القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
المُقاصَّةٌ: تَتَبُّعُ الشَّيْءِ أيَّ وَقْتٍ كان، يُقال: قَصَصْتُ أَثَرَهُ، أيْ: تَتَبَّعْتُهُ. وتأْتي بِمعنى القَطْعِ على وَجْهِ التَّسْوِيَةِ، يُقال: قَصَصْتُ الشَّعْرَ: إذا قَطَعْتَه وسَوَّيْتَ بين كُلِّ شَعْرَةٍ وأُخْتِها. وأَصْلُ التَّقاصِّ: التَّناصُفُ في القِصاصِ، يُقال: قاصَصْتُهُ، مُقاصَّةً، وقِصاصاً، أيْ: فَعَلْتُ به مِثْلَ ما فَعَلَ بِي، وتقاصَّ القومُ: إِذا قاصَّ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُم صاحبَه في حِسابٍ أو غَيْرِهِ.
يَرِد مُصْطلَح (مُقاصَّة) في الفِقْهِ في عِدَّةِ مواطِن، منها: كِتاب الزَّكاةِ عند الكَلامِ على إِسْقاطِ الدَّيْنِ الذي لِلْفَقِيرِ مُقابِلَ دَفْعِ الزَّكاةِ إليه، وفي كتاب النِّكاحِ، باب: النَّفَقَة على الزَّوْجَةِ، وفي كِتابِ الرِّقِّ، باب: مُكاتَبَة العَبْدِ سَيِّدَهُ، وفي كتاب البيوع، باب: السَّلَم، والوَدِيعَة، والوَقْف، والوَصِّيَة، والكفالَة، وغير ذلك مِن الأبوابِ. ويُطْلَقُ في كِتابِ الجِناياتِ، باب القِصاص، ويُراد بِه: أَنْ يُفْعَلَ بِالجانِي مِثْلَما فَعَلَ بِالمَجْنِي عَلَيْهِ.
قصص
إِسْقاطُ دَيْنٍ في مُقابِلِ دَيْنٍ آخَر.
المُقاصَّةُ أو التَّقاصُّ: طَرِيقَةٌ مِن طُرُقِ قَضاءِ الدُّيُونِ، وهو إِسْقاطُ دَيْنٍ لِشَخْصٍ على المَدِينِ في مُقابِلِ إِسْقاطِ ما لِذَلِكَ المَدِينِ على ذلك الشَّخْصِ مِن دَيْنٍ يُماثِلُهُ. والمُقاصَّةُ نَوْعٌ مِن الإِسْقاطِ؛ إذ هي إِسْقاطُ ما لِلإنْسانِ مِن دَيْنٍ على غَرِيمِهِ في مِثْل ما عليه، فهي إِسْقاطٌ بِعِوَضٍ، والمُقاصَّةُ على نَوْعَيْنِ: 1- اخْتِيارِيَّةٌ، وهي: التي تَحْصُلُ بِتَراضِي المُتَدايِنَيْنِ. 2- جَبْرِيَّة، وهي: التي تَحْصُلُ بِدونِ طَلَبٍ ولا تَراضٍ بين المُتَدايِنَيْنِ. وطَرِيقَةُ المُقاصَّةِ مُطْلَقًا: أنّها تَقَعُ بِقَدْرِ الأَقَلّ مِن الدَّيْنَيْنِ: فإِن كان لأِحَدِهِما مِائَةُ رِيالٍ دَيْنًا على الآخَرِ، ولِلْمَدْيونِ عليه مِائَةُ جُنَيْهٍ مثلًا، وتَقاصّا يَسْقُطُ مِن قِيمَةِ الجُنَيْهاتِ قِصاصًا بِقَدْرِ الرِّيالاتِ، ويَبْقَى لِصاحِبِ الجُنَيْهاتِ ما بقِيَ منها.
المُقاصَّةٌ: تَتَبُّعُ الشَّيْءِ أيَّ وَقْتٍ كان، يُقال: قَصَصْتُ أَثَرَهُ، أيْ: تَتَبَّعْتُهُ. وتأْتي بِمعنى القَطْعِ على وَجْهِ التَّسْوِيَةِ. وأَصْلُها: التَّناصُفُ في القِصاصِ.
* روضة الطالبين : (12/273)
* تحفة المحتاج في شرح المنهاج : (10/418)
* العين : (5/10)
* تهذيب اللغة : (8/210)
* المحكم والمحيط الأعظم : (6/102)
* مختار الصحاح : (ص 254)
* لسان العرب : (7/76)
* تاج العروس : (18/107)
* القاموس الفقهي : (ص 304)
* منح الجليل شرح مختصر خليل : (3/52)
* المنثور في القواعد : (1/391)
* القاموس الفقهي : (ص 304)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 140)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (38/329)
* بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : (5/234)
* حاشية ابن عابدين : (4/239)
* القوانين الفقهية : (ص 297)
* مواهب الجليل في شرح مختصر خليل : (4/549)
* الأم : (8/59)
* الـمغني لابن قدامة : (9/447)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (38/329) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الْمُقَاصَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ قَاصَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْل مَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَجَعَل الدَّيْنَ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ (1) . وَيُقَال: تَقَاصَّ الْقَوْمُ إِذَا قَاصَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي حِسَابٍ أَوْ غَيْرِهِ (2) .
وَأَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ: فَالْمُقَاصَّةُ إِسْقَاطُ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ لِشَخْصٍ عَلَى غَرِيمِهِ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ مَطْلُوبٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ لِغَرِيمِهِ (3) ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ مِنْ طُرُقِ قَضَاءِ الدُّيُونِ.
