التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
* المطلع على ألفاظ المقنع : (ص 63)
* الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل : (1/71)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 166)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (27/287) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْجَمْعُ ضِدُّ التَّفْرِيقِ، وَجَمَعَ الشَّيْءَ إِذَا جَاءَ بِهِ مِنْ هُنَا وَهُنَا وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ (1) . وَالْمُرَادُ بِجَمْعِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: هُوَ أَدَاءُ الظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ تَقْدِيمًا أَوْ تَأْخِيرًا.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
2 - أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَاتٍ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ فِي مُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ لِلْحَاجِّ (2) ، لأَِنَّ الرَّسُول فَعَل هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَعَنْ جَابِرٍ ﵁ قَال فِي صِفَةِ حَجِّهِ ﷺ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَل بَيْنَهُمَا شَيْئًا (3) . وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَحْدِيدِ عِلَّةِ هَذِهِ الرُّخْصَةِ هَل هِيَ السَّفَرُ أَوْ هِيَ النُّسُكُ؟ فَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَكْحُولٌ، وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ أَجْل النُّسُكِ، وَلِهَذَا فَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْحَاضِرِ، وَلاَ بَيْنَ الْعَرَفِيِّ وَالْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِمْ بِعَرَفَةَ، وَلاَ بَيْنَ الْمُزْدَلِفِيِّ وَغَيْرِهِ بِمُزْدَلِفَةَ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) إِلَى أَنَّ الْجَمْعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ رُخْصَةٌ مِنْ أَجْل السَّفَرِ (4) ، وَاحْتَجُّوا بِالأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْجَمْعِ فِي أَسْفَارِ النَّبِيِّ ﷺ الأُْخْرَى كَمَا يَأْتِي.
الْجَمْعُ لِلسَّفَرِ:
3 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، أَوْ جَمْعَ تَأْخِيرٍ بِسَبَبِ السَّفَرِ الطَّوِيل الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الرُّبَاعِيَّةُ مَا لَمْ يَكُنْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ لِلأَْدِلَّةِ الآْتِيَةِ:
أ - عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِذَا ارْتَحَل قَبْل أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَل فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا (5) الْحَدِيثَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْل أَنْ يَرْتَحِل صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ (6) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى كَانَ ﷺ إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ فَزَالَتِ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَل (7) .
ب - وَعَنْ مُعَاذٍ ﵁ قَال: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا (8) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ لِلْجَمْعِ فِي السَّفَرِ عِنْدَهُمْ طُول مَسَافَةِ السَّفَرِ أَوْ قِصَرُهَا، فَإِذَا نَوَى الإِْقَامَةَ فِي أَثْنَاءِ إِحْدَى الصَّلاَتَيْنِ عِنْدَ التَّقْدِيمِ بَطَل الْجَمْعُ. وَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ إِقَامَةُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لِبُطْلاَنِ الْجَمْعِ.
وَأَحْوَال جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ أَوْ عَدَمِهِ كَالآْتِي: -
1 - يُرَخَّصُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعَ تَقْدِيمٍ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَزُول عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْمَكَانِ الَّذِي نَزَل فِيهِ لِلرَّاحَةِ
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَنْوِيَ الاِرْتِحَال قَبْل دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ وَالنُّزُول فِي مَكَانٍ آخَرَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
2 - وَإِنْ نَوَى النُّزُول قَبْل اصْفِرَارِ الشَّمْسِ صَلَّى الظُّهْرَ أَوَّل وَقْتِهَا، وَأَخَّرَ الْعَصْرَ وُجُوبًا حَتَّى يَنْزِل لِيُوقِعَهَا فِي وَقْتِهَا الاِخْتِيَارِيِّ، فَإِنْ قَدَّمَهَا مَعَ الظُّهْرِ أَجْزَأَتْ، وَنُدِبَ إِعَادَتُهَا فِي وَقْتِهَا عِنْدَ نُزُولِهِ.
