القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عمر القزابري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
أين هو واقع الجسد الواحد وإخواننا يموتون تحت الثلوج في المخيمات، بعد أن فروا من البراميل المتفجرة التي تُلقَى عليهم من أصحاب القلوب المتحجرة، كم تألمنا بصورة أب يحمل طفله وهو جثة هامدة متجمدة من آثار الثلج!! في رقبة مَن ذلك الطفل وأمثاله وأمثاله.. يقع هذا في عالم يتشدق أصحابه بحقوق الإنسان وحقوق الأطفال!! يا أمتي أليس الأولى بدلاً من الصراعات والتطاحنات والتجاذبات أن نلتفت إلى هؤلاء فنرحمهم، ونسعى في تفريج كرباتهم، ألا تستطيع أمتنا أن تُوقف صراعاتها لو أسبوعًا واحدًا حتى تلتفت إلى هؤلاء، هل عجزت أمة الثروات والذهب الأسود الذي سوَّد القلوب، أمة الخيرات هل عجزت عن أن توفر لهؤلاء المستضعفين الحماية من البرد؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..
معاشر الصالحين: من غلبت رحمته بطشه، وقهر صفحه طيشه، وكان أملك شيء له عقله، وأكبر رقيب عليه فضله؛ أمن زلة القدم ووقفة الندم وواقع العثار ومصارع الاغترار، ولم يعدم الذكر الجميل والشكر الجزيل، والاستظهار على الزمن بعقد الأيادي والمنن؛ فإن أفضل الأخلاق روعة وحسنًا، وأظهر الأفعال بركة ويمنى، وأجلّ الأمور حلولاً ووقوعًا وأسرعها إلى الخير التفاتًا ونزوعًا، وأدعاها إلى سل السخائم واعتقاد المكارم واستخلاص النخائل وأمن الغوائل، وثبات الود على الصفاء، ودوام العهد على الوفاء: خلق الرحمة هذا الخلق الذي هو مظهر جلي من مظاهر تشرب معاني الدين، ودليل واضح على اقتفاء سيرة سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-.
أيها الأحباب الأماجد: لا نزال في شهر الربيع الشهر الذي شهد بقدر مقدور ميلاد النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- على الصحيح المشهور، احتفلت الأمة بالذكرى وتغنت وترنمت ونشدت ومدحت، فهل يقف الأمر عند هذا الحد، هل المسألة كلها تختزل في مداح ونغمات ملاح؟ أم أن الأمر أعظم من ذلك؟
لا شك أن الأمر أعظم من ذلك، وأكبر من ذلك، إن كان على المدح والثناء، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- يستحق أكثر من ذلك مع استغنائه عن ذلك؛ لأن من مدحه الله وأثنى عليه، وأشاد بأخلاقه هو في الحقيقة غنيّ عن مدح المادحين، فمدحنا له -صلى الله عليه وسلم- وإشادتنا بمكارمه وشمائله هو ارتقاء لنا وبنا إلى عوالم الطهر والنور، وتحصيل للبِشْر والسرور وتطهير للنفس من الأدناس والشرور.
إن عماد الأمر قائم على الاتباع، وتحصيل الهداية، مترتب على الطاعة والانصياع، قال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54].
قلت: هذا الشهر الكريم شهد ميلاد الرحمة المهداة النبي الإمام الذي امتلأ قلبه رحمة شملت الكل حتى صارت مضرب الأمثال، وحتى سارت بأخبارها الركبان، حتى قال عنه ربه في مقام الإشادة والإعلان: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، والعالمين كما قال الإمام القرطبي وغيره تشمل الإنس والجان.
إذاً نبينا المحتفى به -صلى الله عليه وسلم- هو نبي الرحمة ومن أسمائه "نبي الرحمة"، وجاء من أجل نشر الرحمة، وكان مثالاً للرحمة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[آل عمران: 159].
فكيف حال الأمة اليوم مع هذه الصفة العظيمة، وما هو موقع الرحمة في حياتنا وسلوكياتنا، ومعاملاتنا وبيعنا، وشرائنا ومدارسنا، وطرقاتنا ومسئولياتنا، أين الرحمة في بيوتنا مع أولادنا وزوجاتنا؟! أين الرحمة في قادة المسلمين الذين ولَّاهم الله أمور أمة نبي الرحمة؟!
في إحدى الدول العربية القائد يحضر احتفالاً بالمولد مولد نبي الرحمة وطائراته تدك بيوت أمة نبي الرحمة، لتقتل الأطفال، وتدمر الديار، وتنشر الخراب والدمار، فلماذا الاحتفال إذاً وما معناه وما مغزاه وما جدواه؟ صورة من صور الشرخ الحاصل في الفهم والإدراك في شهر مولد نبي الرحمة؛ نقف عند حالتين عاشتهما وتعشيهما أمة نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-.