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الْمُقَاصَّةُ هِيَ اقْتِطَاعُ دَيْنٍ مِنْ دَيْنٍ، وَفِيهَا مُتَارَكَةٌ، وَمُعَاوَضَةٌ وَحَوَالَةٌ (4) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْحَوَالَةُ:
2 - الْحَوَالَةُ فِي اللُّغَةِ مِنْ حَال الشَّيْءُ حَوْلاً: تَحَوَّل، وَتَحَوَّل مِنْ مَكَانِهِ: انْتَقَل عَنْهُ، فَإِذَا أَحَلْتَ شَخْصًا بِدَيْنِكَ فَقَدْ نَقَلْتَهُ إِلَى ذِمَّةٍ غَيْرِ ذِمَّتِكَ (5) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى (6) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُقَاصَّةِ وَالْحَوَالَةِ: أَنَّ الْمُقَاصَّةَ سُقُوطُ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ بِمِثْلِهِ بِشُرُوطِهِ، وَالْحَوَالَةُ نَقْلٌ لِلدَّيْنِ.
ب - الإِْبْرَاءُ:
3 - مِنْ مَعَانِي الإِْبْرَاءِ فِي اللُّغَةِ: التَّنْزِيهُ وَالتَّخْلِيصُ وَالْمُبَاعَدَةُ عَنِ الشَّيْءِ (7) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: إِسْقَاطُ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ (8) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُقَاصَّةِ وَالإِْبْرَاءِ: أَنَّ الْمُقَاصَّةَ إِسْقَاطٌ بِعِوَضٍ، وَالإِْبْرَاءُ إِسْقَاطٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ (9) .
حُكْمُ الْمُقَاصَّةِ
4 - الْمُقَاصَّةُ مَشْرُوعَةٌ، وَدَلِيل مَشْرُوعِيَّتِهَا الْمَنْقُول وَالْمَعْقُول: أَمَّا الْمَنْقُول فَمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَال: كُنْتُ أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ، وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ، آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَأَتَيْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فَقُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، رُوَيْدَكَ أَسْأَلُكَ إِنِّي أَبِيعُ الإِْبِل بِالْبَقِيعِ فَأَبِيعُ بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ آخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأُعْطِي هَذِهِ مِنْ هَذِهِ، قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَفْتَرِقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ (10) ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى جَوَازِ الاِسْتِبْدَال مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ بِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ قَبْضَ نَفْسِ الدَّيْنِ لاَ يُتَصَوَّرُ، لأَِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَالٍ حُكْمِيٍّ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ عِبَارَةٌ عَنِ الْفِعْل، وَكُل ذَلِكَ لاَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ قَبْضُهُ حَقِيقَةً، فَكَانَ قَبْضُهُ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وَهُوَ قَبْضُ الدَّيْنِ، فَتَصِيرُ الْعَيْنُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةً عَلَى الْقَابِضِ وَفِي ذِمَّةِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ مِثْلُهَا فِي الْمَالِيَّةِ، فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا، هَذَا هُوَ طَرِيقُ قَبْضِ الدُّيُونِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لاَ يُوجِبُ الْفَصْل بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِنْ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ خِلاَفِ جِنْسِهِ، لأَِنَّ الْمُقَاصَّةَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ الْمَالِيَّةُ، وَالأَْمْوَال كُلُّهَا فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ (11) .
أَنْوَاعُ الْمُقَاصَّةِ
5 - الْمُقَاصَّةُ نَوْعَانِ:
أ - اخْتِيَارِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي تَحْصُل بِتَرَاضِي الْمُتَدَايِنَيْنِ
ب - وَجَبْرِيَّةٌ: وَهِيَ الَّتِي تَحْصُل بِتَقَابُل الدَّيْنَيْنِ بِشُرُوطِ مُعَيَّنَةٍ.
وَيُشْتَرَطُ لِحُصُول الْمُقَاصَّةِ الْجَبْرِيَّةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ اتِّحَادُ الدَّيْنَيْنِ جِنْسًا وَوَصْفًا، وَحُلُولاً، وَقُوَّةً وَضَعْفًا، وَلاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْمُقَاصَّةِ الاِخْتِيَارِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَوْ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْوَصْفِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالآْخَرُ مُؤَجَّلاً، أَوْ أَحَدُهُمَا قَوِيًّا وَالآْخَرُ ضَعِيفًا فَلاَ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا إِلاَّ بِتَرَاضِي الْمُتَدَايِنَيْنِ سَوَاءٌ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ (12) . وَالْمَالِكِيَّةُ لاَ يَقُولُونَ بِالْمُقَاصَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّتِي تَقَعُ بِنَفْسِهَا إِلاَّ نَادِرًا.
قَال الدُّسُوقِيُّ: غَالِبُ أَحْوَال الْمُقَاصَّةِ الْجَوَازُ، أَمَّا وُجُوبُهَا فَهُوَ قَلِيلٌ إِذْ هُوَ فِي أَحْوَالٍ ثَلاَثَةٍ وَهِيَ: إِذَا حَل الدَّيْنَانِ، أَوِ اتَّفَقَا أَجَلاً، أَوْ طَلَبَهَا مَنْ حَل دَيْنُهُ، فَالْمَذْهَبُ وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْمُقَاصَّةِ (13) .
مَحَل الْمُقَاصَّةِ الْجَبْرِيَّةِ وَشُرُوطُهَا
6 - مَحَل الْمُقَاصَّةِ الدَّيْنُ فَلاَ تَقَعُ بَيْنَ عَيْنَيْنِ وَلاَ بَيْنَ عَيْنٍ وَدَيْنٍ إِلاَّ إِذَا تَحَوَّلَتِ الْعَيْنُ إِلَى دَيْنٍ، فَإِنْ تَحَوَّلَتْ جَازَتِ الْمُقَاصَّةُ بِالدَّيْنِ الَّذِي تَحَوَّلَتِ الْعَيْنُ إِلَيْهِ بِشُرُوطِهِ.
7 - وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْوَصْفِ أَوِ الأَْجَل أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَكْسُورًا وَالآْخَرُ صَحِيحًا لاَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ الْجَبْرِيَّةُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَتَقَاصَّ الْمُتَدَايِنَانِ بِاخْتِيَارِهِمَا (14) .