3 - وَإِنْ نَوَى النُّزُول بَعْدَ الاِصْفِرَارِ وَقَبْل الْغُرُوبِ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْل أَنْ يَرْتَحِل وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْعَصْرِ إِنْ شَاءَ قَدَّمَهَا مَعَ الظُّهْرِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهَا حَتَّى يَنْزِل هَذَا إِذَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَثْنَاءَ نُزُولِهِ.
فَإِنْ زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَثْنَاءَ سَيْرِهِ فَأَحْوَالُهُ هِيَ:
1 - إِنْ نَوَى النُّزُول وَقْتَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ أَوْ قَبْلَهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ، لِيَجْمَعَهَا مَعَ الْعَصْرِ جَمْعَ تَأْخِيرٍوَقْتَ نُزُولِهِ وُجُوبًا عَلَى مَا قَال الدُّسُوقِيُّ وَجَوَازًا عَلَى مَا قَال اللَّخْمِيُّ.
2 - وَإِنْ نَوَى النُّزُول بَعْدَ الْغُرُوبِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا جَمْعًا صُورِيًّا، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ آخِرَ وَقْتِهِ الاِخْتِيَارِيِّ، وَالْعَصْرَ أَوَّل وَقْتِهِ الاِخْتِيَارِيِّ.
هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَمِثْلُهُمَا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ مَعَ مُرَاعَاةِ مَا يَدْخُل بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ وَهُوَ الشَّفَقُ وَمَا يَخْرُجُ بِهِ وَهُوَ الْفَجْرُ (9) .
4 - وَذَهَبَ الأَْوْزَاعِيُّ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ فَقَطْ لِلْمُسَافِرِ (10) عَمَلاً بِرِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ﵁ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنْ زَاغَتِ الشَّمْسُ قَبْل أَنْ يَرْتَحِل صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ (11) .
وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ لاَ تَقْدِيمًا وَلاَ تَأْخِيرًا، وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ مِنْ جَمْعِهِ ﷺ بِأَنَّهُ جَمْعٌ صُورِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَقَدَّمَ الْعَصْرَ فِي أَوَّل وَقْتِهَا وَفَعَل مِثْل ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (12) .
وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:
أ - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قَال. مَا رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (13) .
ب - قَوْلُهُ ﷺ: لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَل الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الأُْخْرَى، فَمَنْ فَعَل ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا (14) .
ج - وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ مَوَاقِيتَ الصَّلاَةِ ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ وَأَحَادِيثُ الْجَمْعِ آحَادٌ فَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ (15) .
5 - وَقَدِ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ بِسَبَبِ السَّفَرِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ - الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ - فِي وَقْتِ الأُْولَى مِنْهُمَا وَفِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَذَلِكَ.
غَيْرَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ نَازِلاً فِي وَقْتِ الأُْولَى فَالأَْفْضَل أَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِ الأُْولَى، وَإِنْ كَانَ سَائِرًا فِيهَا فَالأَْفْضَل أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَلاَةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي الْمَنْزِل أَيْ مَكَانَ النُّزُول فِي السَّفَرِ قَدَّمَ الْعَصْرَ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الزَّوَال، وَإِذَا سَافَرَ قَبْل الزَّوَال أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ (16) وَلأَِنَّ هَذَا أَرْفَقُ بِالْمُسَافِرِ فَكَانَ أَفْضَل (17) .
أَمَّا إِنْ كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتَيْهِمَا أَوْ نَازِلاً فِيهِ وَأَرَادَ جَمْعَهُمَا، فَالأَْفْضَل تَأْخِيرُ الأُْولَى مِنْهُمَا إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلأُْولَى حَقِيقَةً بِخِلاَفِ الْعَكْسِ.
وَيَرَى الأَْوْزَاعِيُّ عَدَمَ جَوَازِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ.
شُرُوطُ صِحَّةِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ:
6 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الْجَمْعِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِجَمْعِ التَّقْدِيمِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ:
أَوَّلُهَا: الْبُدَاءَةُ بِالأُْولَى مِنَ الصَّلاَتَيْنِ كَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ لأَِنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَالثَّانِيَةَ تَبَعٌ لَهَا وَالتَّابِعُ لاَ يَتَقَدَّمُ عَلَى مَتْبُوعِهِ، فَلَوْ صَلَّى الْعَصْرَ قَبْل الظُّهْرِ أَوِ الْعِشَاءَ قَبْل الْمَغْرِبِ لَمْ يَصِحَّ الظُّهْرُ فِي الصُّورَةِ الأُْولَى، وَلاَ الْعِشَاءُ فِي الثَّانِيَةِ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا بَعْدَ الأُْولَى إِذَا أَرَادَ الْجَمْعَ.
