التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
الأم، هي قسيمة الحياة، وموطن الشكوى، وعتاد البيت، ومصدر الأنس، وأساس الهناء, يطيب الحديث بذكراها, ويسعد القلب بلقياها, حنانـها فـياض لا ينضب, ونبعــها زُلالٌ لا يجفّ. الأم، لا توفّيها الكلمات, ولا ترفعها العبارات, وإنما محلّها سويداءُ القلب، وكفى به...
الخطبة الأولى:
مضى ذلك الرجل يقطع الفيافي والقفار, قد اغبر وجهه، وشعث شعره, وتتابعت أنفاسه, وبلغ به الجهد مبلغه, إذا سار مفازة وقف, وألقى الحمل عن ظهره, وجعل يلتقط أنفاسه مليًا, حتى إذا ما استرد إليه نَـَفـسُه, وهدأت نَـفْـسُه حمل حِمله على ظهره، وسار ميمماً بيت الله الحرام.
لم يكن حمله ذاك زادًا ولا طعامًا, ولا مالًا ولا متاعًا, وإنما كان هذا المحمول هي أمه التي ربته, فأحسنت تربيته حتى غدا رجلاً بلغ من بره ما رأت.
سار الرجل البار تمتطيه أمه نحو البيت الحرام، فطاف بالبيت سبعاً، وهو يقول:
إني لها مطــيةٌ لا تُذْعرُ | إذا الركاب نفرتْ لا تنفِرُ |
ما حملتْ وأرضعتني أكثرُ | اللهُ ربي ذو الجلال الأكبرُ |
وبينما هو يطوف إذ رأى الصحابي عبد الله بن عمر، فدنا إليه، وقال: يا أبا عبد الرحمن أتُراني جازيتها بما فعلت؟ نظر إليه ابن عمر, فرأى وجهاً شعثاً, وجهداً مظنياً, لكن, أنى لابنٍ أن يجزي أماً, عندها قال ابن عمر للرجل: لا ولا زفرة واحدة.
إنها الأم, وما أدراك ما الأم, عطر يفوح شذاه, وعبير يسمو في علاه, والعيش في كنفها حياة, وعين لا تكتحل برؤيتها عقوقاً وإعراضاً حسرة, والبعد عنها أسى وحرمان.
الأم، هي قسيمة الحياة، وموطن الشكوى، وعتاد البيت، ومصدر الأنس، وأساس الهناء, يطيب الحديث بذكراها, ويسعد القلب بلقياها, حنانـها فـياض لا ينضب, ونبعــها زُلالٌ لا يجفّ.
الأم، لا توفّيها الكلمات, ولا ترفعها العبارات, وإنما محلّها سويداءُ القلب وكفى به مستقراً.
لأمك حق لو علمت كثير | كثيرك يا هذا لديه يسير |
إنها الأم التي وصى بها المولى -جل جلاله-, وجعل حقها فوق كل حق إلا حقّه, وجعل شكره سبحانه مقروناً بشكرها: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
أمك, ثم أمك, ثم أمك, قالها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً لمن سأله من أحق الناس بحسن صحابتي.
إنها الأم يا من تريد مغفرة الذنوب, وسترَ العيوب, يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فيقول: أذنبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من أم؟" قال: لا، قال: "فهل له من خالة؟" قال: نعم، قال: "فبرها" [رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان].
يا من تريد رضى رب البريات، وتطلب جنة عرضها الأرض والسموات: دونك مفاتحيها بإحسانك لأمك ورضاها عنك.
هذا رجل من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-, يأتي إليه, يحدوه شوقه إلى جنات ونهر, وتتعالى همته لاسترضاء مليك مقتدر، فيمشي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "يا رسول الله ائذن لي بالجهاد؟! فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من أم؟" قال: نعم، فقال: "الزم قدمها فثم الجنة".
الإحسان إلى الأم سبب لقبول الأعمال, قال سبحانه عن عبده الشاكر لنعمته، البار بوالديه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].
الإحسان إلى الأم سبب للبركة في الرزق وفي العمر, في وقتٍ قلت فيه البركات، وفي الصحيح: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
وأعظم الصلة صلة الوالدين، وأتم الإحسان الإحسانُ إلى الأم.
عباد الله: تفتح أبواب السماوات، وتجاب الدعوات، لمن كان باراً بوالدته، محسناً إليها, انطبقت الصخرة على ثلاثة نفرٍ، فدعا كل منهم، وتوسل إلى الله بأرجى عمل عمله، ومنهم رجل كان باراً بوالديه، ففرج الله عنهم الصخرة ونجوا من الهلاك.
وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أويس القرني: أنه كان مجابَ الدعاء، وكان من أبر الناس بوالدته.
يا أيها المبارك: أمك لها عليك القدر العالي, أحسنت إليك منذ كنت نطفة, في حملك ذاقت الألم والُمرّ, وعانت الشدة والضرّ, فكم من أنَّةٍ خالجتها، وزفرة دافعتها, من ثقلك بين جنبيها, ولا يزداد جسمك نمواً إلا وتزداد معه ضعفاً.
تُسرّ إذا أحسّت بحركتك, ولا يزيدها تعاقب الأيام إلا شوقاً لرؤيتك, فإذا حانت ساعةُ خروجك فلا تسل عما تعاني, حتى لربما عاينت الموت, فإذا رأتك وشمتك, نسيت آلامها وتناست أوجاعها، وعلقت فيك آمالها , فكنت أنت المخدومُ في ليلها ونهارها.
كنت أنت رهينَ قلبها ونديم فكرها, تغذيك بصحتها وتدثرك بحنانها وتميط عنك الأذى بيمينها.
تخاف عليك من اللمسة، وتشقق عليك من الهمسة.
سرورُها أن ترى ابتسامتك، إذا مسّك ضُرٌ لم تكتحل بنوم, وربما لم يرقأ لها دمع, تفديك بروحها وعافيتها.
ولا تزيدها الأيام إلا لك حباً, وعليك حرصاً, وفي سبيل تربيتك والعناية بك إلا جهداً.
حتى إذا صلُبَ عودك, وأزهر شبابك, كنت أنت عنوانَ فخرها, ورمزَ مباهاتها, تسر بسماع أخبارك، وتتحس برؤية آثارك.
إذا غبت عن عينها رافقتك دعواتها, فكم من دعوات لك تلجلجت وأنت لا تدري.
مُناها أن تسعد في سمائك, وغايتُها أن توفّق.
تعطيك كل شيء ولا تطلب منك أجراً, وتبذل لك كل وسعها ولا تنتظر منك شكراً.
لأجل كل هذا، فالبر بالأم مفخرة الرجال، وشيمة الشرفاء، وقبل ذلك كله هو خلق من خلق الأنبياء, قال تعالى عن يحيى -عليه السلام-: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) [مريم: 14].
وقال عيسى -عليه السلام-: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) [مريم: 32].
يا كرام: البرُّ بالأم يتأكد يوم يتأكد إذا تقضى شبابها, وعلا مشيبها, ورق عظمها، وأحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها, وزارتها أسقامها.
في هذه الحال من العمر لا تنتظر صاحبة المعروف، والجميل من ولدها، إلا قلباً رحيماً، ولساناً رقيقا, ويداً حانية.
فطوبى لمن أحسن إلى أمه في كبرها, طوبى لمن سعى في رضاها، فلم تخرج من الدنيا إلا وهي عنه راضية.
فيا أيها البار بأمه -وكلنا نطمع أن نكون كذلك- تمثل قول المولى -جل جلاله-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء: 24] تخلّقْ بالذل بين يديها بقولك وفعلك، لا تدْعُها باسمها، بل نادها بلفظ الأم، فهو أحب إلى قلبها، لا تجلس قبلها، ولا تمشِ أمامها، قابلها بوجه طليق وابتسامة وبشاشة، تشرف بخدمتها، وتحسس حاجاتِها، إن طلبتْ فبادر أمرها, وإن سقمت فقم عند رأسها، أبهج خاطرها بكثرة الدعاء لها، راع مشاعرها, ولا تفتأ أن تُدخِل السرور والأنس على قلبها, قدم لها الهدية، وزف إليها بالبشائر, واستشعر وأنت تُقبِّلُ وتعطِفُ على أبنائك عطفَ أمك وحنانَها بك, وردّد في صبح ومساء: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 24].
أيها البار بأمه: إن كانت غاليتك ممن قضت نحبها، ومضت إلى ربها، فأكثر من الدعاء والاستغفار لها, وجدد برِّك بها بكثرة الصدقة عنها, وصلةِ أقاربك من جهتها, وصلاحُك في نفسك من أعظم البر الذي تقدمه لوالديك بعد رحيلهما, جاء رجل إلى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها، وإكرام صديقهما.
وفي التنزيل: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
اللهم صل وسلم على محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من نبي بعده.
أما بعد:
قال أبو الليث السمرقندي: لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يُوصِ بِهِمَا لَكَانَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ, وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا، وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا, فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذلك فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ, وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا, وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا.