وَإِذَا أَتْلَفَ الدَّائِنُ عَيْنًا مِنْ مَال الْمَدْيُونِ وَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ سَقَطَتْ قِصَاصًا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خِلاَفِهِ فَلاَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِلاَ تَرَاضِيهِمَا (15) . وَطَرِيقَةُ الْمُقَاصَّةِ مُطْلَقًا أَنَّهَا تَقَعُ بِقَدْرِ الأَْقَل مِنَ الدَّيْنَيْنِ: فَإِنْ كَانَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةُ رِيَالٍ دَيْنًا عَلَى الآْخَرِ، وَلِلْمَدْيُونِ عَلَيْهِ مِائَةُ جُنَيْهٍ مَثَلاً، وَتَقَاصَّا يَسْقُطُ مِنْ قِيمَةِ الْجُنَيْهَاتِ قِصَاصًا بِقَدْرِ الرِّيَالاَتِ وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الْجُنَيْهَاتِ مَا بَقِيَ مِنْهَا (16) .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلدَّائِنِ عَلَى الْمَدْيُونِ مِائَةُ دِرْهَمٍ، وَلِلْمَدْيُونِ عَلَى الدَّائِنِ مِائَةُ دِينَارٍ، فَإِذَا تَقَاصَّا: تَصِيرُ الدَّرَاهِمُ قِصَاصًا بِمِائَةٍ مِنْ قِيمَةِ الدَّنَانِيرِ، وَيَبْقَى لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ مَا بَقِيَ مِنْهَا (17) .
8 - وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْمُقَاصَّةُ فِي الدُّيُونِ مِنْهَا مَا يَجُوزُ، وَمِنْهَا مَا لاَ يَجُوزُ، وَالْجَوَازُ نَظِيرٌ لِلْمُتَارَكَةِ، وَالْمَنْعُ تَغْلِيبٌ لِلْمُعَاوَضَةِ أَوِ الْحَوَالَةِ إِذَا لَمْ تَتِمَّ شُرُوطُهَا، وَإِذَا قَوِيَتِ التُّهْمَةُ وَقَعَ الْمَنْعُ، وَإِنْ فُقِدَتْ حَصَل الْجَوَازُ، وَإِنْ ضَعُفَتْ حَصَل الْخِلاَفُ.
فَإِذَا كَانَ لِرَجُل عَلَى آخَرَ دَيْنٌ وَكَانَ لِذَلِكَ الآْخَرِ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَأَرَادَ اقْتِطَاعَ أَحَدِ الدَّيْنَيْنِ مِنَ الآْخَرِ لِتَقَعَ الْبَرَاءَةُ بِذَلِكَ فَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَخْلُو: أَنْ يَتَّفِقَ جِنْسُ الدَّيْنَيْنِ أَوْ يَخْتَلِفَا: فَإِنِ اخْتَلَفَا جَازَتِ الْمُقَاصَّةُ مِثْل أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ عَيْنًا وَالآْخَرُ طَعَامًا أَوْ عَرَضًا، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا وَالآْخَرُ طَعَامًا.
وَإِنِ اتَّفَقَ جِنْسُ الدَّيْنَيْنِ فَلاَ يَخْلُو:
9 - أ - أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُمَا عَيْنَيْنِ: فَتَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ فِي دَيْنَيِ الْعَيْنِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ بَيْعٍ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالآْخَرُ مِنْ قَرْضٍ بِشُرُوطٍ هِيَ:
أَنْ يَتَّحِدَا قَدْرًا وَصِفَةً حَل الدَّيْنَانِ مَعًا أَوْ حَل أَحَدُهُمَا أَمْ لاَ، بِأَنْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ اتَّفَقَ أَجَلُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ.
وَإِنَّمَا جَازَتِ الْمُقَاصَّةُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، لأَِنَّ الْمَقْصُودَ الْمُعَاوَضَةُ وَالْمُبَارَأَةُ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ.
وَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ دَيْنَا الْعَيْنِ فِي الصِّفَةِ أَيْ: الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْقَدْرِ أَيِ الْوَزْنِ وَالْعَدَدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ كَدَرَاهِمَ مُحَمَّدِيَّةٍ وَيَزِيدِيَّةٍ، أَوْ مَعَ اخْتِلاَفِهِ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، فَكَذَلِكَ تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ إِنْ حَلاَّ مَعًا سَوَاءٌ كَانَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ أَوِ اخْتَلَفَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالآْخَرُ مِنْ قَرْضٍ، إِذْ هِيَ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ مُبَادَلَةُ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَمَعَ اخْتِلاَفِهِ صَرْفُ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَهُمَا جَائِزَانِ بِشَرْطِ التَّعْجِيل فِي الأَْوَّل وَالْحُلُول فِي الثَّانِي.وَإِنْ لَمْ يَحِلاَّ: وَاتَّفَقَا أَجَلاً أَوِ اخْتَلَفَا، أَوْ حَل أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ لأَِنَّهَا مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ بَدَلٌ مُؤَخَّرٌ، وَمَعَ اخْتِلاَفِهِ صَرْفٌ مُؤَخَّرٌ وَكِلاَهُمَا مَمْنُوعٌ، كَأَنِ اتَّفَقَا نَوْعًا وَاخْتَلَفَا زِنَةً حَال كَوْنِهِمَا مِنْ بَيْعٍ كَدِينَارِ كَامِلٍ وَدِينَارٍ نَاقِصٍ فَتَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ فِيهِمَا إِنْ حَلاَّ وَإِلاَّ فَلاَ، وَكَذَلِكَ اخْتِلاَفُهُمَا فِي الْعَدَدِ.
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنَانِ مِنْ قَرْضٍ: مُنِعَتِ الْمُقَاصَّةُ سَوَاءٌ حَلاَّ، أَوْ حَل أَحَدُهُمَا، أَوْ لَمْ يَحِلاَّ، اتَّفَقَا أَجَلاً أَوِ اخْتَلَفَا.