ثَانِيهَا: نِيَّةُ الْجَمْعِ وَمَحَلُّهَا الْفَاضِل أَوَّل الصَّلاَةِ الأُْولَى وَيَجُوزُ فِي أَثْنَائِهَا إِلَى سَلاَمِهَا.
ثَالِثُهَا: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ وَهِيَ أَنْ لاَ يَفْصِل بَيْنَهُمَا زَمَنٌ طَوِيلٌ، أَمَّا الْفَصْل الْيَسِيرُ فَلاَ يَضُرُّ؛ لأَِنَّ مِنَ الْعَسِيرِ التَّحَرُّزَ مِنْهُ.
فَإِنْ أَطَال الْفَصْل بَيْنَهُمَا بَطَل الْجَمْعُ سَوَاءٌ أَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِنَوْمٍ، أَمْ سَهْوٍ، أَمْ شُغْلٍ، أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَرْجِعُ فِي الْفَصْل الْيَسِيرِ وَالطَّوِيل الْعُرْفُ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الأُْمُورِ الَّتِي لاَ ضَابِطَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَوْ فِي اللُّغَةِ كَالْحِرْزِ وَالْقَبْضِ وَغَيْرِهِمَا.
وَقَدَّرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ الْفَصْل الْيَسِيرَ بِقَدْرِ الإِْقَامَةِ، وَزَادَ الْحَنَابِلَةُ وَقَدْرِ الْوُضُوءِ.
رَابِعُهَا: دَوَامُ سَفَرِهِ حَال افْتِتَاحِ الأُْولَى وَالْفَرَاغِ مِنْهَا وَافْتِتَاحِ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا نَوَى الإِْقَامَةَ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ الأُْولَى، أَوْ وَصَل إِلَى بَلَدِهِ وَهُوَ فِي الأُْولَى، أَوْ صَارَ مُقِيمًا بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ انْقَطَعَ الْجَمْعُ لِزَوَال سَبَبِهِ، وَلَزِمَهُ تَأْخِيرُ الثَّانِيَةِ إِلَى وَقْتِهَا (18) .
شُرُوطُ صِحَّةِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ:
7 - يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ نِيَّةُ الْجَمْعِ قَبْل خُرُوجِ وَقْتِ الأُْولَى بِزَمَنٍ لَوِ ابْتُدِئَتْ فِيهِ كَانَتْ أَدَاءً، فَإِنْ أَخَّرَهَا بِغَيْرِ نِيَّةِ الْجَمْعِ أَثِمَ وَتَكُونُ قَضَاءً لِخُلُوِّ وَقْتِهَا عَنِ الْفِعْل أَوِ الْعَزْمِ.
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ لِجَمْعِ التَّأْخِيرِ وَهُوَ دَوَامُ سَفَرِهِ إِلَى تَمَامِ الصَّلاَتَيْنِ، فَإِنْ أَقَامَ قَبْل فَرَاغِهِ مِنْهُمَا أَصْبَحَتِ الأُْولَى قَضَاءً.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَشْتَرِطُونَ اسْتِمْرَارَ السَّفَرِ إِلَى حِينِ دُخُول وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَعَلَيْهِ فَلاَ يَضُرُّ زَوَال السَّفَرِ قَبْل فِعْل الصَّلاَتَيْنِ وَبَعْدَ دُخُول وَقْتِ الثَّانِيَةِ (19) .
8 - وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ.
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ، لأَِنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ فَاخْتَصَّتْ بِالطَّوِيل كَالْقَصْرِ وَلأَِنَّهُ إِخْرَاجُ عِبَادَةٍ عَنْ وَقْتِهَا فَلَمْ يَجُزْ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَالْفِطْرِ فِي الصَّوْمِ، وَلأَِنَّ دَلِيل الْجَمْعِ فِعْل النَّبِيِّ ﷺ وَالْفِعْل لاَ صِيغَةَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ قَضِيَّةُ عَيْنٍ، فَلاَ يَثْبُتُ حُكْمُهَا إِلاَّ فِي مِثْلِهَا، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ ﷺ جَمَعَ إِلاَّ فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَرْجُوحِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ لأَِنَّ أَهْل مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهُوَ سَفَرٌ قَصِيرٌ (20) .
وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِالسَّفَرِ قِصَرًا وَطُولاً يُنْظَرُ فِي: (صَلاَةُ الْمُسَافِرِ) .
هَذَا وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَمْعَ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الأُْولَى فَيُؤَخِّرُ إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ جَوَازُ تَقْدِيمِهِ الصَّلاَةَ الثَّانِيَةَ لِيُصَلِّيَهَا مَعَ الأُْولَى عَلَى مَا سَبَقَ (21) .
الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ:
9 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمَرِيضِ فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ.
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَال: جَمَعَ رَسُول اللَّهِ ﷺ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ (22) . وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ لِعُذْرٍ فَيَجْمَعُ لِلْمَرَضِ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ ﵄ لَمَّا كَانَتَا مُسْتَحَاضَتَيْنِ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ وَتَعْجِيل الْعَصْرِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِغُسْلٍ وَاحِدٍ (23) .
ثُمَّ إِنَّ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءَ قَاسُوا الْمَرَضَ عَلَى السَّفَرِ بِجَامِعِ الْمَشَقَّةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْمَرِيضِ بِجَامِعٍ فِي إِفْرَادِ الصَّلَوَاتِ أَشَدُّ مِنْهَا عَلَى الْمُسَافِرِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّ الْجَمْعَ الْجَائِزَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ هُوَ جَمْعُ التَّقْدِيمِ فَقَطْ لِمَنْ خَافَ الإِْغْمَاءَ أَوِ الْحُمَّى أَوْ غَيْرَهُمَا. وَإِنْ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ الأَْمْرَاضِ وَلَمْ تُصِبْهُ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِهَا.
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَرِيضَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَالْمُسَافِرِ، فَإِنِ اسْتَوَى عِنْدَهُ الأَْمْرَانِ فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى؛ لأَِنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلأُْولَى حَقِيقَةً بِخِلاَفِ الْعَكْسِ، وَالْمَرَضُ الْمُبِيحُ لِلْجَمْعِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ هُوَ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ بِتَأْدِيَةِ كُل صَلاَةٍ فِي وَقْتِهَا مَشَقَّةٌ وَضَعْفٌ. وَأَلْحَقُوا الْمُسْتَحَاضَةَ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ بَوْلٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا كَالْمُرْضِعِ بِالْمَرِيضِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ.
وَإِلَى رَأْيِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْمَرِيضِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَابْنُ الْمُقْرِي، وَالْمُتَوَلِّي، وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ.
وَقَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ: هَذَا الْوَجْهُ قَوِيٌّ جِدًّا.
قَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَالأَْوْلَى أَنْ يَفْعَل أَرْفَقَهُمَا بِهِ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لأَِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلأَِنَّ أَخْبَارَ الْمَوَاقِيتِ ثَابِتَةٌ فَلاَ تُتْرَكُ أَوْ تُخَالَفُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَغَيْرِ صَرِيحٍ، وَلاَ سِيَّمَا أَنَّ الرَّسُول ﷺ مَرِضَ أَمْرَاضًا كَثِيرَةً وَلَمْ يُنْقَل جَمْعُهُ بِالْمَرَضِ صَرِيحًا (24) .
الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ، وَالثَّلْجِ، وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِهَا:
10 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ الْمُبَلِّل لِلثِّيَابِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرْدِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَال: صَلَّى رَسُول اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ (25) .
قَال كُلٌّ مِنَ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: أَرَى ذَلِكَ بِعُذْرِ الْمَطَرِ. وَلَمْ يَأْخُذِ الْجُمْهُورُ بِالرِّوَايَةِ الأُْخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: " مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ " لأَِنَّهَا تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجُمْهُورِ.
وَلأَِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ ﵃ كَانَا يَجْمَعَانِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ.
