القابض
كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية |
يا عبدَ اللهِ: اجمعْ كلَ بلاياكَ، فستجدُ أنها لا شيءَ مقابلَ ما ابتُليَ به رسولُكَ -صلى اللهُ عليه وسلم-، وتأملْ غزوةً امتدتْ قُرابةَ شهرينِ، ولكنَّ اللهَ سمَّاها بـ(سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) و"سماها ساعةً؛ تهويناً لأوقاتِ الكروبِ، فإن أمَدَها يسيرٌ، وأجرَها خطيرٌ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ يُقدِّرُ الآجالَ، ويُعقِبُ أجيالاً بأجيالٍ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا هو، وهو شديدُ المحالِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه حلَّ في هذهِ الدنيا ثم آذَنَ بارتحالٍ، فاللهم صلِّ وسلِّمْ عليه ما توالتِ الليالِ.
أما بعدُ: فاتقوا اللهَ؛ فتقواهُ خيرُ زادٍ ليومِ المعادِ.
أيها المصلُّون: إذا غربتْ شمس هذا اليومِ المباركِ فقد دخلَ شهرٌ من الأشهرِ الأربعةِ الحُرُمِ، إنه شهرُ رجبٍ، إنهُ شهرٌ عظيمٌ وقعتْ فيه غزوةٌ عظيمةٌ، كانتْ أضخمَ وآخرَ غزوةٍ غَزاها الرسولُ -صلى اللهُ عليه وسلم-.
إنها غزوةُ تبوكٍ، فقطعَ المسلمونَ ألفًا وأربعَ مائةِ كِيلاً ذَهابًا وإيابًا، ومعهمْ نبيُهم وقائدُهم -صلى الله عليه وسلم-، وذلكَ قبلَ انقضاءِ عمُرهِ الشريفِ بسنةٍ ونصفٍ.
سارَ خيرُ نبيٍّ مع خيرِ صَحْبٍ، ولكنَّ معهمْ منافقونَ ومُندسُّونَ، في جيشٍ عرمرمٍ بلغَ قِوامُه ثلاثونَ ألفِ مقاتلٍ، ليُقابِلُوا مائةَ ألفٍ من الرومِ، رُغمَ الحرِ، وعُسرِ النفقةِ، وقلةِ المركبِ، وشحِ المطعمِ. سارُوا وثمارُ نخيلِهم على وشْكِ النُّضجِ، ليَقطعُوا طريقًا وعِرةً مُهلكةً، تحتَ حرارةٍ ملتهبةٍ. ولذلك سُمِّيَ الجيشُ بجيشِ العُسرةِ.
وخذْ صورةً من عُسرةِ خيرِ رسولٍ وصَحْبٍ: قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلا أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ شَدِيدٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ.. وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ، فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ، فَيَشْرَبُهُ.. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّنْيَا خَيْرًا فَادْعُ".
يا لَجَمالِ الخِطابِ! إيْ واللهِ ما تَعَوَّدْنا مِن ربِّنا إلا خيرًا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى اللهُ عليه وسلم-: "أَتُحِبُّ ذَلِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟" قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتِ السَّمَاءُ، ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتْ عَنِ الْعَسْكَرِ.(كشف الأستار عن زوائد البزار: 2/240).
ويزيدُ البلاءَ أنهم يَصحبُهم منافقونَ يستهزئونَ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ)[التوبة:65-66].
ومنافقونَ آخرونَ يَعتذرونَ (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ)[التوبة:50].
ومنافقونَ يُثبِّطونَ ويُرجِفونَ، حتى قالَ بعضُهم لبعضٍ: واللهِ لكأنَّا بكمْ غدًا مقرَّنينَ في الحِبالِ.
ويَقْتَرِبُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- مِنْ عَيْنِ تَبُوكَ.. فيَقولُ: "مَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ"، فَيَسْبِقُهُ إِلَيْهَا رَجُلاَنِ مُنافِقانِ. فَيسَأَلُهُمَا: "هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا"؟ فقَالاَ: نَعَمْ. فَسَبَّهُمَا (صحيح مسلم:706)؛لِعِنادِهما ومخالفَتِهِما.
والعجيبُ في غزوةِ تبوكٍ برغمِ أنواعِ العُسرِ المجتمِعِ فيها طيلةَ خمسينَ ليلةً إلا أنه لم يَحدثْ فيها قتالٌ أبدًا، بل لطُفَ اللهُ بهم، فانتهتْ بالصلحِ، فلماذا كلُ هذا؟ لأنها كانتْ غزوةً كاشفةً فاضحةً كشفتِ المؤمنينَ الصادقينَ، وفضحتِ المنافقينَ والمندسّينَ.
