقٍ قَرِيبٍ، يَجِدُ النَّاسُ طَرِيقًا غَيْرَهُ بَعِيدًا، أَوِ انْقِطَاعِ شَرْبٍ يَجِدُ النَّاسُ شَرْبًا غَيْرَهُ، فَإِذَا سَقَطَ وَجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَال بِالْعَدَمِ سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنِ الْكَافَّةِ لِوُجُودِ الْبَدَل (10) .
4 - وَأَمَّا الْجَائِزُ مِنَ النَّوَائِبِ فَهُوَ مِثْل مَا يَأْخُذُهُ الْجُنْدُ عَلَى خِفَارَةِ الْحَجِيجِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ كُل يَدٍ عَادِيَةٍ، قَال الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْوَلِيدِ: هِيَ مِنْ وَجْهٍ تُشْبِهُ سَائِرَ النَّفَقَاتِ اللاَّزِمَةِ؛ لأَِنَّ أَخْذَهَا لِلْجُنْدِ جَائِزٌ، إِذْ لاَ يَلْزَمُهُمُ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ، فَهِيَ أُجْرَةٌ يَصْرِفُونَهَا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلاَحِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهٍ تُشْبِهُ الظُّلْمَ؛ لأَِنَّ أَصْل تَوْظِيفِهَا خَوْفُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَنَقَل ذَلِكَ ابْنُ جُمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ فِي مَنْسِكِهِ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ: وَقَدِ اتَّفَقَ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِهِمْ مَنْ يَخْفِرُهُمْ مِنَ الأَْعْرَابِ وَاللُّصُوصِ مَعَ تَجْوِيزِ الْغَرَرِ (11) .
وَنَقَل الدُّسُوقِيُّ عَنِ الْمِعْيَارِ أَنَّهُ سُئِل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدُوسِيُّ عَمَّنْ يَحْرُسُ النَّاسَ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخِيفَةِ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَالاً؟ فَأَجَابَ: ذَلِكَ جَائِزٌ بِشُرُوطٍ: أَنْ يَكُونَ لَهُ جَاهٌ قَوِيٌّ بِحَيْثُ لاَ يُتَجَاسَرُ عَلَيْهِ عَادَةً، وَأَنْ يَكُونَ مَسِيرُهُ مَعَهُمْ بِقَصْدِ تَجْوِيزِهِمْ فَقَطْ لاَ لِحَاجَةٍ لَهُ، وَأَنْ يَدْخُل مَعَهُمْ عَلَى أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ يَدْخُل عَلَى الْمُسَامَحَةِ، بِحَيْثُ يَرْضَى بِمَا يَدْفَعُونَهُ لَهُ (12) .
وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الْخِفَارَةُ تَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الدَّفْعِ عَنِ الْمُخْفَرِ، وَلاَ تَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا كَمَا يَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنَ الرَّعَايَا (13) .
5 - وَأَمَّا مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّوَائِبِ فَمِثْل مَا يُفْرَضُ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا دُونَ وَجْهِ حَقٍّ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِنْ سُلْطَانٍ أَمْ غَيْرِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْجِبَايَاتُ الْمُوَظَّفَةُ عَلَى النَّاسِ فِي زَمَانِنَا بِبِلاَدِ فَارِسَ عَلَى الْخَيَّاطِ وَالصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِمْ لِلسُّلْطَانِ فِي كُل يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ فَإِنَّهَا ظُلْمٌ (14) .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ وَالرَّصَدِيُّ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا وَهُمْ يَتَرَصَّدُونَ النَّاسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ (15) .