إنني أتكلم بألم وغصة، ولا أستدعي ألفاظًا ولا أرتّب عبارات، فالأمر أذهل وأعجل والخطب جلل في شهر الربيع شهر مولد الرحمة المهداة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، في هذا الشهر الذي احتفلت به أمة المليار ونصف المليار في هذا الشهر الذي وُلد فيه الذي قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" (أخرجه البخاري).
هذا الذي أراده النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمته، فأين هو واقع الجسد الواحد وإخواننا يموتون تحت الثلوج في المخيمات، بعد أن فروا من البراميل المتفجرة التي تُلقَى عليهم من أصحاب القلوب المتحجرة، كم تألمنا بصورة أب يحمل طفله وهو جثة هامدة متجمدة من آثار الثلج!!
في رقبة مَن ذلك الطفل وأمثاله وأمثاله..
يقع هذا في عالم يتشدق أصحابه بحقوق الإنسان وحقوق الأطفال، بل جُعلت أيامٌ عالمية، هذا اليوم العالمي للطفل، وذاك اليوم العالمي للأم، هذا العالم عجز على أن يحمي هذا الطفل وأن يرحم هذه الأم.
فما فائدة الأيام العالمية إذاً، كثرت الأيام والمسلمون في مأدبة اللئام، يا أمتي ماذا نقول لربنا غدا إن سألنا عن هؤلاء الأطفال هل من جواب؟!
يا أمتي ماذا نقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
يا إخوتي ماذا نقول لأنفسنا، ونحن نضع رءوسنا على الوسادة، ونحن نطمئن على أبنائنا، أسأل الله أن يحفظ أبناء المسلمين.
يا أمتي إني أشعر بغصة، وكلكم بذلك تشعرون، فأنتم خير مني وأرهف إحساسًا وأرق قلوبًا.
يا أمتي أليس الأولى بدلاً من الصراعات والتطاحنات والتجاذبات أن نلتفت إلى هؤلاء فنرحمهم، ونسعى في تفريج كرباتهم، ألا تستطيع أمتنا أن تُوقف صراعاتها لو أسبوعًا واحدًا حتى تلتفت إلى هؤلاء، هل عجزت أمة الثروات والذهب الأسود الذي سوَّد القلوب، أمة الخيرات هل عجزت عن أن توفر لهؤلاء المستضعفين الحماية من البرد؟
هل هؤلاء جاءوا من كوكب آخر لو كانوا حيوانات لوجبت رحمتهم فكيف وهم بشر، وكيف وهم مسلمون، وكيف وهم من بلاد الشام والتي قال في حقها المصطفى -عليه الصلاة والسلام-: "إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم".
يموت هؤلاء الأطفال من البرد في الوقت الذي يترقب فيه الملايين من المسلمين مباراة برشلونة ومدريد، يموت هؤلاء الأطفال الذي يتابع فيه الملايين مسلسلات مدبلجة قد يستغرق عدد حلقاتها العمر كله!!
يموت هؤلاء الأطفال وآخرون غارقون في وهم الفخار والاغترار هذا بماله، وهذا بجاهه، وذاك بعلمه والآخر بحفظه، والحقيقة أن أطفالاً يموتون الآن تحت الثلوج ونحن غافلون.
بعضنا يكفّر بعضًا، بعضنا يفجّر بعضًا، فهلا أوقفنا التكفير لنستبدله بالتفكير؟ وهلا أوقفنا التفجير لنجعل مكانه التفريج، قال -صلى الله عليه وسلم-: "من لا يرحم لا يُرحم".
إن امة تفقد الإحساس أمة ميتة؛ لأنه لا يفقد الإحساس إلا الموتى، نعم هناك الأفاضل، هناك الأهليات، هناك الجمعيات، ولكنّ أمرًا بهذا الحجم يحتاج إلى جهد أمة بأكملها، والله إني ألوم نفسي فرب ذنب أذنبته يعاقب به أولئك.
يا أمتي! دعوكم من الصراعات، من السخافات، من التفاهات، برامج تافهة يجني أصحابها الملايين من اتصالات المسلمين يتصلوا ليصوتوا لهذا المغني أو تلكم المغنية، أوليس هؤلاء أولى بتلك الملايين، أو ليس المفروض في المسلمين أن يترفعوا عن هذه السفاهات والتفاهات والترهات.
