القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
تدبير الإنسان أموره بخفية، ودقة، بحيث يتوصَّل إلى غرضه، ولا يُتفطن له إلا بنوع من الذكاء .
تدبير الإنسان أموره بخفية، ودقة؛ ليتوصَّل إلى غرضه، ولا يُتفطن له إلا بنوع من الذكاء.
التَّعْرِيفُ:
1 - يَأْتِي الاِحْتِيَال بِمَعْنَى طَلَبِ الْحِيلَةِ، وَهِيَ الْحِذْقُ فِي تَدْبِيرِ الأُْمُورِ، أَيْ تَقْلِيبِ الْفِكْرِ حَتَّى يَهْتَدِيَ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى الاِحْتِيَال بِالدِّينِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ لَهُ عَنْ هَذَا، إِلاَّ أَنَّ ابْنَ الْقَيِّمِ ذَكَرَ أَنَّهُ غَلَبَ عَلَى الْحِيلَةِ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهَا فِي سُلُوكِ الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الرَّجُل إِلَى حُصُول غَرَضِهِ بِحَيْثُ لاَ يُتَفَطَّنُ لَهُ إِلاَّ بِنَوْعٍ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ. فَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مَوْضُوعِهَا فِي أَصْل اللُّغَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْمَقْصُودُ أَمْرًا جَائِزًا أَمْ مُحَرَّمًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا اسْتِعْمَالُهَا فِي التَّوَصُّل إِلَى الْغَرَضِ الْمَمْنُوعِ مِنْهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلاً أَوْ عَادَةً. وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فِي عُرْفِ النَّاسِ (2) .
إِطْلاَقَاتُهُ:
الأَْوَّل: بِمَعْنَى اسْتِعْمَال الطُّرُقِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الإِْنْسَانُ إِلَى غَرَضِهِ (3) .
الثَّانِي: بِمَعْنَى نَقْل الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى ذِمَّةٍ، وَهُوَ الْحَوَالَةُ (4) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
أَوَّلاً: بِالْمَعْنَى الأَْوَّل:
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الاِحْتِيَال بِاخْتِلاَفِ الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ، وَبِاخْتِلاَفِ مَآل الْعَمَل، وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الآْتِي:
2 - يَكُونُ الاِحْتِيَال حَرَامًا إِذَا تَسَبَّبَ بِهِ الْمُكَلَّفُ فِي إِسْقَاطِ مَا وَجَبَ شَرْعًا، حَتَّى يَصِيرَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الظَّاهِرِ، أَوْ فِي جَعْل الْمُحَرَّمِ حَلاَلاً فِي الظَّاهِرِ. ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَل إِذَا قُصِدَ بِهِ إِبْطَال حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلُهُ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، حَتَّى يَصِيرَ مَآل ذَلِكَ الْعَمَل خَرْمَ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ، فَهُوَ حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَشَرِبَ خَمْرًا أَوْ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ فَوَهَبَهُ كَيْ لاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ (5) .
وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِي الْمَال بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَبْل الْحَوْل لِلْفِرَارِ مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَقَال أَبُو يُوسُفَ: لاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّهُ امْتِنَاعٌ عَنِ الْوُجُوبِ لإِِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ. وَفِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ الأَْصَحُّ. وَقَال مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ. وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ حَمِيدُ الدِّينِ الضَّرِيرُ؛ لأَِنَّ فِيهِ إِضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ، وَإِبْطَال حَقِّهِمْ مَآلاً. وَقِيل: الْفَتْوَى عَلَى قَوْل مُحَمَّدٍ، كَذَلِكَ الأَْمْرُ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّافِعِيَّةِ، فَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ وَالشِّرْوَانِيِّ: يُكْرَهُ تَنْزِيهًا إِنْ قَصَدَ بِهِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ. وَقَال الشِّرْوَانِيُّ: وَفِي الْوَجِيزِ يَحْرُمُ. زَادَ فِي الإِْحْيَاءِ: وَلاَ تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ بَاطِنًا، وَأَنَّ هَذَا مِنَ الْفِقْهِ الضَّارِّ، وَقَال ابْنُ الصَّلاَحِ يَأْثَمُ بِقَصْدِهِ لاَ بِفِعْلِهِ (6) .