ب - حُكْمُ أَدَاءِ مَا فُرِضَ عَلَى النَّاسِ بِسَبَبِ النَّوَائِبِ:
6 - مَا فُرِضَ عَلَى النَّاسِ مِنْ هَذِهِ النَّوَائِبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ:
فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ، كَالأَْمْوَال الَّتِي يَفْرِضُهَا الإِْمَامُ عَلَى النَّاسِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ أَوْ فِدَاءِ الأُْسَارَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَال شَيْءٌ، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِمْتِنَاعُ عَنْ أَدَائِهِ، بَل هُوَ وَاجِبُ الأَْدَاءِ؛ لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ نَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الْغَنِيَّةِ: قَال أَبُو جَعْفَرٍ الْبَلْخِيُّ: مَا يَضْرِبُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَصْلَحَةً لَهُمْ يَصِيرُ دَيْنًا وَاجِبَ الأَْدَاءِ وَحَقًّا مُسْتَحِقًّا كَالْخَرَاجِ، وَقَال مَشَايِخُنَا: وَكُل مَا يَضْرِبُهُ الإِْمَامُ عَلَى النَّاسِ لِمَصْلَحَةٍ لَهُمْ فَالْجَوَابُ هَكَذَا، حَتَّى أُجْرَةُ الْحُرَّاسِ لِحِفْظِ الطَّرِيقِ وَنَصْبِ الدُّرُوبِ وَأَبْوَابِ السِّكَكِ، ثُمَّ قَال: فَعَلَى هَذَا مَا يُؤْخَذُ فِي خَوَارِزْمَ مِنَ الْعَامَّةِ لإِِصْلاَحِ مُسَنَّاةِ الْجَيْحُونِ أَوِ الرَّبَضِ وَنَحْوِهِ مِنْ مَصَالِحِ الْعَامَّةِ هُوَ دَيْنٌ وَاجِبُ الأَْدَاءِ، لاَ يَجُوزُ الاِمْتِنَاعُ عَنْهُ وَلَيْسَ بِظُلْمٍ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَال مَا يَكْفِي لِذَلِكَ (16) .
أَمَّا الْجَائِزُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مَا يُدْفَعُ كَأُجْرَةٍ لِمَنْ يَحْرُسُ الْمُسَافِرِينَ لِحَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِذَا كَانَ مَا يَأْخُذُونَهُ هُوَ الْمُعْتَادَ، لاَ مَا كَانَ كَثِيرًا يُجْحِفُ بِصَاحِبِهِ، فَهَذَا يَجُوزُ دَفْعُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ (17) .
وَأَمَّا مَا يُفْرَضُ عَلَى النَّاسِ ظُلْمًا فَلاَ يَجِبُ دَفْعُهُ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَل، يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ إِعْطَاءَ النَّوَائِبِ الَّتِي بِغَيْرِ حَقٍّ يُعْتَبَرُ إِعَانَةً لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّوَائِبِ فِي زَمَانِنَا بِطَرِيقِ الظُّلْمِ، فَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ؛ وَلأَِنَّ مَا حَرُمَ أَخْذُهُ حَرُمَ إِعْطَاؤُهُ إِلاَّ لِضَرُورَةٍ، فَإِذَا كَانَ الظَّالِمُ لاَ بُدَّ مِنْ أَخْذِهِ الْمَال عَلَى كُل حَالٍ فَلاَ يَكُونُ الْعَاجِزُ عَنِ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ آثِمًا بِالإِْعْطَاءِ، بِخِلاَفِ الْقَادِرِ فَإِنَّهُ بِإِعْطَائِهِ مَا يَحْرُمُ أَخْذُهُ يَكُونُ مُعِينًا عَلَى الظُّلْمِ بِاخْتِيَارِهِ (18) .
وَفِي فَتَاوَى الشَّيْخِ عُلَيْشٍ سُئِل الدَّاوُدِيُّ فَقِيل لَهُ: هَل تَرَى لِمَنْ قَدِرَ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ دَفْعِ هَذَا الَّذِي يُسَمَّى بِالْخَرَاجِ إِلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَفْعَل؟ قَال: نَعَمْ يَحِل لَهُ ذَلِكَ، قِيل لَهُ: فَإِنْ وَظَّفَهُ السُّلْطَانُ عَلَى أَهْل بَلَدٍ وَأَخَذَهُمْ بِمَالٍ مَعْلُومٍ يُؤَدُّونَهُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، هَل لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْخَلاَصِ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَل، وَهُوَ إِذَا خَلَصَ أُخِذَ سَائِرُ أَهْل بَلَدِهِ بِتَمَامِ مَا جُعِل عَلَيْهِمْ؟ قَال: ذَلِكَ لَهُ (19) لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا السَّبِيل عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ (20) } .