وَهُوَ قَوْل الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ وَالأَْوْزَاعِيِّ (26) . إِلاَّ أَنَّ الْجُمْهُورَ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِل مِنْهَا:
1 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَال: < إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ إِذَا كَانَ يَوْمٌ مَطِيرٌ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ > (27) . وَلأَِنَّ الْمَشَقَّةَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ أَشَدُّ لأَِجْل الظُّلْمَةِ. أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ كَذَلِكَ بِسَبَبِ الْمَطَرِ وَنَحْوِهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَلأَِنَّ الْعِلَّةَ هِيَ وُجُودُ الْمَطَرِ سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِي اللَّيْل أَمْ فِي النَّهَارِ.
2 - أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ:
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْجَدِيدِ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ التَّقْدِيمِ فَقَطْ دُونَ جَمْعِ التَّأْخِيرِ لأَِنَّ اسْتِدَامَةَ الْمَطَرِ لَيْسَتْ مُؤَكَّدَةً، فَقَدْ يَنْقَطِعُ الْمَطَرُ فَيُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِ الصَّلاَةِ عَنْ وَقْتِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ جَمْعِ التَّأْخِيرِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ كَالسَّفَرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ (28) .
3 - يَشْتَرِطُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِلْجَمْعِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ الْبُدَاءَةُ بِالأُْولَى مِنَ الصَّلاَتَيْنِ وَنِيَّةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالْمُوَالاَةُ عَلَى التَّفْصِيل الَّذِي سَبَقَ فِي الْجَمْعِ بِسَبَبِ السَّفَرِ (ف 3) .
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى اشْتَرَطَهَا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لِلْجَمْعِ بِسَبَبِ الْمَطَرِ مِنْهَا: أ - وُجُودُ الْمَطَرِ فِي أَوَّل الصَّلاَتَيْنِ وَعِنْدَ السَّلاَمِ مِنَ الأُْولَى وَعِنْدَ دُخُول الثَّانِيَةِ.
ب - الرُّخْصَةُ خَاصَّةٌ بِالْمُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ، فَلاَ يَجْمَعُ الْمُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالأَْرْجَحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الرُّخْصَةَ عَامَّةٌ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَنْ يُصَلِّي جَمَاعَةً فِي مَسْجِدٍ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ أَوْ مُنْفَرِدًا؛ لأَِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَمَعَ فِي الْمَطَرِ وَلَيْسَ بَيْنَ حُجْرَتِهِ وَالْمَسْجِدِ شَيْءٌ (29) . وَلأَِنَّ الْعُذْرَ إِذَا وُجِدَ اسْتَوَى فِيهِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ وَغَيْرُهُ.
4 - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَهُوَ الْقَوْل الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّ الطِّينَ أَوِ الْوَحْل عُذْرٌ يُبِيحُ الْجَمْعَ كَالْمَطَرِ؛ لأَِنَّهُ يُلَوِّثُ الثِّيَابَ وَالنِّعَال وَيَتَعَرَّضُ الإِْنْسَانُ فِيهِ لِلزَّلْقِ وَتَتَأَذَّى نَفْسُهُ وَثِيَابُهُ، وَهَذَا أَعْظَمُ مِنَ الْبَلَل وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا: إِنِ اجْتَمَعَ الْمَطَرُ وَالطِّينُ وَالظُّلْمَةُ، أَوِ اثْنَانِ مِنْهَا، أَوِ انْفَرَدَ الْمَطَرُ جَازَ الْجَمْعُ، بِخِلاَفِ انْفِرَادِ الظُّلْمَةِ، وَفِي انْفِرَادِ الطِّينِ قَوْلاَنِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْجَمْعِ.
وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِسَبَبِ الطِّينِ أَوِ الْوَحْل قَالُوا لأَِنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ جَمَعَ مِنْ أَجْلِهِ (30) .
