الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
إِنَّ مَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- رَبًّا فَقَدْ رَضِيَ بِالرَّبِّ الَّذِي لَهُ الْجَمَالُ كُلُّهُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَكُلُّ جَمَالٍ يَرَاهُ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُ بِجَمَالِ اللَّـهِ –تَعَالَى-؛ فَيُخْبِتُ قَلْبُهُ بِتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَيَلْهَجُ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ، وَيَسْتَذْكِرُ جَمِيلَ أَفْعَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِيهِ حِينَ خَلَقَهُ وَهَدَاهُ وَعَلَّمَهُ وَرَزَقَهُ وَحَفِظَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَحِينَ سَتَرَ عَلَيْهِ قَبَائِحَ فَعَلَهَا؛ لِئَلَّا تُشَوَّهَ صُورَتُهُ عِنْدَ مَعَارِفِهِ، وَحِينَ أَظْهَرَ جَمِيلَ أَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ لِلنَّاسِ لِيَذْكُرُوهُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِهَا. وَكُلُّ نِعْمَةٍ نَالَهَا الْعَبْدُ فَهِيَ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِيهِ، وَكُلُّ كُرْبَةٍ كَشَفَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ فَهِيَ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ،...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْأَرْبَابِ، وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، ذِي الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَالْجَمَالِ، المُتَعَالِي عَلَى خَلْقِهِ بِحُسْنِ الذَّاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، نَحْمَدُهُ بِجَمِيلِ مَحَامِدِهِ، وَلَنْ تَفِيهِ المَحَامِدُ حَقَّهُ، وَلَنْ تَقْدِرَهُ قَدْرَهُ؛ فَسُبْحَانَهُ مِنْ رَبٍّ عَظِيمٍ، وَإِلَهٍ مَجِيدٍ كَرِيمٍ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ?هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? [الحديد: 3].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَلِمَ مِنْ جَمَالِ اللَّـهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ مَا جَعَلَهُ يُبَلِّغُ دَعْوَتَهُ، وَيَحْتَمِلُ الْأَذَى فِي سَبِيلِهِ، وَيُقِيمُ أَرْكَانَهُ فِي طَاعَتِهِ، وَيَقْضِي اللَّيْلَ فِي مُنَاجَاتِهِ، فَكَانَ يَقُومُ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ؛ حَمْدًا لِلَّـهِ تَعَالَى وَشُكْرًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاقْدُرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، وَعَظِّمُوهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ؛ فَلَهُ سُبْحَانَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبِيَدِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ? [يونس: 31- 32].
أَيُّهَا النَّاسُ: الْجَمَالُ صِفَةٌ يُحِبُّهَا النَّاسُ، وَيَسْعَوْنَ لِنَيْلِهَا؛ فَالْإِنْسَانُ السَّوِيُّ مَفْطُورٌ عَلَى حُبِّ الْجَمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيُحِبُّ أَنْ يَقْتَنِيَ الْجَمِيلَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيُحِبُّ أَنْ يُمَتِّعَ نَاظِرَيْهِ بِالْجَمَالِ. وَكُلُّ مَنْظَرٍ جَمِيلٍ فَإِنَّ الْأَعْيُنَ لَا تَمَلُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ، وَلَا تَطْرِفُ عَنْهُ.
وَرَبُّنَا سُبْحَانَهُ جَمِيلٌ وَيُحِبُّ الْجَمَالَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَجَمَالُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَمَالٌ مُطْلَقٌ لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ، وَكَامِلٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ نَقْصٌ، وَلوْ جُمِعَ جَمَالُ المَخْلُوقَاتِ كُلِّهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَانَتِ المَخْلُوقَاتُ جَمِيعُهَا عَلَى جَمَالِ ذَلِكَ الشَّخْصِ، ثُمَّ قُورِنَ هَذَا الْجَمَالُ بجَمَالِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِسْبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى عَيْنِ الشَّمْسِ، وَيَكْفِي فِي جَمَالِهِ -سُبْحَانَهُ- مَا قَالَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَصْفِهِ: «...حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَيَكْفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّ كُلَّ جَمَالٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَمِنْ آثَارِ صَنْعَتِهِ، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ صَدَرَ عَنهُ هَذَا الْجَمَالُ؟!
فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَأَفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَمَصْلَحَةٌ وَعَدْلٌ وَرَحْمَةٌ. وَأَمَّا جَمَالُ الذَّاتِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ فَأَمْرٌ لَا يُدْرِكُهُ سِوَاهُ، وَلَا يُعْلَمُهُ غَيْرُهُ. وَلَيْسَ عِنْدَ المَخْلُوقِينَ مِنْهُ إِلَّا مَا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ. فَإِنَّ ذَلِك الْجَمَالَ مَصُونٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، مَحْجُوبٌ بِسَتْرِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُهُ فِيمَا يُحْكَى عَنهُ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي». قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «حَجَبَ الذَّاتَ بِالصِّفَاتِ، وَحَجَبَ الصِّفَاتِ بِالْأَفْعَالِ» فَمَا ظَنُّنَا بِجَمَالٍ حُجِبَ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَسُتِرَ بِنُعُوتِ الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ؟!
فَإِذَا شَاهَدَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ جَمَالِ أَفْعَالِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ؛ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَمَالِ صِفَاتِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِجَمَالِ صِفَاتِهِ عَلَى جَمَالِ ذَاتِهِ. فَالْوُجُودُ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ جَمِيلٌ، وَجَمَالُهُ مِنْ جَمَالِ خَالِقِهِ الْجَمِيلِ، الَّذِي يَمْلِكُ الْجَمَالَ كُلَّهُ، جَمَّلَ الدُّنْيَا بِمَا شَاءَ، وَجَمَّلَ الْآخِرَةَ بِمَا شَاءَ.
وَالْجَمَالُ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ -تَعَالَى- فِي الْكَوْنِ يَرَاهُ الْعَبْدُ كُلَّ لَحْظَةٍ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، فَيَرَى السَّمَاءَ وَنُجُومَهَا وَكَوَاكِبَهَا ?إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ? [الصافات: 6]، وَيَرَى الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَالِ ?إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا? [الكهف: 7]، وَيَرَى الْإِنْسَانُ جَمَالَ صُورَتِهِ ?وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ? [غافر: 64].
وَيَنْتَظِمُ جَمَالُ الْخَلْقِ كُلِّهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ?صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ? [النمل: 88]، وَقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ?الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ? [السجدة: 7]. فَالْجَمَالُ مَقْصُودٌ فِي الْوُجُودِ، لِيَدُلَّ عَلَى جَمَالِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، كَمَا يَدُلُّ الْخَلْقُ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وَأَكْبَرُ بَابٍ ضَلَّ فِيهِ الْبَشَرُ هُوَ أَفْعَالُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فَمَنْ لَمْ يَرَ جَمَالَ أَفْعَالِهِ -سُبْحَانَهُ- فَلَنْ يَعْلَمَ جَمَالَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَلَوْ كَانَ يَقْرَؤُهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَنْ يَعْلَمَ جَمَالَ ذَاتِهِ الَّتِي يُوصِلُهُ إِلَيْهَا إِيمَانُهُ بِجَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
فَالْخَلَلُ فِي فَهْمِ أَفْعَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- يَقُودُ إِلَى الشَّكِّ وَالرَّيْبِ ثُمَّ إِلَى الْإِلْحَادِ وَالْجُحُودِ. وَوَاقِعُ الْبَشَرِ مُثْخَنٌ بِأَفْعَالٍ لِلَّـهِ -تَعَالَى- يَظُنُّهَا الْجَهَلَةُ شَرًّا مَحْضًا، وَفِيهَا خَيْرٌ لَا يَعْرِفُونَهُ، وَعَدْلٌ لَا يَعْلَمُونَهُ.
فَالْوَاحِدُ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُ إِلَى الْحُرُوبِ وَالمَآسِي وَالدِّمَاءِ، وَيَنْظُرُ إِلَى تَشْرِيدِ الْأُسَرِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَيَنْظُرُ إِلَى الْعَذَابِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْآلَامِ؛ فَيَقْدَحُ الشَّيْطَانُ فِي ذِهْنِهِ أَسْئِلَةَ الشَّكِّ وَالْإِلْحَادِ، لِمَاذَا يَفْعَلُ اللهُ -تَعَالَى- ذَلِكَ بِخَلْقِهِ؟ وَلَا يَرَى فِي أَفْعَالِهِ الْجَمَالَ. بَلْ يَظُنُّ أَنَّهَا تُنَافِي الْجَمَالَ، وَقَدْ أَعْلَنَ ذَلِكَ مَلَاحِدَةٌ كُثُرٌ. وَهُمْ بِجَهْلِهِمْ إِنَّمَا نَظَرُوا إِلَى جُزْءٍ مِنَ الصُّورَةِ، وَلَمْ يُدْرِكُوهَا كَامِلَةً، فَاعْتَرَضُوا عَلَى أَقْضِيَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَأَقْدَارِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي عِبَادِهِ.
وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالْعُلُومِ وَالمَعَارِفِ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى جُزْءٍ مِنَ الشَّيْءِ لَمْ يُدْرِكْهُ كُلَّهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَمُّهُ وَلَا مَدْحُهُ. وَالْأَفْعَالُ فِي ذَلِكَ كَالْأَعْيَانِ، مَنْ نَظَرَ إِلَى أَجْزَائِهَا غَابَ عَنْهُ مَعْرِفَةُ عِلَلِهَا وَحِكْمَتِهَا.
اعْتَرَضَ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى الْعَبْدِ الصَّالِحِ لِأَنَّهُ خَرَقَ السَّفِينَةَ، وَرَأَى أَنَّ خَرْقَهَا فَسَادٌ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَتَلَ الْغُلَامَ، وَقَتْلُهُ فَسَادٌ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي بِنَاءِ الْجِدَارِ بِالمَجَّانِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ قَدْ أَسَاؤُوا، لَكِنْ حِينَ بَيَّنَ لَهُ مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْ حِكْمَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ سَلَّمَ لَهُ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَرَضِيَ عَنْ أَفْعَالِهِ الَّتِي نَسَبَهَا إِلَى اللَّـهِ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? [الكهف: 82].
أَفَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ بَيْنَ بَشَرٍ وَبَشَرٍ، بَيْنَ نَبِيٍّ وَعَبْدٍ صَالِحٍ، فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ ذَلِكَ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ اعْتِرَاضِهِ فَرَضِيَ وَسَلَّمَ؛ أَفَلَا يَرْضَى الْعِبَادُ عَنِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي أَفْعَالِهِ كُلِّهَا، وَيُسَلِّمُونَ بِحِكْمَتِهِ -سُبْحَانَهُ- فِيهَا، وَيُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِهِ؛ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ؟!
إِنَّ مَنْ رَضِيَ بِاللَّـهِ -تَعَالَى- رَبًّا فَقَدْ رَضِيَ بِالرَّبِّ الَّذِي لَهُ الْجَمَالُ كُلُّهُ فِي ذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَكُلُّ جَمَالٍ يَرَاهُ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّهُ يُذَكِّرُهُ بِجَمَالِ اللَّـهِ –تَعَالَى-؛ فَيُخْبِتُ قَلْبُهُ بِتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَيَلْهَجُ لِسَانُهُ بِتَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ، وَيَسْتَذْكِرُ جَمِيلَ أَفْعَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِيهِ حِينَ خَلَقَهُ وَهَدَاهُ وَعَلَّمَهُ وَرَزَقَهُ وَحَفِظَهُ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ، وَحِينَ سَتَرَ عَلَيْهِ قَبَائِحَ فَعَلَهَا؛ لِئَلَّا تُشَوَّهَ صُورَتُهُ عِنْدَ مَعَارِفِهِ، وَحِينَ أَظْهَرَ جَمِيلَ أَوْصَافِهِ وَأَفْعَالِهِ لِلنَّاسِ لِيَذْكُرُوهُ وَيُثْنُوا عَلَيْهِ بِهَا.
وَكُلُّ نِعْمَةٍ نَالَهَا الْعَبْدُ فَهِيَ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِيهِ، وَكُلُّ كُرْبَةٍ كَشَفَهَا اللهُ -تَعَالَى- عَنْهُ فَهِيَ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ مُصِيبَةٍ دَرَأَهَا عَنْهُ فَهِيَ مِنْ جَمِيلِ أَفْعَالِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَسْتَطِيعُ عَبْدٌ أَنْ يُحِيطَ بِجَمِيلِ أَفْعَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِيهِ مِنْ كَثْرَتِهَا وَتَنَوُّعِهَا وَخَفَاءِ أَكْثَرِهَا.