وَلَوْ جَاءَتْ مَغْرَمَةٌ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَقَدَرَ أَحَدُهُمْ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، لَكِنَّ حِصَّتَهُ تُؤْخَذُ مِنْ بَاقِيهِمْ، فَهَل لَهُ ذَلِكَ؟ قَال الدَّاوُدِيُّ: لَهُ ذَلِكَ، وَقَال الشَّيْخَانِ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَقَال ابْنُ الْمُنِيرِ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَعَزَاهُ فِي الْمَوَّاقِ لِسُحْنُونٍ.
فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ حِصَّتَهُ لاَ تُؤْخَذُ مِنْ بَاقِيهِمْ كَانَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ قَوْلاً وَاحِدًا، وَعَمِل فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ مِنَ الْمُرَكَّبِ بِتَوْزِيعِهِ عَلَى الْجَمِيعِ؛ لأَِنَّهُمْ نَجَوْا بِهِ (21) .
ج ـ - الْكَفَالَةُ بِالنَّوَائِبِ:
7 - النَّائِبَةُ بِمَعْنَى: مَا يُفْرَضُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِنْ أَمْوَالٍ إِنْ كَانَتْ بِحَقٍّ كَالَّذِي يَفْرِضُهُ الإِْمَامُ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، فَهَذِهِ يَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ؛ لأَِنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى كُل مُسْلِمٍ مُوسِرٍ بِإِيجَابِ طَاعَةِ وَلِيِّ الأَْمْرِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَلْزَمْ بَيْتُ الْمَال، أَوْ لَزِمَهُ وَلاَ شَيْءَ فِيهِ (22) . أَمَّا مَا يُفْرَضُ ظُلْمًا عَلَى النَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْكَفَالَةِ بِذَلِكَ، قَال بَعْضُهُمْ: لاَ يَصِحُّ الضَّمَانُ بِهَا؛ لأَِنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ لاِلْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الأَْصِيل شَرْعًا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ هَاهُنَا شَرْعًا، وَقَال بَعْضُهُمْ: يَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا، وَمِمَّنْ يَمِيل إِلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ فَخْرُ الإِْسْلاَمِ الْبَزْدَوِيُّ، قَال: وَأَمَّا النَّوَائِبُ فَهِيَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنْ حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنُوبُهُ، فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا؛ لأَِنَّهَا دُيُونٌ فِي حُكْمٍ تُوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا، وَالْعِبْرَةُ فِي الْكَفَالَةِ لِلْمُطَالَبَةِ لأَِنَّهَا شُرِعَتْ لاِلْتِزَامِهَا (23) .
هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَقَوَاعِدُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى لاَ تَأْبَى هَذَا إِنْ كَانَ بِحَقٍّ.
فَقَدْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: يَصِحُّ الضَّمَانُ بِدَيْنٍ لاَزِمٍ أَوْ آيِلٍ إِلَى اللُّزُومِ (24) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَشْتَرِكُ فِي الْمَضْمُونِ كَوْنُهُ حَقًّا ثَابِتًا حَال الْعَقْدِ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ، سَوَاءٌ أَجْرَى سَبَبَ وُجُوبِهِ أَمْ لاَ؛ لأَِنَّ الضَّمَانَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ فَلاَ يَسْبِقُهُ كَالشَّهَادَةِ، وَصَحَّحَ فِي الْقَدِيمِ ضَمَانَ مَا سَيَجِبُ لأَِنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَيْهِ. كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَضْمُونِ كَوْنُهُ مَعْلُومًا جِنْسًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَعَيْنًا فِي الْجَدِيدِ؛ لأَِنَّهُ إِثْبَاتُ مَالٍ فِي الذِّمَّةِ لآِدَمِيٍّ بِعَقْدٍ، فَلاَ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُول، وَلاَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ.
وَصَحَّحَهُ فِي الْقَدِيمِ بِشَرْطِ أَنْ تَتَأَتَّى الإِْحَاطَةُ بِهِ، لأَِنَّ مَعْرِفَتَهُ مُتَيَسِّرَةٌ (25) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْمَجْهُول، وَضَمَانُ كُل حَقٍّ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ، أَوِ الَّتِي تَؤُول إِلَى الْوُجُوبِ (26) .
