البحث

عبارات مقترحة:

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

نبوة ورسالة محمد

العربية

المؤلف ملتقى الخطباء - الفريق العلمي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات أعلام الدعاة - السيرة النبوية
عناصر الخطبة
  1. دين الله واحد منذ أول الرسالات .
  2. حاجة البشر إلى الرسل والأنبياء .
  3. أهم أعمال الرسل وأعظم مهماتهم .
  4. رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- نور ورحمة .
  5. حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- دروس وعبر .
  6. عبودية النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه -سبحانه- .
  7. خصائص الرسالة المحمدية وفضائلها. .

اقتباس

وقد اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزاً عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت الغنائم، ومع هذا فقد كان يمضي الشهر والشهران وما يوقد في بيوته نار، مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا، ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون حياة ولا نشوراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً, (وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً)، أسكت الله به الجاهلية فلم تتكلم، وهدَّم به الوثنية فلم تُبْنَ، وأزال به أوضار الشرك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: لا شك أن عقول البشر مهما علت فهي قاصرة، لا تستطيع أن تصل إلى ربها دون هداية منه وإرشاد، وقد جاءت الرسالات الإلهية كلها بوحدانية الله، وخلقه لهذا الوجود، ورعايته وتدبيره لكل كائن في الوجود، ودعوة الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإقامة حياتهم على منهج الله، وإنما جاء الانحراف عن العقيدة الإيمانية من أتباعها، فبدا وكأنها لم تأت بالتوحيد الخالص، أو لم تأت بهيمنة الله وتدبيره لكل كائن، فهذا كله من التحريف الطارئ لا من أصل الديانة.

فدين الله واحد منذ أول الرسالات إلى خاتمة الرسالات، ويستحيل أن ينزل الله ديناً يخالف هذه القواعد؛ لكن الرسالة الخاتمة التي جاء بها محمد -صلى الله عليه وسلم- أوسع وأدق وأشمل وأكمل من كل تصور في الشرائع الإلهية السابقة، وهذا متفق مع طبيعة الرسالة ومهمتها الأخيرة، ومع الرشد البشري الذي جاءت هذه الرسالة لتخاطبه وتوجهه، وتنشئ فيه هذا التصور الكامل الشامل بكل مقتضياته وفروعه وآثاره؛ ليدرك القلب البشري بمقدار ما يطيق حقيقة الألوهية وعظمتها، ويشعر بالقدرة الإلهية، ويراها في آثارها المشهودة في الكون، ويعيش في مجال هذه القدرة، وبين آثارها التي لا تغيب عن الحس والعقل والإلهام، ويراها محيطة بكل شيء، مهيمنة على كل شيء، مدبرة لكل شيء، حافظة لكل شيء، ولا يندّ عنها شيء، سواء في ذلك القليل والكثير، والصغير والكبير، والجليل والحقير.

وأن يعيش القلب البشري في حساسية مرهفة، وخشية وخوف، وطمع ورجاء، وأن يمضي في الحياة معلقاً في كل حركة وكل خالجة بالله، شاعراً بقدرته وهيمنته، شاعراً بعلمه ورقابته، شاعراً بقهره وجبروته، شاعراً برحمته وفضله، شاعراً بقربه منه في كل حال، وأخيراً يشعر بالوجود كله متجهاً إلى خالقه، فيتجه معه مسبحاً بحمد ربه، فيشاركه تسبيحه، مدبراً بأمره وحكمته، فيخضع لشريعته وأوامره: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن: 1].

ومن أجل ذلك أرسل الله -عزَّ وجلَّ- الرسل لهداية البشرية إلى الحق، ولتطاع الرسل بإذن الله، لا لمجرد الإبلاغ والإقناع كما قال -سبحانه-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء: 64]، ولذلك كان من أهم أعمال الأنبياء والرسل عبادة الله ودعوة خلقه إلى الله.

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتجول على الناس ويزورهم ويدعوهم إلى الله، ويتلو عليهم القرآن، ويعلمهم السنن والأحكام، ويطعم جائعهم، ويعود مريضهم، ويكرم ضيفهم، ويجيب سائلهم، ويكسو عاريهم، ويقبل هديتهم ويثيب عليها، ويشكر لمحسنهم، ويعفو عن مسيئهم، فصلوات الله وسلامه عليه عدد نجوم السماء وذرات الأرض.

