البحث

عبارات مقترحة:

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

الحسبة والمحتسبون (9) احتساب أبي بكر رضي الله عنه (1)

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أعلام الدعاة
عناصر الخطبة
  1. أهمية الحسبة والاحتساب في الإسلام .
  2. وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
  3. صور من احتساب أبي بكر الصديق وإنكاره للمنكرات .
  4. غيرة أبي بكر على معالم الشريعة .
  5. الحث على التأسي بالأنبياء والصالحين في إنكار المنكرات. .

اقتباس

غَضِبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا شَتَمَ الْيَهُودِيُّ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَا كَانَ غَضَبُهُ إِلَّا غَيْرَةً لِلَّـهِ -تَعَالَى-. فَأَيْنَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَنْ يَحْضُرُ مَجَالِسَ يُسْخَرُ فِيهَا بِدِينِ اللَّـهِ تَعَالَى وَبِشَرِيعَتِهِ الْغَرَّاءِ، فَلَا يَغْضَبُ لِلَّـهِ تَعَالَى، وَلَا يُنْكِرُ عَلَى الْخَائِضِينَ حَدِيثَهُمْ، وَلَا يُفَارِقُ تِلْكَ المَجَالِسَ؟! وَأَيْنَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَنْ يَقْتَنِي قَنَوَاتٍ أَوْ صُحُفًا أَوْ مَجَلَّاتٍ تَطْعَنُ فِي أَحْكَامِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَتَرْفُضُ شَرِيعَتَهُ، وَلَا يُحَرِّكُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا يَدْفَعُهُ لِلْخَوْفِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ شَرِيعَتُهُ، وَيُعْتَرَضَ عَلَى أَحْكَامِهِ وَهُوَ يُشَاهِدُ وَيَقْرَأُ؟! فَمَا أَشَدَّ بُرُودَةَ الدِّينِ فِي الْقُلُوبِ!!

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ أَنْزَلَ الْكِتَابَ المُبِينَ، وَأَوْضَحَ شَرَائِعَ الدِّينِ، وَأَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَأَقَامَ حُجَّتَهُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ؛ فَقَدْ هَدَانَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، وَدَلَّنَا عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ خَيْرِيَّةَ الْأُمَّةِ فِي بَيَانِهَا لِلْحَقِّ، وَاحْتِسَابِهَا عَلَى الْخَلْقِ ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ? [آل عمران: 110]؛ فَهِيَ أُمَّةٌ لَا تَتَوَاطَأُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا تَتَّفِقُ عَلَى الشَّرِّ، وَتَتَوَاصَى بِالْحَقِّ وَباِلصَّبْرِ، وَتَبْقَى خَيْرِيَّتُهَا مَا بَقِيَتِ الْحِسْبَةُ فِيهَا.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى لِيُزِيلَ حُرِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ الْعَبَثِيَّةِ، وَيَضْبِطَهَا بِالْقُيُودِ الرَّبَّانِيَّةِ؛ فَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَأَمَرَ بِالْوَاجِبَاتِ، وَنَهَى عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَفَرَضَ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ؛ لِتَتَرَبَّى أُمَّتُهُ عَلَى أَتَمِّ الْعَقَائِدِ وَالْعِبَادَاتِ، وَأَزْكَى الْأَخْلَاقِ وَالمُعَامَلَاتِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاجْتَمِعُوا عَلَى أَمْرِهِ وَلَا تَعْصُوهُ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ مَا يُفَرِّقُ الْقُلُوبَ وَيُبَاعِدُهَا تَفْرِقَةُ الدِّينِ، وَالتَّنَائِي عَنْ بَعْضِ أَحْكَامِهِ ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ? [الأنعام: 159] وَلَا يَنْشَأُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ كَرَاهِيَةِ بَعْضِ شَعَائِرِهِ وَشَرَائِعِهِ؛ وَذَلِكَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ? [محمد: 9].