5 - يَرَى الْحَنَابِلَةُ فِي الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ مِنْ أَجْل الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ لأَِنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ فِي تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ يُنَادِي مُنَادِيهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، أَوِ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ (31) .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُبَاحُ الْجَمْعُ مِنْ أَجْل الرِّيحِ. لأَِنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهَا دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَطَرِ فَلَمْ يَصِحَّ إِلْحَاقُهَا بِالْمَطَرِ (32) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فَلاَ يُجِيزُونَ الْجَمْعَ مِنْ أَجْل الرِّيحِ الشَّدِيدَةِ وَالظُّلْمَةِ؛ لأَِنَّهُمَا كَانَتَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ جَمَعَ مِنْ أَجْلِهِمَا (33) .
الْجَمْعُ لِلْخَوْفِ:
11 - ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِسَبَبِ الْخَوْفِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ صَلَّى رَسُول اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ سَفَرٍ (34) وَهَذَا يَدُل عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِلْخَوْفِ أَوْلَى.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الأُْخْرَى لِلْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ لِثُبُوتِ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ وَلاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِلاَّ بِنَصٍّ صَرِيحٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ.
وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لاَ يُجِيزُونَ الْجَمْعَ لِسَفَرٍ وَلاَ لِمَطَرٍ وَلاَ لِغَيْرِهِمَا مِنَ الأَْعْذَارِ الأُْخْرَى (35) .
الْجَمْعُ بِدُونِ سَبَبٍ:
12 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ لِغَيْرِ الأَْعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ؛ لأَِنَّ أَخْبَارَ الْمَوَاقِيتِ الثَّابِتَةِ لاَ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهَا إِلاَّ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلأَِنَّهُ تَوَاتَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى قَال ابْنُ مَسْعُودٍ ﵁: مَا رَأَيْت النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى صَلاَةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلاَّ صَلاَتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ أَيْ بِمُزْدَلِفَةَ (1) " الْحَدِيثَ.
وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ - أَشْهَبُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ شُبْرُمَةَ - إِلَى جَوَازِ الْجَمْعِ لِحَاجَةٍ مَا لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ عَادَةً.
قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَلاَ مَطَرٍ، وَلاَ مَرَضٍ. وَهُوَ قَوْل جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْل الْحَدِيثِ لِظَاهِرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَال: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ (2) فَقِيل لاِبْنِ عَبَّاسٍ لِمَ فَعَل ذَلِكَ قَال: أَرَادَ أَنْ لاَ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وَلِمَا رُوِيَ مِنَ الآْثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ﵃ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ لِغَيْرِ الأَْعْذَارِ الْمَذْكُورَةِ (3) .
__________
(1) لسان العرب مادة: (جمع) .
(2) سبل السلام 2 / 200.
(3) حديث: " فأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن ثم أقام " أخرجه مسلم (2 / 890 - ط عيسى الحلبي) . من حديث جابر بن عبد الله.
(4) حاشية ابن عابدين 1 / 256، والمجموع للإمام النووي 4 / 317 وانظر شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 113، والمغني لابن قدامة 2 / 271.
(5) حديث: " كان رسول الله ﷺ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما ". أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 582 - 583 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 489 - ط عيسى الحلبي) من حديث أنس بن مالك.
(6) حديث: " فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 582 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 489 - ط عيسى الحلبي) . من حديث أنس كذلك.
(7) حديث: " كان ﷺ إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل ". أخرجه البيهقي (3 / 162 - ط دار المعرفة) من حديث أنس. وعزاه ابن حجر إلى الإسماعيلي، والأربعين للحاكم وصحح الحديث (فتح الباري 2 / 583 - ط السلفية) .
(8) حديث: " خرجنا مع النبي ﷺ في غزوة تبوك فكان. . . " أخرجه مسلم (1 / 490 - ط عيسى الحلبي) .
(9) الدسوقي 1 / 368 - 369، والحطاب 2 / 156.
(10) المجموع للإمام النووي 4 / 371، سبل السلام 2 / 41.
(11) حديث: " فإن زاغت الشمس قبل. . . . " سبق تخريجه ف / 3.
(12) بداية المجتهد 1 / 174.
(13) حديث: " ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري 3 / 530 - ط السلفية) .
(14) حديث: " ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة. . . ". أخرجه مسلم (1 / 472 - ط عيسى الحلبي) من حديث أبي قتادة.
(15) حاشية ابن عابدين 1 / 256، والمجموع 4 / 373، والمغني لابن قدامة 2 / 271.