لقد كان جهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحياة المكية لإدخال الإيمان في القلوب لتستعد لقبول الأعمال، وذلك بتعريف الناس بربهم، وذكر أسمائه وصفاته وأفعاله، وجلاله وجماله، وعظمته وكبريائه، ليعرفوه ويعظموه ويكبروه، فإذا عرفوه توجهوا إليه وحده دون سواه، وذكر آلائه ونعمه وفضله وإحسانه إلى الخلق ليشكروه ويحمدوه ويتوجهوا إليه في قضاء حوائجهم.

وفي الحياة المدنية كان حفظ الإيمان وزيادته بسبب قوة الأعمال، وقوة الجهد على النفس وعلى الغير، ففي مكة كانت قوة الاستعداد لفعل الأوامر، وفي المدينة كان تنفيذ الأوامر بالرغبة والمحبة والشوق كالعبادات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحو ذلك، وكذلك الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وحسن المعاملات والمعاشرات والأخلاق والآداب.

فنزلت الأحكام في المدينة شاملة لكل أحوال الإنسان، واستقبلها الصحابة بإيمان تام ويقين، وفرحوا بها، وتنافسوا في المسارعة إليها، والإكثار منها، وسلموا أنفسهم لله بالإيمان والطاعة، ولرسوله بكمال الانقياد والامتثال فكانوا حقاً أعظم وأفضل نواة لخير أمة أخرجت للناس في كل شيء: في الإيمان, والعبادات, والمعاملات, والأخلاق...

وقد بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحكام جميع الأحوال التي يمكن أن يمر بها الإنسان، أحياناً بقوله، وأحياناً بفعله، فلا تخلو حال من أحوال الإنسان من سنن وأحكام يسير عليها الإنسان وفق أمر الله تعالى في جميع الأحوال التي جاء الشرع بأحكامها مفصلة كاملة, كما قال -سبحانه-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]، وحرّم -صلى الله  عليه وسلم- على أمته كل خبيث وضار، وأباح لهم كل طيب ونافع، وكل ما حرمه الله على هذه الأمة رحمة لهم، وما حرمه على من قبلهم عقوبة لهم.

أيها الإخوة: ولما كان إبلاغ الدين والجهاد في سبيله من أعظم وظائف الرسل، وقد قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأداها كما أمره ربه، شرع له الاستغفار عقيبها بعد أداء ما أمر به فقال له ربه: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر: 1 - 3]، فأمره -سبحانه- أن يسبح بحمد ربه الذي خلقه وهداه واجتباه، وأعانه ووفقه حتى تمكن من أداء ما أمر به، وأن يستغفر ربه من كل ذنب ليلقى ربه طاهراً مطهراً من كل ذنب، فيقدم عليه مسروراً راضياً مرضياً عنه.

عباد الله: إن من رحمة الله -سبحانه- أن بعث إليكم رسله, وأنزل عليكم كتبه, لتحصل لكم الهداية, وتتم عليكم النعمة كما قال -سبحانه-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].

ومن فضل الله ورحمته وإحسانه إلى هذه الأمة أن جعلهم خير أمة أخرجت للناس، وجعل الرسالة فيهم، واختار أفضل الرسل منهم كما قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2]، فالذي يتلوه عليهم هو الحق، وما أعظم فضل الله حين يخاطب الله العبيد بكلامه، يتلوه ذلك عليهم رسوله: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحج: 65]،  وقد أمر الله رسوله بالصبر على كل ذلك كما قال -سبحانه-: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60]، وأمر أمته كذلك بالصبر والمصابرة ليحصل لهم الفوز والفلاح كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].

فإذا آمن الناس بالله فلا بدَّ أن يعملوا بدينه، ويتحاكموا إلى شرعه ممثلاً في القرآن والسنة، ولا يكفي أن يتحاكموا إليه ليُحسبوا مؤمنين، بل لا بدَّ أن يتلقوا حكمه مسلمين راضين كما قال -سبحانه-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، ولا بدَّ للمؤمنين أن يطيعوا الله، ويطيعوا الرسول، وأولي الأمر منهم، وترد المسائل التي تشكل إلى الله ورسوله كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء: 59].