يا أمتي! إن من أحيا نفسًا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعًا، يا أمتي أناشدكم الله حكامًا ومحكومين أناشدكم الله وفيكم إن شاء الله خير كثير أن تلتفوا إلى هؤلاء المقهورين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 11- 17].
جعلني الله وإياكم ممن ذُكِّر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العادل حكمه، الواسع حلمه، المأمول عفوه، المحذور سطوه، الباهر برهانه، القاهر سلطانه، سبحانه يسمع النداء الخفي والدعاء الحفي، ويرحم الجباه الخاضعة والشفاه الضارعة، ويقيل العثرات الصارعة، والهفوات الواقعة، والصلاة والسلام على نبي الرحمة وإمامها الذي بلغ من الرأفة تمامها صلى الله عليه وعلى آله وتبعه ومن صار على النهج إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: نعم! إخواننا في الدين يعانون من البرد، ومن تخلي المسلمين، وهذه أشد عليهم من البرد، قال -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، لا يتركه، لا يسلمه لمن يظلمه لا يهمله، و"من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة". (رواه مسلم).
وإذا انقطعت الأسباب -كما يقول أهل العلم- كان الدعاء بنفسه سببًا، فلا تبخلوا عليهم بالدعاء، فلسنا معذورين أن نترك الدعاء لهم في كل صلاة وفي كل وقت وحين، نسأل الله أن يفرج كربهم.
الأمر الثاني وهو كذلك في شهر الربيع شهر مولد الرحمة وقف من وقف في حفل –ما أنزل الله به من سلطان – حفل عقد للاحتفاء لمولد النبي الإمام -صلى الله عليه وسلم- ليطالب المسلمين بثورة ضد نصوص قدَّسوها لمئات السنين، باعتبارها لم تعد تتماشى مع العصر، وباعتبارها تدعو إلى إلغاء الآخرين بل وقتلهم وإبادتهم (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف: 5].
الحقيقة أيها الأحباب هذا زمن العجائب، هذا زمن الحيرة، حتى الحليم أصبح في حيرة مما يرى ويسمع حتى التوصيف والتشخيص أصبح مستعصيا؛ نظرا للتناقض الذي أصبح مسيطرا على المشهد.
إن المطالبة بثورة ضد نصوص قدسها المسلمون لمئات السنين لا تحتمل إلا تأويلا واحدا مفاده أننا يجب أن نلغي بعض النصوص المقدسة، وعندما يقال النص المقدس عندما يقصد به النص القرآني أو الحديثي؛ لأن هذه هي النصوص المقدسة عند المسلمين.
قد يقول قائل ليس المقصود النصوص القرآنية ولا الحديثية، فنقول وماذا إذاً؟ ما هي النصوص المقدسة؟ هل هي النصوص الشعرية مثلا قصائد المتنبي أو شوقي أم ماذا؟
إذا ذُكر النص المقدس عند المسلمين فهو لا يخرج عن كونه كتابًا وسنة، والثورة في توصيفها هي عمل يُفضي إلى تغيير جذري، فماذا يراد عندما يطلب من المسلمين أن يثوروا على نصوصهم المقدسة.
قد يقول قائل: الثورة ضد بعض أقوال الأئمة التي فيها نوع من الغلو والتشدق فنقول: ومتى كانت آراء وأقول الأئمة فيها غلو وتشدد، ثم متى كانت أقوال وآراء الأئمة أقوالاً مقدسة، لا ينبغي الخروج عليها، وكل الأئمة المعتبرين عند المسلمين يربطون الناس بقال الله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، من ذلكم مثلاً إمامنا مالك -رضي الله عنه- يقول: "إذا وجدتم قولي يخالف قول صاحب هذا القبر-يقصد رسول الله، صلى الله عليه وسلم- فاضربوا بقولي عرض الحائط".
إذاً ثورة ضد ماذا؟ لو سكت من لا يعلم لرحم نفسه، ورحم الناس من مثل هذه الهرطقات التي لا معنى لها.
لو قال: ثورة على التطرف والتكفير، لقلنا: نعم.
لو قال ثورة ضد فتاوى القتل والتفجير، لقلنا: نعم.
بل لو رجع إلى نصوص المسلمين المقدسة لوجدها تطالب بذلك، وتدعو إليه وتنهى عن قتل المسلمين وغيرهم.
هذه النصوص المقدسة، التي عاش عليها المسلمون، واستخرجوا منها الأحكام وبنوا عليها الحضارات، وضربوا بها أروع الأمثلة في المكارم، ووصلوا بها إلى القلوب ولنلقي نظرة على بعض هذه النصوص قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة:8].
وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)[العنكبوت: 46]، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]، وقال تعالى: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:44]، وقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية:21- 22]، وقال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة:82]، (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [المائدة:87].. والآيات في هذا الباب كثيرة..
نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل معاهَدا -وهو غير المسلم المقيم بين المسلمين- لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما" (أخرجه البخاري).
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن اليهود أتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا "السام عليكم" السام يعني الموت، قال: "وعليكم"، فقالت عائشة: "السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم"، فقال رسول الله نبي الرحمة: "مهلا يا عائشة! عليك بالرفق، وإياك والعنف أو الفحش"، قالت: "أولم تسمع ما قالوا؟" قال: "أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيُستجاب لي فيهم ولا يُستجاب لهم في".
هذه هي نصوصنا المقدسة التي عشنا وتعايشنا بها قرونًا، فهل يثور عاقل على مثل هذه النصوص التي تقطر أدبًا ورفقًا، ثم قال -وهذا من أعجب ما قال-: "لا يمكن أن نقتل الآخرين لنعيش لوحدنا"، سبحان الله هذا الكلام الغريب، ما علاقة نصوصنا به هل يوجد في نصوصنا المقدسة ما يدعو إليه؟ هل نصوصنا المقدسة تحث على قتل الآخرين، لنعيش على هذه الأرض وحدكم؟!! ما هذه المصيبة، إذا كانت هذه الأفكار قد سكنت في عقول بعض الذين لا علم عندهم فما علاقة ديننا بذلك؟!
يا عباد الله! إذا دخل مجرم إلى مكان فقتل وفجَّر فما علاقة الدين بذلك؟!
ديننا بريء من الهمجية، بريء من القتل، بريء من الترويع، بريء من الاعتداء على الآخرين، فلماذا نحني رؤوسنا ونحن مسلمون، ونفتخر بذلك، نحن من أمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ونفتخر بذلك.
من أراد أن يشوّه هذا الدين فحاسبوه، لكن لا تنسبوا التشويه إلى الدين.
ثم إن الإبادة التي تعرض لها ويتعرض لها المسلمين في أماكن كثيرة والملايين التي قُتلت في العراق وبورما وإفريقيا الوسطى وغيرهما وشُردت وحُوصرت وأُحرقت تدل على أن هذا الفكر الاستئصالي عند الآخرين، وليس عند المسلمين الذين تشبعوا بنصوصهم المقدسة، فكفى استخفافًا بالعقول، كان الأولى بدلاً من الدعوة إلى الثورة على النصوص المقدسة أن تكون الثورة على الجهل الذي من مظاهره اتهام الإسلام بالعنف، أن تكون الثورة على الأمية، على التخلف، على الخنوع، على الانهزامية، على النفس لإقامتها على منهج الله، على الشهوات والشبهات، على المخدرات، على الإباحية.
أيها الأحباب الكرام: إنها سلسلة مترابطة الحلقات يلتقي بها الظاهر بالخفي غايتها إسقاط هيبة الدين، وذلك عبر الإساءة لمصادرها، وهذه خطة قديمة حديثة تندرج تحت قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة:217].
إننا أيها الأماجد الكرام ضد التطرف بنوعيه التطرف الذي يتخذ الإسلام توطئة لممارسة الإجرام، والتطرف الذي يلصق ذلك بالإسلام ضد تطرف التفجير وتطرف الفجور، ضد تطرف البغي وتطرف العري، ضد تطرف المقنبلات باسم الجهاد والدفاع وتطرف القبلات باسم الفن والإبداع.
ليست المشكلة في الإسلام، ولكن المشكلة في الفهم العقيم السقيم للإسلام، مشكلتنا في تكلم من لا يحسن فيما لا يحسن، ومن تكلم فيما لا يحسن أتى بالعجائب، وقيمة كل امرئ ما يحسنه.
لن نثور أبدا على نصوصنا المقدسة بل سنعضّ عليها -إن شاء الله- بالنواجذ حتى نلقى الله على ذلك، ندعو إلى الله على بصيرة، الرفق سبيلنا إلى القلوب، والحلم شعارنا، والرحمة وسيلتنا، والعزة لباسنا، والكرامة غطاؤنا، ولقد تكلم من قبل من هم أقوى وأذكى تكلموا في الحديث، فذهبوا وأصبحوا أحاديث، وبقيت الآيات والأحاديث.
بقي الإسلام بإشراقه في قلوب أهل الاستبصار، بإحراقه لشُبَه أهل الاستكبار (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [المنافقون: 8].
اللهم أصلح أحوالنا...