(16) حديث: " ألا أخبركم عن صلاة رسول الله ﷺ، إذا زالت. . . ". سبق تخريجه ف 3 وأخرجه البيهقي (3 / 163 ط دار المعرفة) من حديث ابن عباس وهو بما تقدم من شواهده يقوى. وقال النووي: (حديث ابن عباس رواه البيهقي بإسناد جيد وله شواهد) .
(17) المجموع للإمام النووي 4 / 373، والمغني لابن قدامة 2 / 273.
(18) حاشية ابن عابدين 1 / 256، ومغني المحتاج 1 / 271، والمجموع للإمام النووي 4 / 373، والمغني لابن قدامة 2 / 271، وجواهر الإكليل 1 / 91، وبداية المجتهد 1 / 174، وسبل السلام 2 / 41.
(19) المراجع السابقة.
(20) القوانين الفقهية ص 87، والمغني لابن قدامة 2 / 373، والمجموع للإمام النووي 4 / 370.
(21) المجموع للإمام النووي 4 / 370، والمغني لابن قدامة 2 / 273 - 274.
(22) حديث: " جمع رسول الله ﷺ بين الظهر. . . " أخرجه مسلم (1 / 491 - ط عيسى الحلبي) . من حديث ابن عباس.
(23) حديث سهلة أخرجه أبو داود (1 / 207 - ط عزت عبيد الدعاس) ، وأحمد (6 / 139 - ط المكتب الإسلامي) من حديث عائشة. قال المنذري في إسناده محمد بن يسار. وقد اختلف في الاحتجاج به. وحديث حمنة أخرجه كذلك أبو داود (1 / 199 - ط عزت عبيد الدعاس) والترمذي (1 / 221 - ط مصطفى الحلبي) . وقال: حديث حسن صحيح.
(24) جواهر الإكليل 1 / 92، والقوانين الفقهية ص 87، والمجموع للإمام النووي 4 / 383، ومغني المحتاج 1 / 275، والمغني لابن قدامة 2 / 276.
(25) حديث: " صلى رسول الله ﷺ بالمدينة الظهر والعصر. . . " زاد مسلم " من غير خوف ولا سفر ". سبق تخريجه ف / 9.
(26) جواهر الإكليل 1 / 92، والقوانين الفقهية ص 87، والمجموع للإمام النووي 4 / 378، ومغني المحتاج 1 / 274، والمغني لابن قدامة 2 / 274.
(27) حديث: " إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء " قال ابن حجر " ليس له أصل وإنما ذكره البهيقي (3 / 168 - ط دار المعرفة) عن ابن عمر موقوفا عليه ".
(28) بداية المجتهد 1 / 177، وجواهر الإكليل 1 / 92، والمجموع للإمام النووي 4 / 378، والسراج الوهاج ص 83، ومغني المحتاج 1 / 274، والمغني لابن قدامة 2 / 274.
(29) حديث: " جمع في المطر وليس بين حجرته والمسجد شيء " لم نعثر عليه في المصادر الحديثية التي بين أيدينا.
(30) الدسوقي 1 / 370، والقوانين ص 87، وبداية المجتهد 1 / 177، والمجموع للإمام النووي 4 / 383، ومغني المحتاج 1 / 275، والمغني لابن قدامة 2 / 275 - 276، والفروع 2 / 68.
(31) حديث: " صلوا في رحالكم " أخرجه البخاري (فتح الباري 2 / 113 - ط السلفية) . ومسلم (1 / 484 - ط عيسى الحلبي) واللفظ للبخاري. وهو من حديث ابن عمر.
(32) ترى اللجنة أن في بعض البلاد تكون الريح الشديدة أعظم في المشقة من المطر وغيره، فلهذا ترى جواز الجمع لذلك.
(33) المراجع السابقة.
(34) حديث: " صلى رسول الله ﷺ بالمدينة الظهر. . . " سبق تخريجه ف 11.
(35) حاشيه ابن عابدين 1 / 256، والمجموع للإمام النووي 4 / 383، والقوانين الفقهية ص 87، والمغني لابن قدامة 2 / 277، وكتاب الفروع 2 / 71.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 284/ 15