أيها الإخوة: وقد حاول المشركون في مكة فتنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عما أوحى الله إليه، ليفتري على ربه غيره وهو الصادق الأمين، ولكن الله عصم رسوله من الفتنة وثبته على الحق، ولو تخلى عنه -سبحانه- لركن إليهم فاتخذوه خليلاً, كما قال -سبحانه-: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا *وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء: 73 - 75].

هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة يأخذونها.

وقد انهال المال بعد الهجرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن هذا المال ليشغله أو يعطله عن إبلاغ رسالة ربه، فأنفقه في وجوه البر والخير، وكان فرحه بإنفاقه أعظم من فرح الآخذ له، وكان -صلى الله عليه وسلم- كالريح المرسلة في جوده، وكان أجود ما يكون في رمضان، وذلك ليستعلي على فتنة المال، ويرخص من قيمته في النفوس.

عباد الله: ولا بد للعباد من الصبر، وبثّ الشكوى إلى من بيده مقاليد الأمور، وقد واجه الأنبياء والرسل من أذى البشر ما لا يطيقه إلا من ثبته الله وأعانه، من الكفر والتكذيب، والسخرية والاستهزاء، والضرب والأذى، والتحقير والتنفير، والصد والإعراض، وقد حكى الله عن رسوله شكواه لقومه أنهم هجروا كتاب ربهم: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].

لقد هجروا القرآن الكريم، الذي أنزله الله على عبده لينذرهم ويبصرهم، هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم، إذ كانوا يتقون أن يجتذَبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه رداً، وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدى على نوره، وهجروه فلم يجعلوه منهج حياتهم، وتلك سنة الله في جميع الرسالات، فلكل نبي أعداء يهجرون الهدى الذي جاءهم به، ويصدون عن سبيل الله، ولكن الله يهدي رسله وأتباعهم إلى طريق النصر على أعدائهم, كما قال -سبحانه-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) [الفرقان: 31]

وقد اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه ولأهل بيته معيشة الكفاف، لا عجزاً عن حياة المتاع، فقد عاش حتى فتحت له الأرض، وكثرت الغنائم، ومع هذا فقد كان يمضي الشهر والشهران وما يوقد في بيوته نار، مع جوده بالصدقات والهبات والهدايا، ولكن ذلك كان اختياراً للاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، ورغبة خالصة فيما عند الله، رغبة الذي يملك ولكنه يتعفف ويستعلي ويختار.

ولم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكلفاً من عقيدته ولا من شريعته أن يعيش مثل هذه المعيشة التي أخذ بها نفسه وأهل بيته، فلم تكن الطيبات محرمة في عقيدته وشريعته، ولم يحرمها على نفسه حين كانت تقدم إليه عفواً بلا تكلف، وتحصل بين يديه مصادفة واتفاقاً، لا جرياً وراءها، ولا تشهياً لها، ولا انشغالاً بها، ولا انغماساً فيها.

ولم يكلف أمته أن تعيش عيشته التي اختارها لنفسه، إلا أن يختارها من يريد استعلاءً على اللذائذ والمتاع، ولكن نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- كن نساءً من البشر، لهن مشاعر البشر، وعلى فضلهن وقربهن من ينابيع النبوة الكريمة، فإن الرغبة الطبيعية في متاع الحياة ظلت حية في نفوسهن، فلما رأين السعة والرخاء بعدما أفاض الله على رسوله والمؤمنين راجعن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر النفقة، فلم يستقبلها بالرضا والترحيب، إنما استقبلها بالأسى وعدم الرضا، إذ كانت نفسه ترغب أن تعيش فيما اختاره لها، متجردة من الانشغال بذلك الأمر، وأن تظل حياته وحياة من يلوذ به على ذلك الأفق السامي، بالتحرر من هواتف شهوات هذه الأرض الرخيصة، وأن تظل القيم الإسلامية العالية ممثلة ومترجمة في بيت النبوة، الذي سيبقى منارة للإسلام والمسلمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

فنزلت آية التخيير لنسائه، فإما الحياة الدنيا وزينتها، وإما الله ورسوله والدار الآخرة, كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28، 29]. فاختارت نساؤه الله ورسوله والدار الآخرة اختياراً مطلقاً، ففرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بارتفاع قلوب أزواجه إلى هذا الأفق السامي الشريف، ولمكانة أمهات المؤمنين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن أزواجه، ومحل القدوة لنساء العالمين.