وَإِنْ كَانَا مِنْ بَيْعٍ وَقَرْضٍ مُنِعَتْ إِنْ لَمْ يَحِلاَّ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا أَجَلاً أَوِ اخْتَلَفَا أَوْ حَل أَحَدُهُمَا، فَإِذَا حَلاَّ: فَإِنْ كَانَ الأَْكْثَرُ هُوَ الَّذِي مِنْ بَيْعٍ مُنِعَتْ، لأَِنَّهُ قَضَاءٌ عَنْ قَرْضٍ بِزِيَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ جَازَتْ، لأَِنَّهُ قَضَاءٌ عَنْ بَيْعٍ بِزِيَادَةِ وَهِيَ جَائِزَةٌ (18) .
10 - ب - إِذَا كَانَا طَعَامَيْنِ: إِذَا كَانَ الدَّيْنَانِ أَصْلُهُمَا طَعَامَانِ فَلاَ يَخْلُو:
1 - أَنْ يَكُونَا مِنْ قَرْضٍ: وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَكُونُ حُكْمُ الْمُقَاصَّةِ فِيهَا كَحُكْمِ دَيْنَيِ الْعَيْنِ فِي صُوَرِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ.
فَتَجُوزُ إِنِ اتَّفَقَا صِفَةً وَقَدْرًا سَوَاءٌ حَلاَّ أَوْ حَل أَحَدُهُمَا أَوْ لَمْ يَحِلاَّ، اتَّفَقَا أَجَلاً أَوِ اخْتَلَفَا، أَوِ اخْتَلَفَا صِفَةً مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ أَوِ اخْتِلاَفِهِ.
وَلاَ تَجُوزُ إِنْ لَمْ يَحِلاَّ أَوْ حَل أَحَدُهُمَا، اتَّفَقَا أَجَلاً أَوِ اخْتَلَفَا كَأَنِ اخْتَلَفَا قَدْرًا.
2 - أَنْ يَكُونَا مِنْ بَيْعٍ: حَيْثُ تُمْنَعُ الْمُقَاصَّةُ فِي الطَّعَامَيْنِ إِذَا كَانَا مُرَتَّبَيْنِ فِي الذِّمَّتَيْنِ مِنْ بَيْعٍ، سَوَاءٌ حَل أَجَلُهُمَا أَوْ أَجَل أَحَدِهِمَا أَوْ لَمْ يَحِلاَّ، اتَّفَقَ أَجَلُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ، وَلَوْ مُتَّفِقَيْنِ قَدْرًا وَصِفَةً لأَِنَّهُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ.
وَقَال أَشْهَبُ: تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الطَّعَامَيْنِ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَالْحُلُول بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَالإِْقَالَةِ
3 - إِذَا كَانَ الطَّعَامَانِ مِنْ بَيْعٍ وَقَرْضٍ: فَإِنَّ دَيْنَيِ الطَّعَامِ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ بَيْعٍ وَالآْخَرُ مِنْ قَرْضٍ تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ فِيهِمَا بِشَرْطَيْنِ:
الأَْوَّل: أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَالْجِنْسِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَا حَالَّيْنِ.
وَلاَ تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ إِنْ لَمْ يَحِلاَّ بِأَنْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ، أَوْ حَل أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَحِل الآْخَرُ، لاِخْتِلاَفِ الأَْغْرَاضِ بِاخْتِلاَفِ الأَْجَل (19) . 11 - ج - إِذَا كَانَا عَرَضَيْنِ: وَالْمُرَادُ بِالْعَرَضِ هُنَا مَا قَابَل الْعَيْنَ وَالطَّعَامَ فَيَشْمَل الْحَيَوَانَ، فَتَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ فِي الدَّيْنَيْنِ إِذَا كَانَا عَرَضَيْنِ مُطْلَقًا عَنِ التَّقْيِيدِ بِكَوْنِهِمَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ وَبِكَوْنِهِمَا حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ سَوَاءٌ تَسَاوَيَا أَجَلاً أَوْ لاَ حَل أَجَلُهُمَا أَوْ حَل أَحَدُهُمَا، أَوْ لَمْ يَحِلاَّ، لِبُعْدِ قَصْدِ الْمُكَايَسَةِ فِي الْعَرَضِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ بَيْعٌ وَإِطْلاَقُ الْمُقَاصَّةِ عَلَيْهِ مَجَازٌ، وَهَذَا إِنِ اتَّحَدَا جِنْسًا وَصِفَةً كَثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ أَوْ مَرَوِيَّيْنِ، أَوْ ثَوْبَيْنِ مِنَ الْقُطْنِ جَيِّدَيْنِ أَوْ رَدِيئَيْنِ.
وَأَمَّا إِنِ اخْتَلَفَا أَجَلاً: بِأَنْ أُجِّلاَ بِأَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مَعَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ كَثَوْبٍ وَكِسَاءٍ، أَوْ ثَوْبٍ وَجُوخَةٍ مُنِعَتِ الْمُقَاصَّةُ إِنْ لَمْ يَحِلاَّ مَعًا، أَوْ لَمْ يَحِل أَحَدُهُمَا، وَإِلاَّ جَازَتْ، أَيْ تَجُوزُ بِحُلُول أَحَدِهِمَا عَلَى الْمَذْهَبِ لاِنْتِفَاءِ قَصْدِ الْمُكَايَسَةِ.