(ر: كَفَالَةُ ف 23) .
د - التَّعَاوُنُ عَلَى أَدَاءِ النَّوَائِبِ:
8 - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ قَامَ بِتَوْزِيعِ هَذِهِ النَّوَائِبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْقِسْطِ وَالْعَدَالَةِ كَانَ مَأْجُورًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَال بَاطِلاً (27) .
وَجَاءَ فِي فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ: سُئِل أَبُو مُحَمَّدٍ عَمَّنْ رَمَى عَلَيْهِمُ السُّلْطَانُ مَالاً، فَيَتَعَاوَنُ النَّاسُ فِي جَمْعِهِ عَلَى وَجْهِ الإِْنْصَافِ، فَقَال: نَعَمْ هَذَا مِمَّا يُصْلِحُهُمْ إِذَا خَافُوا وَهَذِهِ ضَرُورَةٌ.
وَسُئِل أَبُو عِمْرَانَ قِيل لَهُ: رَجُلٌ يَكُونُ فِي قَوْمٍ تَحْتَ سُلْطَانٍ غَالِبٍ يَرْسُمُ عَلَيْهِمُ الْغُرْمَ، وَيَكُونُ فِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ مَقَامٌ لاَ يُؤَدِّي مَعَهُمْ، فَقَال: الصَّوَابُ أَنْ يُؤَدِّيَ مَعَهُمْ وَيُعِينَهُمْ إِذَا كَانُوا إِنَّمَا يُؤَدُّونَ مَخَافَةَ مَا يَنْزِل بِهِمْ، قَال: وَلاَ يَبْلُغُ بِهِمْ مَبْلَغَ الإِْثْمِ إِنْ تَرَكَ ذَلِكَ وَعُوفِيَ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَل (28) .
وَسُئِل أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ عَنِ الْعَامِل إِذَا رَمَى عَلَى قَوْمٍ دَنَانِيرَ، وَهُمْ أَهْل قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَال لَهُمُ: ائْتُونِي بِكَذَا وَكَذَا دِينَارًا وَلَمْ يُوَزِّعْهَا عَلَيْهِمْ، فَهَل لَهُمْ سَعَةٌ فِي تَوْزِيعِهَا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ لاَ يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا؟ وَهَل يُوَزِّعُونَهَا عَلَى قَدْرِ الأَْمْوَال أَوْ عَدَدِ الرُّءُوسِ؟ وَهَل لِمَنْ أَرَادَ الْهُرُوبَ حِينَئِذٍ وَيَرْجِعُ بَعْدَ ذَلِكَ سَعَةٌ، وَيَعْلَمُ أَنَّ حَمْلَهُ يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ؟ وَهَل لَهُ سُؤَال الْعَامِل فِي تَرْكِهِ أَمْ لاَ؟ وَهَل يَقُولُونَ لِلْعَامِل: اجْعَل لَنَا مِنْ قِبَلِكَ مَنْ يُوَزِّعُهَا، وَإِنْ فَعَلُوا خَافُوا أَيْضًا أَنْ يَطْلُبَهُمْ؟ وَهَل تَرَى الشِّرَاءَ لِشَيْءٍ مِنْ هَؤُلاَءِ لِشَيْءٍ يَبِيعُونَهُ مِنْ أَجْل مَا رَمَى عَلَيْهِمْ أَوْ يَتَسَلَّفُونَهُ وَهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَعْوَانٌ، إِلاَّ أَنَّهُمْ إِنْ أَبْطَئُوا بِالْمَال أَتَتْهُمُ الأَْعْوَانُ؟ فَقَال: إِنْ أَجْمَعُوا عَلَى تَوْزِيعِهِ بِرِضًى مِنْهُمْ وَلَيْسَ فِيهِمْ طِفْلٌ وَلاَ مَوْلًى عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا فَلاَ يَتَكَلَّفُ السَّائِل مِنْ هَذَا شَيْئًا، وَلْيُؤَدِّ مَا جُعِل عَلَيْهِ، وَتَوْزِيعُهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَا جَعَلَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهِمْ إِمَّا عَلَى الأَْمْوَال أَوِ الرُّءُوسِ، وَمَنْ هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ، وَأَمَّا تَسَبُّبُهُ فِي سَلاَمَتِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ عِنْدِي إِلاَّ أَنْ يَسْأَل أَنْ يُعَافَى مِنَ الْمَغْرَمِ قَبْل أَنْ يَنْفُذَ فِيهِ الأَْمْرُ.