عباد الله: وسير الصالحين مع الأمهات مآثر تدرس, وأخبارٌ تروى, فحدث عن الوفاء, وعن السمو, وعن البر في أنصع الصور, وأرقّ المشاعر, قالَ محمدُ بنُ بشرٍ الأسلميِّ: لم يَكنْ أحدٌ بالكوفةِ أبرَّ بأمِه من منصورِ بنُ المعتمرِ وأبي حنيفةَ، وكانَ منصورُ يَفْلِي رأسَ أُمه، وكان أبو حنيفة يتصدق عنها بالأموال كل آن.
وذلكم الصالح محمدُ بنُ المنكدرِ يقول: باتَ أخي عمرُ يُصلي، وبِتُ أَغمِزُ رِجلَ أُمي، وما أُحِبُ أنَّ ليلتي بليلِته، وأما إمام الحديث بندار فقد حُرم الخروج للحديث لأجل أمه, استئذنها فلم تأذن, يقول بعد ذلك: فبورك لي في العلم.
وفي زمننا هذا أحد العلماء لا يخرج حتى تأذن له أمه, وهو قد بلغ الستين من عمره, حتى لربما ألغى درساً؛ لأن أمه أبت.
فما بال البعض من شبابنا لا تعلم به أمه, فضلاً عن أن يستأذنها؟
بل لقد عرفت من المعاصرين من لزم فراش أمه يمرّضها مدة أربع سنين, يبيت عندها حتى ماتت, وله عدة زوجات.
والمواقف لا تحصر ولا تعد, ولا زال في الأمة خير كبير.
نعم, هي صور رائعة, ولكن بنقضيها صور محزنة.
أجل، فكم يأسى المرء اليوم وهو يسمع عن صورٍ من صور العقوق، يندى لذكرها الجبين, قطيعةٌ وبذاءةٌ وتطاول باللسان وربما باليد، تأففٌ وتضجرٌ، وإظهارٌ للسَخَطِ وعدَمِ الرضى، حتى غَدت منزِلةُ الصَديقِ عندَ الكثيرِ من شَبابِ اليوم أعلى قدراً ومكانةً من الوالدين, وحتى قدّم البعض رضى زوجاتهم على رضى أمهاتهم وآبائهم, ولربما أبكى أمه في سبيل أن يرقأ دمعة ابنه!
والمصيبة تعظم حين تكون من ابنٍ أراه الله نسله! ويوشك إن لم يتب أن يرى ذلك العقوق في بنيه, فالبر دينٌ والعقوق كذلك!
عبد الله: أهكذا ينتهي الحال بأُمكَ التي حملتَك كُرهاً، ووضعتَك كُرهاً، ورأتَ الموتَ مرّات لأجلك, أهذا جزاء والدتك التي أرضعتكَ ورَبتَّك وغذتك ورعتك؟
مسكينٌ أنتَ أيها العاقُ، تَنامُ مِلءَ جَفنَيكَ، وقد تَركتَ والدينِ ضعيفِينِ يَتجرعانِ من العقوقِ غُصصا، ونسيت أو تناسيت أنكَ مُمُهَلٌ لا مُهملٌ، فعَاقبةُ العُقوقِ مُعجلةٌ لصاحبِها في الدِنيا قبل الآخرة، وفي الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبة العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".
كيف ترجو توفيقاً وقبولاً, والله قد أعرض عن العاق, والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة"، وذكر منهم: "العاقُ لوالديه".
تذكر -أيها المقصر مع والديه- ليلةً تُصبِحُها بلا أم, تذكر ساعةً تدخل فيها المنزل، فلا تسمع صوتها ولا تبصر رسمها, ولا ترى ثيابها, تذكر يوماً تحثو فيه الترابَ على قبرها, تذكر يوماً تتقبلُ التعازي بها, هناك ستعرف قدر أمك, هناك ستعرف أي أمر فقدت, وأي بابٍ أوصد عنك, وأي خيرٍ حرمت.
سل ذلك الذي فقد أمه يخبرك كيف تغير عليه طعم الحياة, حين خلّف أمه في المقابر, فلم يجد من بعدها من يسنده ويدعو له ويبث له شكواه, ولن يعرف قدر هذا إلا من عاناه.
ألا فعُد اليوم وأرض أمك وأباك, واستدرك ما بقي، وأصلح ما فات, وعاهد نفسك الآن على البر والإحسان مادام في العمر إمكان.
اللهم اغفرْ لآبائِنا وأمهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحساناً، وبالسيئاتِ عفواً منكَ وغُفراناً.
وارزقنا برَّهم أحياءً وأمواتاً، واجعلنا لهم قرةَ أعينِ، وتوفنا وإياهم وأنتَ راضٍ عنا غيرَ غضبانِ.