وَإِنِ اتَّحَدَا جِنْسًا كَثَوْبَيْ قُطْنٍ، وَالصِّفَةُ مُتَّفِقَةٌ: كَهَرَوِيَّيْنِ أَوْ مَرَوِيَّيْنِ، أَوْ مُخْتَلِفَةٌ: كَأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَرَوِيًّا وَالآْخَرُ مَرَوِيًّا جَازَتِ الْمُقَاصَّةُ إِنِ اتَّفَقَ الأَْجَل، وَأَحْرَى إِنْ حَلاَّ، لِبُعْدِ التُّهْمَةِ، وَإِلاَّ بِأَنِ اخْتَلَفَ الأَْجَل مَعَ اخْتِلاَفِ الصِّفَةِ فَلاَ تَجُوزُ مُطْلَقًا: سَوَاءٌ كَانَا مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ (20) . 12 - وَلِلْمُقَاصَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ شُرُوطٌ ذَكَرَهَا الزَّرْكَشِيُّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - أَنْ يَكُونَ فِي الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ، فَأَمَّا الأَْعْيَانُ فَلاَ يَصِيرُ بَعْضُهَا قِصَاصًا عَنْ بَعْضٍ لأَِنَّهُ يَكُونُ كَالْمُعَاوَضَةِ فَيَفْتَقِرُ إِلَى التَّرَاضِي. وَلأَِنَّ الأَْغْرَاضَ تَخْتَلِفُ فِي الأَْعْيَانِ، بِخِلاَفِ الدُّيُونِ فَإِنَّهَا فِي الذِّمَّةِ سَوَاءٌ فَلاَ مَعْنَى لِقَبْضِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ رَدِّهِ إِلَيْهِ، وَمِنْ أَجْل هَذَا الشَّرْطِ امْتَنَعَ أَخْذُ مَال الْغَرِيمِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ إِذَا كَانَ مُقِرًّا بَاذِلاً لِلْحَقِّ، لأَِنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الدَّفْعِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، وَلَوْ أَخَذَهُ ضَمِنَهُ، وَلاَ يُقَال يَصِيرُ قِصَاصًا عَنْ حَقِّهِ، لأَِنَّ الْقِصَاصَ فِي الدُّيُونِ لاَ فِي الأَْعْيَانِ.
ب - أَنْ يَكُونَ فِي الأَْثْمَانِ، أَمَّا الْمِثْلِيَّاتُ كَالطَّعَامِ وَالْحُبُوبِ فَلاَ تَقَاصَّ فِيهَا، صَرَّحَ بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ، وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: بِأَنَّ مَا عَدَا الأَْثْمَانِ يُطْلَبُ فِيهَا الْمُعَايَنَةُ.
وَحَكَى الإِْمَامُ فِي جَرَيَانِ الْمُقَاصَّةِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ وَجْهَيْنِ وَصَحَّحَ جَرَيَانَهُ، وَقَال ابْنُ الرِّفْعَةِ إِنَّهُ الْمَنْصُوصُ كَمَا حَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ.
ج - أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ مُسْتَقِرَّيْنِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَنْ كَانَا سَلَمَيْنِ، لَمْ يَجُزْ قَطْعًا وَإِنْ تَرَاضَيَا، قَالَهُ الْقَاضِي وَالْمَاوَرْدِيُّ.وَكَلاَمُ الرَّافِعِيِّ يَقْتَضِي الْجَوَازَ، لَكِنَّ الْمَنْقُول عَنِ الأُْمِّ مَنْعُ التَّقَاصِّ فِي السَّلَمِ.
د - أَنْ يَتَّفِقَا فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْحُلُول وَالأَْجَل، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالآْخَرُ دَنَانِيرَ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ.
هـ - أَنْ يَكُونَ بَعْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمَا مِنَ الآْخَرِ، فَإِنْ كَانَا مُؤَجَّلَيْنِ بِأَجَلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَطْلُبْهُ أَحَدُهُمَا مِنَ الآْخَرِ، فَقَال الْقَاضِي حُسَيْنٌ: لاَ يَجْرِي بِلاَ خِلاَفٍ، وَقَال الإِْمَامُ فِيهِ احْتِمَالٌ.
و أَنْ لاَ يَكُونَ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَى الاِحْتِيَاطِ، وَلِهَذَا قَال ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: ظَفْرُ الْمُسْتَحِقِّ بِحَقِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، إِلاَّ فِي حَقِّ الْمَجَانِينِ وَالأَْيْتَامِ وَالأَْمْوَال الْعَامَّةِ لأَِهْل الإِْسْلاَمِ.
ز - أَنْ لاَ يَكُونَ فِي قِصَاصٍ وَلاَ حَدٍّ، فَلَوْ تَقَاذَفَ شَخْصَانِ لَمْ يَتَقَاصَّا، وَلَوْ تَجَارَحَ رَجُلاَنِ وَجَبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا دِيَةُ الآْخَرِ (21) .
13 - وَعَلَى هَذَا لَوْ ثَبَتَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ، وَلِلآْخَرِ عَلَيْهِ مِثْلُهُ: سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِهَةٍ كَسَلَمٍ وَقَرْضٍ، أَوْ مِنْ جِهَتَيْنِ كَقَرْضٍ وَثَمَنٍ، وَكَانَ الدَّيْنَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْحُلُول، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِمَا كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوِ اخْتَلَفَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:
أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ النَّوَوِيِّ وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الأُْمِّ أَنَّ التَّقَاصَّ يَحْصُل بِنَفْسِ ثُبُوتِ الدَّيْنَيْنِ وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الرِّضَا، لأَِنَّ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا الآْخَرَ بِمِثْل مَالِهِ عِنَادٌ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ.
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ: وَلأَِنَّ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِوَارِثِهِ، فَإِنَّ ذِمَّتَهُ تَبْرَأُ بِانْتِقَال التَّرِكَةِ لِوَارِثِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهَا فِي دَيْنِهِ، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، لاِنْتِقَال الْعَيْنِ إِلَيْهِ.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالآْخَرِ إِنْ تَرَاضَيَا، وَإِلاَّ فَلِكُل مِنْهُمَا مُطَالَبَةُ الآْخَرِ.
وَالْقَوْل الثَّالِثُ: يَسْقُطُ بِرِضَا أَحَدِهِمَا.
وَالْقَوْل الرَّابِعُ: لاَ يَسْقُطُ وَلَوْ تَرَاضَيَا (22) .