وَأَمَّا بَيْعُ هَؤُلاَءِ لِعُرُوضِهِمْ: فَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَخَذُوا بِذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ قَبْل الأَْخْذِ بِذَلِكَ فَلاَ بَأْسَ بِالشِّرَاءِ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ، وَمَا تَسَلَّفُوهُ فِي حَال الضَّغْطَةِ فَلِمَنْ أَسْلَفَهُمُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ اخْتِلاَفٌ وَهَذَا اخْتِيَارُهُ. قَال الْبَرْزَلِيُّ: وَهَذَا وَاضِحٌ إِنْ تَعَرَّضَ السُّلْطَانُ فَجَعَلَهَا عَلَى الرُّءُوسِ أَوِ الأَْمْوَال (29) .
وَقَال ابْنُ تَيْمِيَةَ: لَوْ وُضِعَتْ مَظْلَمَةٌ عَلَى أَهْل قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ، فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِْمْكَانِ وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ وَلاَ لِغَيْرِهِ وَلاَ ارْتِشَاءٍ، بَل تَوَكَّل لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالإِْعْطَاءِ كَانَ مُحْسِنًا (30) .
هـ - رُجُوعُ مُؤَدِّي النَّوَائِبِ عَلَى مَنْ أَدَّى عَنْهُ: 9 - لَوْ أَدَّى أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الَّذِينَ فُرِضَتْ عَلَيْهِمُ الأَْمْوَال، فَهَل لَهُ الْحَقُّ فِي أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَدَّى أَمْ يُعْتَبَرُ مُتَبَرِّعًا؟
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ مَنْ قَضَى نَائِبَةَ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ.
قَال شَمْسُ الأَْئِمَّةِ: هَذَا إِذَا أَمَرَهُ بِهِ لاَ عَنْ إِكْرَاهٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُكْرَهًا فِي الأَْمْرِ فَلاَ يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الرُّجُوعِ.
وَقَالُوا: لَوْ أَخَذَتِ النَّوَائِبُ مِنَ الأَْكَّارِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَالِكِ الأَْرْضِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ قَال لِرَجُلٍ: خَلِّصْنِي مِنْ مُصَادَرَةِ الْوَالِي، أَوْ قَال الأَْسِيرُ ذَلِكَ، فَخَلَّصَهُ رَجَعَ بِلاَ شَرْطٍ عَلَى الصَّحِيحِ (31) .
وَقَال الشَّيْخُ عُلَيْشٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: سُئِل سُحْنُونٌ عَنْ رُفْقَةٍ مِنْ بِلاَدِ السُّودَانِ يُؤْخَذُونَ بِمَالٍ فِي الطَّرِيقِ لاَ يَنْفَكُّونَ عَنْهُ، فَتُوَلَّى دَفْعَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَاقِينَ بِمَا يَخُصُّهُمْ، فَهَل لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَال: نَعَمْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ الْخَلاَصَ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَهِيَ ضَرُورَةٌ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، وَأَرَاهُ جَائِزًا، قَال الْبَرْزَلِيُّ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فَدَى مَالاً مِنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ، وَالصَّحِيحُ لُزُومُهُمْ ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَتَخَلَّصُوا إِلاَّ هَكَذَا، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ أَمْوَالِهِمْ، كَالْخِفَارَةِ عَلَى الزَّرْعِ وَالْغَلاَّتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّبِيبِيُّ أَنَّهُ عَلَى عَدَدِ الأَْحْمَال لاَ عَلَى