أَيُّهَا النَّاسُ: مَنْ طَالَعَ سِيرَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسِيرَةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- هَالَهُ مَا فِيهَا مِنْ أَخْبَارِ الِاحْتِسَابِ عَلَى النَّاسِ، بِالتَّقْرِيرِ الشَّرْعِيِّ، وَالتَّنْفِيذِ الْعَمَلِيِّ؛ فَحَيَاةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُلُّهَا احْتِسَابٌ، مُنْذُ بَعْثَتِهِ إِلَى وَفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ حَيَاةُ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ كَانَتْ كُلُّهَا احْتِسَابًا عَلَى النَّاسِ فِي أَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهْيِهِمْ عَنِ المُنْكَرِ، وَالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ تَطْبِيقًا لِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا قِيَامَ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِهَا، فَمَنْ دَعَا إِلَى تَرْكِهَا فَهُوَ يَسْعَى إِلَى اضْمِحْلَالِ الْإِسْلَامِ وَإِطْفَاءِ نُورِهِ.

وَهَذَا حَدِيثٌ عَنْ شَيْءٍ مِنِ احْتِسَابِ الصِّدِّيقِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ بِهِمْ».

وَمَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي احْتِسَابِهِ إِلَّا مُتَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي عَلَّمَهُمُ الِاحْتِسَابَ، وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ عُقُوبَاتِ تَرْكِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَنْهَجَهُ فِي حَيَاتِهِ حِينَ قَالَ: «لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

هَذَا الصِّدِّيقُ المُتَأَسِّي بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شُؤُونِهِ كُلِّهَا خَشِيَ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ تَرْكِ الِاحْتِسَابِ اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمٍ خَطَإٍ لِآيَةٍ قُرْآنِيَّةٍ، فَمَا هَنِئَتْ نَفْسُهُ حَتَّى بَيَّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ شَعِيرَةَ الْحِسْبَةِ لَا تَسْقُطُ، وَأَنَّ تَعْطِيلَهَا سَبَبٌ لِلْعَذَابِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ? [المائدة: 105]، وَإِنَّكُمْ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا المُنْكَرَ لا يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ اللهُ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِعِقَابِهِ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ).

فَإِذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَخَافُ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَتْرُكَ الِاحْتِسَابَ لِخَطَإٍ فِي فَهْمِ آيَةٍ، وَيُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ تَرْكَ إِنْكَارِ المُنْكَرِ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ؛ فَلَا عَجَبَ أَنْ يُمَارِسَ أَبُو بَكْرٍ وَظِيفَةَ الِاحْتِسَابِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ سَوَاءً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ.

وَمِمَّا عُرِفَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ، غَزِيرَ الدَّمْعِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا رَأَى مُنْكَرًا اشْتَدَّ غَضَبُهُ لِلَّـهِ تَعَالَى فَلَا يَقِفُ فِي وَجْهِهِ شَيْءٌ، وَمِنْ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَيْتَ المُدَارَسِ -وَهُوَ مَكَانٌ تُتْلَى فِيهِ التَّوْرَاةُ- فَوَجَدَ مِنْ يَهُودَ نَاسًا كَثِيرًا قَدِ اجْتَمَعُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: فِنْحَاصٌ، كَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، وَمَعَهُ حَبْرٌ يُقَالُ لَهُ: أَشْيَعُ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِفِنْحَاصٍ: وَيْحَكَ يَا فِنْحَاصُ! اتَّقِ اللهَ وَأَسْلِمْ، فَوَاللَّـهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّـهِ، قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، قَالَ فِنْحَاصٌ: وَاللَّـهِ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا بِنَا إِلَى اللَّـهِ مِنْ فَقْرٍ، وَإِنَّهُ إِلَيْنَا لَفَقِيرٌ، وَمَا نَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ كَمَا يَتَضَرَّعُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ، وَلَوْ كَانَ عَنَّا غَنِيًّا مَا اسْتَقْرَضَ مِنَّا كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ، يَنْهَاكُمْ عَنِ الرِّبَا وَيُعْطِينَاهُ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَنَّا مَا أَعْطَانَا الرِّبَا، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ، فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصٍ ضَرْبَةً شَدِيدَةً.

 وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ يَا عَدُوَّ اللَّـهِ، فَأَكْذِبُونَا مَا اسْتَطَعْتُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَذَهَبَ فِنْحَاصٌ إِلَى رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، انْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَبِي بَكْرٍ: «وَمَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟».

 فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، إِنَّ عَدُوَّ اللَّـهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا، زَعَمَ أَنَّ اللهَ فَقِيرٌ، وَأَنَّهُمْ عَنْهُ أَغْنِيَاءُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْتُ لِلَّـهِ مِمَّا قَالَ، فَضَرَبْتُ وَجْهَهُ، فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصٌ، وَقَالَ: مَا قُلْتُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا قَالَ فِنْحَاصٌ رَدًّا عَلَيْهِ وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ: ?لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ? [آل عمران: 181] (رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ حَجَرٍ).

غَضِبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا شَتَمَ الْيَهُودِيُّ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَا كَانَ غَضَبُهُ إِلَّا غَيْرَةً لِلَّـهِ -تَعَالَى-. فَأَيْنَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَنْ يَحْضُرُ مَجَالِسَ يُسْخَرُ فِيهَا بِدِينِ اللَّـهِ تَعَالَى وَبِشَرِيعَتِهِ الْغَرَّاءِ، فَلَا يَغْضَبُ لِلَّـهِ تَعَالَى، وَلَا يُنْكِرُ عَلَى الْخَائِضِينَ حَدِيثَهُمْ، وَلَا يُفَارِقُ تِلْكَ المَجَالِسَ؟! وَأَيْنَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مَنْ يَقْتَنِي قَنَوَاتٍ أَوْ صُحُفًا أَوْ مَجَلَّاتٍ تَطْعَنُ فِي أَحْكَامِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَتَرْفُضُ شَرِيعَتَهُ، وَلَا يُحَرِّكُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا يَدْفَعُهُ لِلْخَوْفِ مِنْ نِقْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ أَنْ تُنْتَهَكَ شَرِيعَتُهُ، وَيُعْتَرَضَ عَلَى أَحْكَامِهِ وَهُوَ يُشَاهِدُ وَيَقْرَأُ؟! فَمَا أَشَدَّ بُرُودَةَ الدِّينِ فِي الْقُلُوبِ!!

وَكَمَا احْتَسَبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى الْيَهُودِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَسِبُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذَا وَقَعَ مِنْهُمْ خَطَأٌ، كَمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ، فَرَآهَا لاَ تَكَلَّمُ، فَقَالَ: «مَا لَهَا لاَ تَكَلَّمُ؟» قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً، قَالَ لَهَا: «تَكَلَّمِي، فَإِنَّ هَذَا لاَ يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، فَتَكَلَّمَتْ...» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَثِيرَ الِاحْتِسَابِ عَلَى وَلَدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَمَا كَانَ لِيَحْتَسِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَتْرُكَ الْأَقْرَبِينَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْهَدَفَ مِنَ الِاحْتِسَابِ إِنْقَاذُ المُحْتَسَبِ عَلَيْهِمْ مِنْ مُوجِبَاتِ غَضَبِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَحِيَاطَةِ الدِّينِ مِنْ أَنْ يَتَلَعَّبَ بِهِ السُّفَهَاءُ، أَوْ يَسْخَرَ مِنْهُ المُنَافِقُونَ، أَوْ يَرُدَّ أَحْكَامَهُ السَّفِلَةُ الشَّهْوَانِيُّونَ.

وَمِنِ احْتِسَابِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى وَلَدِهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ المُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مرَّ بابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمنِ وَهُوَ يُمَاظُّ جَاراً لَهُ – أَيْ: يُنَازِعُهُ وَيُخَاصِمُهُ - فَقَالَ: لَا تُمَاظِّ جارَكَ، فإِنَّهُ يَبْقَى ويَذْهَبُ النّاسُ».

وَاحْتَسَبَ أَيْضًا عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُاَ- كَمَا فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ -رَحْمَةُ اللَّـهِ عَلَيْهِ- عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَمِعَ صَوْتَ عَائِشَةَ عَالِيًا، فَلَمَّا دَخَلَ تَنَاوَلَهَا لِيَلْطِمَهَا، وَقَالَ: "أَلَا أَرَاكِ تَرْفَعِينَ صَوْتَكِ عَلَى رَسُولِ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْجِزُهُ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُغْضَبًا...» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

رَضِيَ اللهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فَمَا كَانَ أَقْوَاهُ فِي الْحَقِّ رَغْمَ لِينِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرِقَّتِهِ! وَرَضِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَجَمَعَنَا بِهِمْ فِي دَارِ النَّعِيمِ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ....