14 - وَأَمَّا شُرُوطُ الْمُقَاصَّةِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ حَيْثُ جِنْسِ الدَّيْنَيْنِ وَالأَْجَل وَالصِّفَةِ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْثِلَةٍ فِي هَذَا الصَّدَدِ وَمِنْهَا مَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ: إِنْ كَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنٌ، وَكَانَا نَقْدَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ حَالَّيْنِ أَوْ مُؤَجَّلَيْنِ أَجَلاً وَاحِدًا تَقَاصَّا وَتَسَاقَطَا، وَلاَ يَجُوزُ إِنْ كَانَا نَقْدَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ كَدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (23) ، فَأَمَّا إِنْ كَانَا عَرَضَيْنِ، أَوْ عَرَضًا وَنَقْدًا لَمْ تَجُزْ فِيهِمَا بِغَيْرِ تَرَاضِيهِمَا بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْعَرَضُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا، لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ (24) .
صُوَرٌ مِنَ الْمُقَاصَّةِ:
تَجْرِي الْمُقَاصَّةُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِل الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
الْمُقَاصَّةُ فِي الزَّكَاةِ
15 - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِشَخْصِ عَلَى فَقِيرٍ دَيْنٌ، فَقَال جَعَلْتُهُ عَنْ زَكَاتِي، لاَ يَجْزِيهِ فِي الأَْصَحِّ حَتَّى يَقْبِضَهُ ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ.
وَعَلَى الثَّانِي يَجْزِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ (25) . مُقَاصَّةُ دَيْنِ الزَّوْجِ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَمَهْرِهَا
16 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ دَيْنٌ لاَ يَقَعُ قِصَاصًا بِدَيْنِ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ إِلاَّ بِالتَّرَاضِي، بِخِلاَفِ سَائِرِ الدُّيُونِ، لأَِنَّ دَيْنَ النَّفَقَةِ أَدْنَى، وَلَكِنْ لَوْ قَال الزَّوْجُ احْسِبُوا لَهَا نَفَقَتَهَا مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ لَهَا دَيْنًا عَلَيْهِ، فَإِذَا الْتَقَى الدَّيْنَانِ تَسَاوَيَا قِصَاصًا أَلاَ تُرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاصَّ بِمَهْرِهَا، فَالنَّفَقَةُ أَوْلَى (26) .
وَأَمَّا مُقَاصَّةُ الْمَهْرَيْنِ فَجَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ جَاءَتِ الْكُفَّارَ امْرَأَةٌ مِنَّا مُرْتَدَّةً، وَهَاجَرَتْ إِلَيْنَا امْرَأَةٌ مِنْهُمْ مُسْلِمَةً، وَطَلَبَهَا زَوْجُهَا، فَلاَ نَغْرَمُ لَهُ الْمَهْرَ، بَل نَقُول هَذِهِ بِهَذِهِ، وَنَجْعَل الْمَهْرَيْنِ قِصَاصًا، وَيَدْفَعُ الإِْمَامُ الْمَهْرَ إِلَى زَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ، وَيَكْتُبُ إِلَى زَعِيمِهِمْ لِيَدْفَعَ مَهْرَهَا إِلَى زَوْجِ الْمُهَاجِرَةِ، هَذَا إِنْ تَسَاوَى الْقَدْرَانِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَهْرُ الْمُهَاجِرَةِ أَكْثَرَ، صَرَفْنَا مِقْدَارَ مَهْرِ الْمُرْتَدَّةِ مِنْهُ إِلَى زَوْجِهَا، وَالْبَاقِي إِلَى الْمُهَاجِرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمُرْتَدَّةِ أَكْثَرَ، صَرَفْنَا مِقْدَارَ مَهْرِ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى زَوْجِهَا، وَالْبَاقِي إِلَى زَوْجِ الْمُرْتَدَّةِ (27) ، وَبِهَذِهِ الْمُقَاصَّةِ فَسَّرَ الْمُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْل مَا أَنْفَقُوا} . (28)
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ وَكَانَ لَهُ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَأَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ عَلَيْهَا بِدَيْنِهِ مَكَانَ نَفَقَتِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً فَلِلزَّوْجِ ذَلِكَ، لأَِنَّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ أَيِّ أَمْوَالِهِ شَاءَ، وَهَذَا مِنْ مَالِهِ.
وَإِنْ كَانَتْ مُعْسِرَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، لأَِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الْفَاضِل مِنْ قُوَّتِهِ، وَهَذَا لاَ يَفْضُل عَنْهَا (29) .
الْمُقَاصَّةُ فِي الْغَصْبِ
17 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْغَاصِبِ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْ جِنْسِهَا فَلاَ تَصِيرُ الْعَيْنُ قِصَاصًا فِي دَيْنِهِ إِلاَّ إِذَا تَقَاصَّا، وَكَانَتِ الْعَيْنُ مَقْبُوضَةً فِي يَدِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ فَلاَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ حَتَّى يَذْهَبَ إِلَى مَكَانِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ وَيَأْخُذَهَا (30) . وَأَمَّا مُقَاصَّةُ نَفَقَاتِ الْمَغْصُوبِ فَقَدْ نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ الْغَاصِبُ عَلَى الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ كَعَلَفِ الدَّابَّةِ، وَمُؤْنَةِ الْعَبْدِ وَكِسْوَتِهِ وَسَقْيِ الأَْرْضِ وَعِلاَجِهَا، وَخِدْمَةِ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ يُحْسَبُ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ الَّتِي تَكُونُ لِرَبِّهِ كَأُجْرَةِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَالأَْرْضِ وَيُقَاصِصُ رَبَّهُ مِنَ الْغَلَّةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الأَْظْهَرِ، وَيَرْجِعُ الْغَاصِبُ بِالأَْقَل مِمَّا أَنْفَقَ وَالْغَلَّةِ، فَإِنْ كَانَتِ النَّفَقَةُ أَقَل مِنَ الْغَلَّةِ غَرِمَ الْغَاصِبُ زَائِدَ الْغَلَّةِ لِلْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّفَقَةُ أَكْثَرَ فَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِزَائِدِ النَّفَقَةِ لِظُلْمِهِ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَلاَ يَغْرَمُ أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ شَيْئًا.