ولهن حقوق وعليهن واجبات؛ تبعاً للمكان الذي هن فيه، يناسب مقامهن من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما قال -سبحانه-: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [الأحزاب: 30]،  فالعذاب يضاعف للمقارفة ضعفين، كما أن الأجر يضاعف على طاعتهن وقنوتهن ضعفين, كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا) [الأحزاب: 31]، وهن لسن كأحد من النساء، عليهن واجبات في معاملة الناس، وفي عبادة الله، وفي بيوتهن، وأمهات المؤمنين أطهر نساء على وجه الأرض، ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل والتوجيهات، فهذه حال سيد المرسلين، وحال نسائه، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه نساء المؤمنين بين نساء العالمين إلى يوم القيامة.

ومن ثم كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- معروضة لأنظار أمته، وقد سجل القرآن الكريم هذه الحياة: حياته الشخصية, وحياته المنزلية, وحياته الأسرية, وعباداته ومعاملاته, ومعاشراته وأخلاقه, وجهاده وغزواته, وأحواله في سفره وإقامته, وصحته ومرضه, وسننه في حال الأكل والشرب, والنوم واليقظة, واللباس والركوب, والسلم والحرب, والغنى والفقر, وهكذا, حتى خطرات قلبه سجلها القرآن ليظهر كل ذلك للأجيال، فتقتدي بها، وتسير على هديها إلى يوم القيامة كما قال -سبحانه-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].

وقد أمر الله -سبحانه- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بإبلاغ الدين كاملاً فقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67]، إنه موقف يثير العطف على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى كل مسلم، كما يثير الرهبة حول هذا الشأن الخطير، حقاً إن إنذار البشرية وإيقاظها وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة، وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان، إن ذلك كله واجب ثقيل شاق حين يناط بفرد من البشر مهما يكن نبياً رسولاً.

نسأل الله -سبحانه- أن يرزقنا حقيقة الإيمان وحلاوته، وأن يجعلنا من المتبعين للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، الحمد لله الذي جمعنا بالصالحين ووفقنا لسيرة سيد المرسلين، نسأله رحمة منه فهو أرحم الراحمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين, وحجة الله على الهالكين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: لا شك أن ما تعاني منه البشرية من الضلال والعصيان، والتمرد والانحراف، والعتو والعناد، والإصرار والاستكبار، يجعل من الدعوة أصعب شيء، وأثقل ما يكلَفه إنسان في هذه الحياة لولا عون الله وتوفيقه، ولكن الله يصطفي ويختار من يصلح لهداية البشرية، ويربيهم ويهديهم، ويوفقهم ويعينهم على حمل الأمانة العظمى.

إن الله -عزَّ وجلَّ- يأمر رسوله بإنذار البشرية كافة، ويوجهه في خاصة نفسه بعد إذ كلفه نذارة غيره إلى تكبير ربه كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر: 1 - 3]، كبر ربك وحده، فهو وحده الكبير الذي يستحق التكبير، فكل شيء، وكل أحد، وكل مخلوق، وكل قيمة، وكل كائن صغير، والله وحده هو الكبير، والسموات والأرض، والأجرام والأحجام، والأحداث والأحوال، كلها تتوارى وتنمحي في ظلال الجلال والكمال لله الواحد الكبير المتعال.

وهذه الدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل فيها، فالبذل فيها من الضخامة بحيث لا تحتمله النفس إلا حين تنساه، بل حين لا تستشعره من الأصل؛ لأنها مستغرقة في الشعور بالله، شاعرة بأن كل ما تقدمه هو من فضله ومن عطاياه، فهو فضل يمنحها الله إياه، وعطاء يختارها له، ويوفقها لنيله، وهو اختيار واصطفاء وتكريم، يستحق الشكر لله لا المن والاستكثار.

عباد الله: وقد امتن الله -سبحانه- وتكرم على البشرية بإنزال منهج يحيط بالإنسان في جميع أحواله، فلا تجد تصرفاً بشرياً إلا وله أمر من الله يستوعبه, كما قال -سبحانه-: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]،  فمنهج الله الذي أرسل به رسوله -صلى الله عليه وسلم- يحيط بحياة الإنسان إحاطة كاملة, وفيه شفاء للبشرية، وحل مسائلها إلى يوم القيامة.