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَمُرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ؛ فَإِنَّ الْفَلَاحَ الْعَاجِلَ وَالْآجِلَ فِي إِقَامَةِ شَعِيرَةِ الْحِسْبَةِ، وَنُصْرَةِ المُحْتَسِبِينَ ?وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [آل عمران: 104].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مَنْ يُعَارِضُ شَعِيرَةَ الْحِسْبَةِ، وَيُطَالِبُ بِحَلِّ جِهَازِهَا، بِزَعْمِ أَنَّهَا تَتَدَخَّلُ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ، وَتُضَيِّقُ الْحُرِّيَّاتِ عَلَى النَّاسِ، وَيُنَادِي بِعَدَمِ الْوِصَايَةِ عَلَى الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْرَاضِ فَهُوَ يَدْعُو إِلَى دِينِ المُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ المُشْرِكِينَ كَانُوا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَحْرَارًا مِنْ أَيَّةِ قُيُودٍ دِينِيَّةٍ؛ فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَعْبُدُ مَا يَشَاءُ، وَيَقُولُ مَا يَشَاءُ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بِلَا حَسِيبٍ وَلَا رَقِيبٍ.

فَأَرْسَلَ اللهُ -تَعَالَى- الرُّسُلَ لِتَضْبِطَ فَوْضَى النَّاسِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ بِضَوَابِطِ الشَّرْعِ، وَمَا كَانَ اعْتِرَاضُ المُشْرِكِينَ عَلَى الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- إِلَّا لِأَجْلِ تَقْيِيدِ حُرِّيَّاتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَمَتَّعُونَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالُوا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ?أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ? [هود: 87]، وَالمُشْرِكُونَ فِي مَكَّةَ إِنَّمَا رَفَضُوا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا سَتُقَيِّدُهُمْ بِأَوَامِرَ وَنَوَاهٍ لَا يُرِيدُونَ الِالْتِزَامَ بِهَا.

إِنَّ الِاحْتِسَابَ عَلَى النَّاسِ هُوَ حَقِيقَةُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَإِنَّ رَفْضَ شَعِيرَةَ الْحِسْبَةِ هُوَ عَيْنُ دِينِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ مَا خُلِقُوا إِلَّا عَبَثًا ?وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ? [الأنعام: 29]، وَلِذَا فَهُمْ يُرِيدُونَ التَّمَتُّعَ بِمَلَذَّاتِ الدُّنْيَا دُونَ مُحَرَّمَاتٍ يُمْنَعُونَ مِنْهَا، أَوْ وَاجِبَاتٍ لِلَّـهِ -تَعَالَى- يُؤَدُّونَهَا، وَيُرِيدُونَهَا حُرِّيَّةً مُطْلَقَةً مِنْ أَيَّةِ قُيُودٍ دِينِيَّةٍ إِلَّا قُيُودَ أَهْوَائِهِمْ.

وَأَعْظَمُ مَأْمُورٍ بِهِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِالِاحْتِسَابِ، وَأَعْظَمُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَهُوَ الشِّرْكُ فَإِنَّمَا يُحْمَى النَّاسُ مِنْهُ بِالِاحْتِسَابِ، فَإِذَا عُطِّلَتِ الْحِسْبَةُ، وَقُضِيَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ اضْمَحَلَّ الدِّينُ، وَوَهَتْ أَرْكَانُهُ، وَذَهَبَتْ شَعَائِرُهُ.

فَمَنْ مَارَسَ الْحِسْبَةَ، وَأَيَّدَ المُحْتَسِبِينَ فَإِنَّمَا يَقُومُ بِوَظِيفَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَيَنْحَازُ إِلَى صَفِّهِمْ. وَمَنْ حَارَبَ الْحِسْبَةَ وَالمُحْتَسِبِينَ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ -يَشْعُرُ أَوْ لَا يَشْعُرُ- يَقُومُ بِوَظِيفَةِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا الرُّسُلَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَلَوْ كَانَ فِي عِدَادِ المُصَلِّينَ.

فَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ يَقَعُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُدْرِكُ مَغَبَّةَ فِعْلِهِ، إِمَّا تَقْلِيدًا لِغَيْرِهِ، أَوْ عَصَبِيَّةً لِمَعَارِفِهِ، أَوْ كَرَاهِيَةً لِرِجَالِ الْحِسْبَةِ! ?رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ? [آل عمران: 8].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...