قَالُوا: وَعَلَى هَذَا فَالنَّفَقَةُ مَحْصُورَةٌ فِي الْغَلَّةِ، أَيْ: لاَ تَتَعَدَّاهَا لِذِمَّةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَلاَ لِرَقَبَةِ الْمَغْصُوبِ، وَحِينَئِذٍ فَلاَ يَرْجِعُ الْغَاصِبُ بِزَائِدِ النَّفَقَةِ عَلَى رَبِّهِ وَلاَ فِي رَقَبَتِهِ، وَلَيْسَتِ الْغَلَّةُ مَحْصُورَةً فِي النَّفَقَةِ، بَل تَتَعَدَّاهَا لِلْغَاصِبِ فَيَرْجِعُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا زَادَتْهُ الْغَلَّةُ عَلَى النَّفَقَةِ.
وَالْمَنْقُول عَنِ ابْنِ عَرَفَةَ تَرْجِيحُ الْقَوْل بِأَنَّهُ:
لاَ نَفَقَةَ لِلْغَاصِبِ لِتَعَدِّيهِ وَلِرَبِّهِ أَخْذُ الْغَلَّةِ بِتَمَامِهَا مُطْلَقًا أَنْفَقَ أَوْ لاَ (31) . الْمُقَاصَّةُ فِي الْوَدِيعَةِ
18 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُل عِنْدَ رَجُلٍ آخَرَ وَدِيعَةٌ وَلِلْمُودَعِ عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ دَيْنٌ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْوَدِيعَةِ لَمْ تَصِرِ الْوَدِيعَةُ قِصَاصًا بِدَيْنٍ إِلاَّ إِذَا اجْتَمَعَا وَتَقَاصَّا حَالَةَ كَوْنِ الْوَدِيعَةِ مَوْجُودَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ حَقِيقَةً، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ فَلاَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ حَتَّى يَذْهَبَ إِلَى مَكَانِ الْوَدِيعَةِ وَيَأْخُذَهَا (32) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: إِذَا كَانَ لِشَخْصٍ عَلَى الْفَقِيرِ دَيْنٌ، فَقَال جَعَلْتُهُ عَنْ زَكَاتِي لاَ يَجْزِيهِ فِي الأَْصَحِّ حَتَّى يَقْبِضَهُ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ (33) .
الْمُقَاصَّةُ فِي الْوَكَالَةِ
19 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكَّل دَيْنٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْوَكِيل وَالْمُوَكَّل دَيْنٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكَّل أَيْضًا دُونَ دَيْنِ الْوَكِيل، حَتَّى لاَ يَرْجِعَ الْمُوَكَّل عَلَى الْوَكِيل بِشَيْءِ مِنَ الثَّمَنِ، وَهَذَا لأَِنَّ الْمُقَاصَّةَ إِبْرَاءٌ بِعِوَضٍ فَتُعْتَبَرُ بِالإِْبْرَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلأَِنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيل احْتَجْنَا إِلَى قَضَاءٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْوَكِيل يَقْضِي لِلْمُوَكَّل، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكَّل لَمْ نَحْتَجْ إِلَى قَضَاءٍ آخَرَ فَجَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكَّل قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ، فَقَدْ أَثْبَتْنَا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُوَكَّل يَمْلِكُ إِسْقَاطَ الثَّمَنِ عَنِ الْمُشْتَرِي بِالإِْجْمَاعِ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيل لأََثْبَتْنَا حُكْمًا مُخْتَلِفًا فِيهِ لأَِنَّ الْوَكِيل يَمْلِكُ الإِْبْرَاءَ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ.
وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْوَكِيل إِذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ دَيْنٌ وَحْدَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لأَِنَّ الْوَكِيل يَمْلِكُ الإِْبْرَاءَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَنِ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا، فَيَمْلِكُ الْمُقَاصَّةَ أَيْضًا، لأَِنَّهَا إِبْرَاءٌ بِعِوَضِ، فَتُعْتَبَرُ بِالإِْبْرَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِلْمُوَكَّل فِي الإِْبْرَاءِ وَالْمُقَاصَّةِ (34) .
الْمُقَاصَّةُ فِي السَّلَمِ
20 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الْمُقَاصَّةِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ دَيْنٌ مِثْل رَأْسِ الْمَال بِعَقْدِ مُتَقَدِّمٍ عَلَى السَّلَمِ، بِأَنْ كَانَ رَبُّ السَّلَمِ بَاعَ مِنَ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَمْ يَقْبِضِ الْعَشَرَةَ حَتَّى أَسْلَمَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي حِنْطَةٍ، فَإِنْ جَعَل الدَّيْنَيْنِ قِصَاصًا أَوْ تَرَاضَيَا بِالْمُقَاصَّةِ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لاَ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَأَمَّا إِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عَنِ السَّلَمِ لاَ يَصِيرُ قِصَاصًا وَإِنْ جَعَلاَهُ قِصَاصًا.
هَذَا إِذَا كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ بِالْعَقْدِ، وَأَمَّا إِذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ وَالْقَرْضِ وَكَانَ الدَّيْنَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا، سَوَاءٌ جَعَلاَهُ قِصَاصًا أَمْ لاَ، بَعْدَ أَنْ كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ الآْخَرِ مُتَأَخِّرًا عَنْ عَقْدِ السَّلَمِ.
وَأَمَّا إِذَا تَفَاضَل الدَّيْنَانِ: بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَل وَالآْخَرُ أَدْوَنَ، فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالنُّقْصَانِ، وَأَبَى الآْخَرُ، فَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الأَْفْضَل لاَ يَصِيرُ قِصَاصًا، وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الأَْدْوَنِ يَصِيرُ قِصَاصًا (35) .
وَقَال الْكَرَابِيسِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ فِي السَّلَمِ، فَإِذَا قَال شَخْصٌ لآِخَرَ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهُ بِمَا فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَجُزْ صَرْفُ الْعَقْدِ إِلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَنْقُدْهُ فِي الْمَجْلِسِ بَطَل كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ (36) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَال الزَّرْكَشِيُّ: الْمَنْقُول عَنِ الأُْمِّ مَنْعُ التَّقَاصِّ فِي السَّلَمِ لأَِنَّ مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ الْمُقَاصَّةِ فِي الدُّيُونِ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنَانِ مُسْتَقِرَّيْنِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ (37) .