وَإِذَا نَظَرَ المُؤْمِنُ إِلَى مَا يَظُنُّهُ قَبِيحًا أَصَابَهُ أَوْ أَصَابَ غَيْرَهُ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِسُوءِ الْقَضَاءِ؛ فَلْيُوقِنْ أَنَّ فِيهِ جَمَالاً لَا يَرَاهُ وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا بِحُسْنِ ظَنِّهِ بِاللَّـهِ –تَعَالَى-، فَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِ سُبْحَانَهُ؛ انْفَتَحَتْ لَهُ أَبْوَابٌ مِنْ جَمَالِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ، حَتَّى يَلْهَجَ بِحَمْدِ اللَّـهِ -تَعَالَى- وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِمَا حَبَاهُ مِنْ جَمَالِ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي كَانَ يَظُنُّ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّهُ قَبِيحٌ فِي حَقِّهِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى جَمَالِ فِعْلِ رَبِّهِ -سُبْحَانَهُ- مَعَهُ؛ انْكَسَرَتْ نَفْسُهُ، وَاسْتَحْيَا مِنْ رَبِّهِ قَلْبُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ؛ مَحَبَّةً وَعُبُودِيَّةً وَتَعْظِيمًا.
«إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ» هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْعَظِيمَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: مَعْرِفَةٌ وَسُلُوكٌ. فَيَعْرِفُ اللهَ -سُبْحَانَهُ- بِالْجَمَالِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ شَيْءٌ، وَيَعْبُدُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي يُحِبُّهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ، فَيَعْرِفُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ وَصْفُهُ، وَيَعْبُدُهُ بِالْجَمَالِ الَّذِي هُوَ شَرْعُهُ وَدِينُهُ، فَجَمَعَ الْحَدِيثُ قَاعِدَتَيِ المَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ.
?فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ? [الجاثية: 36، 37].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَجَمِّلُوا بَوَاطِنَكُمْ كَمَا تُجَمِّلُونَ ظَوَاهِرَكُمْ «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنْ جَمَالِ اللَّـهِ -تَعَالَى- أَنَّهُ يُحِبُّ لِعِبَادِهِ الْجَمَالَ؛ وَلِذَا خَلَقَ الزِّينَةَ لَهُمْ، وَأَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْجَمَالِ وَتَمْيِيزِهِ ?يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ? [الأعراف: 31] وَفِي التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ -سُبْحَانَهُ- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِمَا هُوَ جَمِيلٌ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَيُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ جَمِيلَ الْكَلَامِ، وَيَكْرَهُ مِنْهُمْ قَبِيحَهُ، وَلمَّا كَانَ أَجْمَلُ الْكَلَامِ ذِكْرَهُ -سُبْحَانَهُ- أَحَبَّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَذْكُرُوهُ؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ الْجَمَالَ لَهُمْ، وَأَنْ يُلَازِمُوا كِتَابَهُ قِرَاءَةً وَحِفْظًا وَتَدَبُّرًا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْلَى الذِّكْرِ، وَالذِّكْرُ أَجْمَلُ الْكَلَامِ. وَكَرِهَ لَهُمُ الْكَذِبَ وَالشَّتْمَ وَالْغِيبَةَ وَالنَّمِيمَةَ وَبَذَاءَةَ الْأَلْفَاظِ لِأَنَّهَا تُعَارِضُ جَمَالَ الْكَلَامِ.
وَالْجَمَالُ فِي اللِّبَاسِ وَالْهَيْئَةِ مِنْهُ مَا يُحْمَدُ، وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ؛ فَالمَحْمُودُ مِنْهُ مَا كَانَ لِلَّـهِ تَعَالَى، وَأَعَانَ عَلَى طَاعَتِهِ –سُبْحَانَهُ-، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَجَمَّلُ لِلْوُفُودِ. وَالمَذْمُومُ مِنْهُ مَا كَانَ لِلدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّوَسُّلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ. أَمَّا جَمَالُ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ فَهَذَا إِلَى اللَّـهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ فِيهِ حِيلَةٌ وَلَا كَسْبٌ.
وَأَمَّا جَمَالُ الصَّوْتِ فَهُوَ نِعْمَةٌ إِنْ سَخَّرَهُ صَاحِبُهُ فِي طَاعَةِ اللَّـهِ –تَعَالَى-، كَالتَّرَنُّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ، وَإِمَامَةِ النَّاسِ بِالصَّلَاةِ. وَهُوَ نِقْمَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ إِنْ سَخَّرَهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّـهِ -تَعَالَى- كَالْغِنَاءِ وَنَحْوِهِ.
فَلْنَتَأَمَّلْ جَمَالَ اللَّـهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ، وَلْنَتَعَلَّمْ جَمَالَهُ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ؛ لِنَصِلَ إِلَى مَعْرِفَةِ جَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَذَاتِهِ، فَيَمْتَلِئَ الْقَلْبُ بِجَلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَجَائِهِ وَخَوْفِهِ ?ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ? [الأنعام: 102- 103].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...