كَذَلِكَ يَحْرُمُ الاِحْتِيَال لأَِخْذِ أَمْوَال النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَإِبْطَال حُقُوقِهِمْ. وَالدَّلِيل عَلَى حُرْمَةِ الاِحْتِيَال قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ. . .} ؛ لأَِنَّهُمُ احْتَالُوا لِلاِصْطِيَادِ فِي السَّبْتِ بِصُورَةِ الاِصْطِيَادِ فِي غَيْرِهِ. وَقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ (7)
3 - وَيَكُونُ الاِحْتِيَال جَائِزًا إِذَا قَصَدَ بِهِ أَخْذَ حَقٍّ، أَوْ دَفْعَ بَاطِلٍ، أَوِ التَّخَلُّصَ مِنَ الْحَرَامِ، أَوِ التَّوَصُّل إِلَى الْحَلاَل، وَسَوَاءٌ أَكَانَتِ الْوَسِيلَةُ مُحَرَّمَةً أَمْ مَشْرُوعَةً، إِلاَّ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً فَهُوَ آثِمٌ عَلَى الْوَسِيلَةِ دُونَ الْمَقْصُودِ، وَقَدْ يُطْلَبُ الاِحْتِيَال وَلاَ سِيَّمَا فِي الْحَرْبِ؛ لأَِنَّهَا خُدْعَةٌ. وَالأَْصْل فِي الْجَوَازِ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} . (8)
4 - وَمِنْهُ مَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ يَتَّفِقُ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ لَهُ، وَلاَ ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى خِلاَفِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الشَّرِيعَةُ بِحَسَبِ الْمَسْأَلَةِ الْمَفْرُوضَةِ. فَمَنْ رَأَى مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الاِحْتِيَال فِي أَمْرٍ مَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْمَصْلَحَةِ فَالتَّحَيُّل جَائِزٌ عِنْدَهُ فِيهِ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ فَالتَّحَيُّل مَمْنُوعٌ عِنْدَهُ فِيهِ. عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مَنْ يُجِيزُ التَّحَيُّل فِي بَعْضِ الْمَسَائِل فَإِنَّمَا يُجِيزُهُ بِنَاءً عَلَى تَحَرِّي قَصْدِ الْمُكَلَّفِ الْمُحْتَال، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ لأَِنَّ مُصَادَمَةَ الشَّارِعِ صُرَاحًا، عِلْمًا أَوْ ظَنًّا، مَمْنُوعٌ، كَمَا أَنَّ الْمَانِعَ إِنَّمَا مَنَعَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ وَلِمَا وُضِعَ فِي الأَْحْكَامِ مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَمِنْ ذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّل، فَإِنَّهُ تَحَيُّلٌ إِلَى رُجُوعِ الزَّوْجَةِ إِلَى مُطَلِّقِهَا الأَْوَّل بِحِيلَةٍ تُوَافِقُ فِي الظَّاهِرِ قَوْلَهُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِل لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (9) فَقَدْ نَكَحَتِ الْمَرْأَةُ هَذَا الْمُحَلِّل، فَكَانَ رُجُوعُهَا إِلَى الأَْوَّل بَعْدَ تَطْلِيقِ الثَّانِي مُوَافِقًا. وَنُصُوصُ الشَّارِعِ مُفْهِمَةٌ لِمَقَاصِدِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ بُيُوعُ الآْجَال (10) .