فلا أحد يترك منهج الله وخاتم رسله إلا أن يكون له غرض شخصي، منهج يوافق هواه، فيترك منهج السماء، ويتبع منهجاً وضعه البشر، ولكن لماذا؟، فما الذي دهى الأمة حتى أعرضت عنه، ونبذت أحكامه وسننه وشرائعه؟

إن هذا الدين الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- من ربه حق واجب لكل إنسان، فيجب إيصاله إليه ودعوته إليه، حتى لا تكون فتنة وفرقة وخلاف، ويكون الدين كله لله: (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [إبراهيم: 52].

والنبي -صلى الله عليه وسلم- وُلد يتيماً, ونشأ مسكيناً, وعاش فقيراً, ومع ذلك أمره الله بأمر عظيم، وهو إبلاغ رسالة الله ودينه إلى الناس كافة، وما أعطي لإبلاغ ذلك شيئاً من الملك والأموال والأسباب؛ لأن معه معية الله ونصرته، التي أيد بها رسله، فنصره الله على قوم يقينهم أن الفوز والفلاح في الأموال والدولة، ومعهم قوة الأسباب، ويقينهم أن قضاء الحاجات في أيدي الأوثان والأصنام.

ووقف أهل الأرض في وجهه، ولكن الله نصره عليهم مع قلة الأسباب؛ لأن النصر ليس بالأسباب، بل بيد الناصر وحده لا شريك له كما قال -سبحانه-: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].

وقد خُيّر الله رسولَه محمداً -صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون عبداً رسولاً أو ملكاً رسولاً، فاختار العبودية على الملك, فالعبودية لله أعظم صفة شرف له ولأتباعه، وليس عند العبد شغل أو عمل إلا امتثال أوامر سيده، وطاعته في جميع الأحوال، ولذا قال الله عنه في مقام الوحي: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) [النجم: 1]، وفي مقام الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء: 1]، وفي مقام التنزيل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان: 1].

وقد بعث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- على حين فترة من الرسل, والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب مبدّل، أو محرّف، أو منسوخ، وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من كوكب، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو نار، أو غير ذلك مما زينه الشيطان وغرَّبه العباد، وقد آمن من هؤلاء أكثر ممن آمن من أهل الكتاب.

والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الإمام المطلق في الهدى لأول بني آدم وآخرهم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ" [مسلم (2278)]، فجاء محمد -صلى الله عليه وسلم- بالدين الكامل الشامل الباقي إلى يوم القيامة كما قال -سبحانه-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3].

إن الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- صالح كامل، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه، باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يقبل الله ديناً سواه بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].

والنبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء، وبعد بعثته لا بدَّ من اتباعه، ومن تبع غيره حتى لو كان نبياً يعد مخالفاً، وعمله غير مقبول, كما قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسِلْتُ بِهِ، إِلا كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ" [مسلم (153)]، وبما أن الأمم السابقة من طلب منهم آية تدل على صدق المرسل إليهم أجيب إليها، فإن لم يؤمنوا بعدها عاجلهم الله بعذاب الاستئصال، ولكون هذه الأمة هي الخاتمة حفظها الله من عذاب الاستئصال، وشرفها بالدين والبقاء، والدعوة إلى الله إلى يوم القيامة كما قال -سبحانه-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].

وقد جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدين الكامل، وتوفي -صلى الله عليه وسلم- وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وتوفي -صلى الله عليه وسلم- وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر للأمة منه علماً، بل علمهم أحكام كل شيء، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، وشريعته كاملة، ما طرق العالم شريعة أكمل منها في بيان كل شيء.

فيجب على كل إنسان الإيمان بعموم رسالته في ذلك، ومن ظن أن شريعته ناقصة تحتاج إلى من يكملها فهو كمن ظن أن الناس بحاجة إلى رسول آخر بعده.

اللهم ارزقنا إيمانًا صادقًا ومحبة لنبيك واتباعًا له، اللهم لا تحرمنا شفاعته، وأدخلنا مدخله وأوردنا حوضه، واسقنا من يده شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأصلح لنا أحوالنا، وانصرنا على القوم الكافرين.