قِيمَتِهَا، وَيُعَلِّل ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى كَشْفِ أَحْوَال النَّاسِ وَيُخَافُ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ غَالٍ مِنْ إِجَاحَتِهِ، أَيْ إِجَاحَتِهِ فِي الطَّرِيقِ، قَال الْبَرْزَلِيُّ: وَقَدِ اخْتَرْتُهُ أَنَا حِينَ قَفَلْنَا مِنَ الْحَجِّ بِبِلاَدِ بَرْقَةَ ضَرَبْنَا الْخِفَارَة مَرَّةً عَلَى عَدَدِ الأَْحْمَال وَمَرَّةً عَلَى عَدَدِ الإِْبِل؛ لأَِنَّهُ كَانَ خَلَطَ عَلَيْنَا أَعْرَابٌ إِفْرِيقِيَّةٌ، فَعَمِلْنَا عَلَى عَدَدِ الإِْبِل خَاصَّةً لَمَّا خِفْتُ عَلَى مَنْ بِيَدِهِ شَيْءٌ غَالٍ فِي الرُّفْقَةِ أَنْ يُسْرَقَ لَهُ أَوْ يُجَاحَ قَصْدًا، وَإِنَّهُ لَحَسَنٌ مِنَ الْفَتْوَى إِذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَلِيلاً، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا جِدًّا فَيَتَرَجَّحُ فِيهِ اعْتِبَارُ الأَْمْوَال، وَالأَْوْلَى أَنْ يَصْطَلِحُوا عَلَى مَا يَحْسُنُ يُزَادُ بَعْضُ شَيْءٍ عَلَى مَنْ رَحْلُهُ غَالٍ (32) .
__________
(1) المصباح المنير، ولسان العرب
(2) الهداية وشروحها 6 / 332، وحاشية ابن عابدين 4 / 282، 5 / 271، وينظر المواق 4 / 546، والدسوقي 3 / 225، والحطاب 2 / 496
(3) حديث: " أخذ النبي ﷺ دروعا من صفوان عند الحاجة بغير، رضاه ". نصه عن صفوان بن أمية " أن رسول الله ﷺ قال: يا صفوان هل عندك من سلاح؟ قال: عارية أم غصبا؟ قال: لا بل عارية، فأعاره ما بين الثلاثين إلى الأربعين درعا. . وأحمد في المسند (3 / 401، 6 / 465 ط الميمنية) وليس فيه أنه قال: " بغير رضاه ".
(4) تبيين الحقائق 3 / 242، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 57، و 5 / 282، والهداية وشروحها 6 / 332
(5) سورة التوبة / 41
(6) سورة التوبة / 111
(7) سورة المائدة / 2
(8) حديث: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ". أخرجه البخاري (فتح الباري 5 / 99 ط السلفية) ومسلم (4 / 1999 ط عيسى الحلبي) من حديث أبي موسى الأشعري - ﵁ -
(9) الاعتصام 2 / 104، وانظر المستصفى للغزالي 1 / 303، 304
(10) الأحكام السلطانية للماوردي ص 214، 215، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 252
(11) مواهب الجليل للحطاب 2 / 496
(12) حاشية الدسوقي 3 / 224، 225
(13) كشاف القناع 2 / 392
(14) حاشية ابن عابدين 4 / 282، والعناية شرح الهداية 6 / 332
(15) الحطاب 2 / 494، 495
(16) حاشية ابن عابدين 2 / 57
(17) الحطاب 2 / 496، 497، ونهاية المحتاج 3 / 241، 242
(18) الدر المختار وحاشية ابن عابدين عليه 2 / 56
(19) فتح العلي المالك 2 / 186 ط الحلبي
(20) سورة الشورى / 42
(21) حاشية الدسوقي 3 / 225
(22) حاشية ابن عابدين 4 / 282
(23) العناية شرح الهداية مع فتح القدير 6 / 332
(24) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 3 / 333
(25) مغني المحتاج 2 / 200، والقليوبي 2 / 325 - 326
(26) المغني 4 / 592 و 593
(27) العناية بهامش فتح القدير 6 / 332، وحاشية ابن عابدين 2 / 282
(28) فتح العلي المالك 2 / 186
(29) فتح العلي المالك 2 / 185، 186
(30) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 55 ط دار الكتاب العربي
(31) العناية بهامش فتح القدير 6 / 332، وحاشية ابن عابدين 2 / 282 - 283
(32) فتح العلي المالك 2 / 186، 187
الموسوعة الفقهية الكويتية: 5/ 42
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".