وجاءتِ الجائزةُ الكُبرى تقولُ: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة:117]، توبةُ اللهِ عليكَ هو خيرُ خبرٍ يُهدَى إليكَ، وتثبيتُكَ على دينهِ أعظمُ جائزةٍ.
رجعَ الجيشُ الإسلاميُ إلى المدينةِ معزَّزاً منصوراً. ولكنْ لم يَسلَمِ الرسولُ والمؤمنونَ من المَكرِ الكُبَّارِ، ففي أثناءِ الرجوعِ كادَتْ أنْ تقعَ جريمةٌ عظيمةٌ، بخطةٍ خطيرةٍ دبَّرها منافقونَ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ فِي ظلامِ الليلِ (مسند أحمد: 23792. قال الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم).
أتدرونَ ما يُريدونَ؟! يُريدون اغتيالَ النبي -صلى اللهُ عليه وسلم- في لحظةٍ يكون فيها لوحدِهِ. فكشفَ الوحيُ خِطَّتَهم، وعرَّفَ بأسمائِهم، وأنزلَ اللهُ فيهم: (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) ومع جُرمِهم يَعرِضُ عليهمُ التوبةَ: (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)[التوبة: 74].
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلامًا على منِ اصطفَى، وآلهِ وصحبهِ ومنِ اقتفَى، أما بعدُ:
فقد رجعَ -صلى اللهُ عليه وسلم- إلى المدينةِ بعد أن غابَ عنها خمسينَ يوماً.
لكنْ أتظنَّ أن مَكرَهم انقطعَ؟! لا واللهِ بل بَنَوا لهمْ (مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[التبوة:107].
يا عبدَ اللهِ: اجمعْ كلَ بلاياكَ، فستجدُ أنها لا شيءَ مقابلَ ما ابتُليَ به رسولُكَ -صلى اللهُ عليه وسلم-، وتأملْ غزوةً امتدتْ قُرابةَ شهرينِ، ولكنَّ اللهَ سمَّاها بـ(سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) و"سماها ساعةً؛ تهويناً لأوقاتِ الكروبِ، فإن أمَدَها يسيرٌ، وأجرَها خطيرٌ، فكانْت حالهُم بعدَ الغزوةِ أكملَ من حالهِم قبلَها"(نظم الدرر:9/ 36).
وزالَ الجوعُ والخوفُ والتعبُ، وذهبَ الظمأُ وثبتَ الأجرُ إن شاءَ اللهُ. وسيَزولُ كربُنا وكورونا بإذنِ ربِّنا، وسيَثبتُ الأجرُ للمتوكلينَ الصابرينَ.
فاللهمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عَبَادَتِكَ. اللهمَّ وَفِّقْنا للصَّالِحَاتِ قَبْلَ المَمَاتِ، وأرْشِدْنَا إلى اسْتِدْرَاكِ الهَفَواتِ مِنْ قَبْلِ الفَوَاتِ. وألْهِمْنا أَخْذَ العُدَّةِ للوَفَاة قَبْلَ المُوَافَاةِ، وارْفَعْ عنَّا خَطَايَا الخُطُوَاتِ إلى الخَطِيْئَاتِ.
اللَّهُمُّ اِحْفَظْ بِلَادَنَا بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ وبالسَّلامَةِ مِنَ الآفَاتِ ومِنَ المُحْدَثَاتِ. اللَّهُمَّ إِنَا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْوَبَاءِ وَالْغَلَاَءِ. وَنعُوْذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البَلاَءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ القَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ.
اللَّهُمَّ عُمَّ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَيْرِ والصحةِ وَالسَّلامِ. اللَّهُمَّ وَاِحْفَظْ أَبْطَالَ الصِّحَّةِ، وَجُنُودَنَا فِي ثَكَنَاتِهِمْ وَتَفْتِيشَاتِهِمْ، واخلفُهُمْ فِي أَهْلِيِهِمْ بِخَيْرِ. وسدِّدْ رجالَ التعليمِ ووفِّقْ فلذاتِ التعلُّمِ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ لَنَا مَلِكَنَا وَأَمِدَّهُ بِالصِّحَّةِ فِي طَاعَتِكَ، وَمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِنْ وَلِيَّ عَهْدِهِ وَارْزُقْهُم بِبِطَانَةٍ صَالِحَةٍ نَاصِحَةٍ.