وَعَدَمُ الْجَوَازِ مَفْهُومٌ مِنْ عِبَارَاتِ الْحَنَابِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: وَلاَ يَصِحُّ عَقْدُ السَّلَمِ بِمَا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إِلَيْهِ، بِأَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَيَجْعَلُهُ رَأْسَ مَال سَلَمٍ، لأَِنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ النَّهْيِ (38) .
الْمُقَاصَّةُ فِي الْكَفَالَةِ
21 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِكَفِيل الْمَدْيُونِ دَيْنٌ عَلَى الدَّائِنِ الْمَكْفُول لَهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ الْمَكْفُول بِهِ، فَالدَّيْنَانِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمَا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الدَّيْنِ الْمَكْفُول فَلاَ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا إِلاَّ بِتَرَاضِي الدَّائِنِ الْمَكْفُول لَهُ مَعَ كَفِيل الْمَدْيُونِ لاَ مَعَ الْمَدْيُونِ (39) .
الْمُقَاصَّةُ فِي الْوَقْفِ وَالْوَصِيَّةِ:
22 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا آجَرَ نَاظِرُ وَقْفٍ أَهْلِيٍّ - انْحَصَرَ رِيعُ الْوَقْفِ الْمَزْبُورِ فِيهِ نَظَرًا وَاسْتِحْقَاقًا - أَرَاضِيَ الْوَقْفِ الْمَذْكُورِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةِ الْمِثْل إِجَارَةً صَحِيحَةً مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَقَاصَصَهُ بِذَلِكَ تَجُوزُ الْمُقَاصَّةُ قِيَاسًا عَلَى الْوَصِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْوَصِيَّ لَوْ بَاعَ مَال الصَّغِيرِ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَصِيرُ قِصَاصًا، إِذِ الْوَقْفُ وَالْوَصِيَّةُ أَخَوَانِ.
وَإِذَا كَانَ النَّاظِرُ مُسْتَحِقًّا لِلأُْجْرَةِ كُلِّهَا، وَتَمَّتِ الْمُدَّةُ، وَالدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الأُْجْرَةِ فَلاَ خَفَاءَ فِي صِحَّةِ التَّقَاصِّ بِالاِتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِبَعْضِهِمَا وَوَقَعَ التَّقَاصُّ بِهَا فَالتَّقَاصُّ صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَضْمَنُ النَّاظِرُ. وَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَصِحُّ التَّقَاصُّ (40)
__________
(1) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(2) لسان العرب، والمعجم الوسيط، والحطاب 4 / 549.
(3) مرشد الحيران المادة (224) .
(4) القوانين الفقهية / 297.
(5) المصباح المنير.
(6) مجلة الأحكام العدلية للمادة (127) .
(7) المصباح المنير، ولسان العرب.
(8) حاشية ابن عابدين 4 / 276.
(9) تكملة فتح القدير 6 / 25، 26.
(10) حديث ابن عمر: " كنت أبيع الإبل بالبقيع ". أخرجه أبو داود (3 / 651) ، ونقل ابن حجر في التلخيص (2 / 26) عن الشافعي أنه أشار إلى ضعفه.
(11) بدائع الصنائع 5 / 234، والهداية وشروحها 5 / 380 ط بولاق، ونيل الأوطار 5 / 254، 255، ومواهب الجليل 4 / 549.
(12) مرشد الحيران المادة (225، 226) والأم للشافعي 8 / 59 ط دار المعرفة، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 391، والمغني 9 / 447، 448.
(13) حاشية الدسوقي 3 / 227.
(14) حاشية ابن عابدين 4 / 239، 240، والفتاوى الهندية 3 / 230.
(15) مرشد الحيران المادة (230) .
(16) مرشد الحيران المادة (227) .
(17) حاشية ابن عابدين 4 / 239، 240، والفتاوى الهندية 3 / 230.
(18) القوانين الفقهية / 297، وحاشية الدسوقي 3 / 228، وجواهر الإكليل 2 / 77.
(19) المراجع السابقة.
(20) حاشية الدسوقي 3 / 229، 230، والقوانين الفقهية 298، وجواهر الإكليل 2 / 77.
(21) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 393.
(22) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 391.
(23) حديث: " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ". أخرجه الدارقطني (3 / 71) من حديث ابن عمر، ونقل ابن حجر في التلخيص (3 / 26، 27) عن الشافعي أنه قال: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث.
(24) المغني 9 / 447، 448.
(25) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 396، وروضة الطالبين 2 / 320.
(26) المبسوط للسرخسي 5 / 194، وحاشية ابن عابدين 4 / 240.
(27) روضة الطالبين 10 / 348، والمنثور في القواعد للزركشي 1 / 396.
(28) سورة الممتحنة / 11.
(29) المغني 7 / 576.
(30) الأشباه والنظائر لابن نجيم / 226 ط دار مكتبة الهلال بيروت، والفتاوى الهندية 3 / 230، ومرشد الحيران المادة (229) .
(31) حاشية الدسوقي 3 / 449، 450.
(32) الفتاوى الهندية 3 / 230، ومرشد الحيران المادة (228) ، وحاشية ابن عابدين 4 / 239.
(33) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 396.
(34) نتائج الأفكار (تكملة فتح القدير) 6 / 25، 26، والمبسوط 12 / 207، والفتاوى الخانية على هامش الفتاوى الهندية 3 / 22.
(35) الفتاوى الهندية 3 / 188، 189.
(36) الفروق للكرابيسي 2 / 102.
(37) المنثور في القواعد للزركشي 1 / 393، 394.
(38) كشاف القناع 3 / 304.
(39) مرشد الحيران المادة (231) .
(40) تنقيح الفتاوى الحامدية 1 / 224 نشر دار المعارف.
الموسوعة الفقهية الكويتية: 329/ 38