5 - وَأَكْثَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا بِالاِحْتِيَال هُمُ الْحَنَفِيَّةُ فَالشَّافِعِيَّةُ. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَإِنَّ الأَْصْل عِنْدَهُمْ هُوَ مَنْعُ الاِحْتِيَال غَالِبًا، وَهُوَ لاَ يُفِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلاَ فِي الْمُعَامَلاَتِ؛ لأَِنَّ تَجْوِيزَ الْحِيَل يُنَاقِضُ سَدَّ الذَّرَائِعِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ يَسُدُّ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَفَاسِدِ بِكُل مُمْكِنٍ، وَالْمُحْتَال يَفْتَحُ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا بِحِيلَةٍ (11) .
ثَانِيًا بِالْمَعْنَى الثَّانِي:
6 - الاِحْتِيَال بِالْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْمُحِيل يَكُونُ نَتِيجَةَ عَقْدِ الْحَوَالَةِ، فَالْحَوَالَةُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْل دَيْنٍ مِنْ ذِمَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ - كَمَا يَقُول بَعْضُ الْفُقَهَاءِ - مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. 7 - وَهِيَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهَا. وَالأَْصْل فِيهَا قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: إِذَا أُحِيل أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَل (1) وَالْحُكْمُ فِيهَا بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْمُحِيل مِنْ دَيْنِ الْمُحَال لَهُ. وَقَدِ اشْتَرَطَ الْفُقَهَاءُ لِصِحَّتِهَا شُرُوطًا، كَرِضَا الْمُحِيل الْمُحَال لَهُ، وَالْعِلْمِ بِمَا يُحَال بِهِ وَعَلَيْهِ (2) . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّفَاصِيل تُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (حَوَالَةٌ) .
مَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
8 - لِلاِحْتِيَال بِمَعْنَى الطُّرُقِ الَّتِي يَتَوَصَّل بِهَا الإِْنْسَانُ إِلَى غَرَضِهِ أَحْكَامٌ مُفَصَّلَةٌ فِي مُصْطَلَحِ (حِيلَةٌ) وَفِي كُتُبِ الأُْصُول وَلَهَا عَلاَقَتُهَا بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَبِالذَّرَائِعِ. وَيُنْظَرُ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) المصباح المنير ولسان العرب.
(2) الموافقات 4 / 201 نشر المكتبة التجارية، والفتاوى الهندية 6 / 390 ط بولاق، وأعلام الموقعين 3 / 252 ط السعادة بمصر.
(3) أعلام الموقعين 3 / 252، والموافقات 4 / 201
(4) نهاية المحتاج 4 / 408 ط مصطفى الحلبي، ومنح الجليل 3 / 228 نشر ليبيا.
(5) الموافقات 2 / 379، 4 / 201 والشرح الصغير 1 / 600 ط دار المعارف، والمغني 2 / 534 ط المنار.
(6) الأشباه لابن نجيم 2 / 292 ط استنبول، والشرواني 3 / 235 ط دار صادر.
(7) إعلام المرقعين 3 / 340، والأشباه والنظائر لابن نجيم 2 / 291، والفتاوى الهندية 6 / 390، والمغني 4 / 304 ط الرياض وحديث " لا يجمع. . . " - أخرجه البخاري وأبو داود وأحمد والترمذي والحاكم وغيرهم (فتح الباري 3 / 314 ط السلفية) .
(8) الفتاوى الهندية 6 / 390، وإعلام المرقعين 3 / 347، والمرافقات 2 / 387، والمغني 10 / 396، والمخارج في الحيل ص 87 وما بعدها نشر مكتبة المثني ببغداد. والآية من سورة (ص) / 44
(9) سورة البقرة / 230
(10) الموافقات 2 / 388
(11) إعلام الموقعين 3 / 171، والشرح الصغير 1 / 601 ط دار المعارف، والفتاوى الهندية 6 / 390، والأشباه والنظائر 2 / 291، والموافقات 4 / 198
الموسوعة الفقهية الكويتية: 101/ 2