العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لَكِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ عِشْرَةً لِلنَّاسِ، وَاطَّلَعَ أَزْوَاجُهُ الْكَثِيرَاتُ عَلَى أَسْرَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ دَاخِلَ غُرَفِهِنَّ- مَا كَانَتْ حَيَاتُهُ فِي السِّرِّ تَخْتَلِفُ عَنْ حَيَاتِهِ فِي الْعَلَنِ، وَمَا كَانَ يَتَصَنَّعُ لِلنَّاسِ أَشْيَاءَ يَفْعَلُ غَيْرَهَا، وَلَا نَقَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ رَغْمَ طُولِ الْعِشْرَةِ وَالمُخَالَطَةِ، وَمِنْ أَزْوَاجِهِ مَنْ كُنَّ بَنَاتِ أَعْدَائِهِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ الَّتِي يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ رَغْمَ أَهَمِّيَّتِهَا؛ فَهُوَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِهِ وَمَعَ أُسْرَتِهِ جَمَعَ بَيْنَ الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الِاعْتِيَادِيَّةِ، وَبَيْنَ التَّنَزُّهِ عَمَّا يُعَابُ مِنْهَا...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ (خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) [النَّجم: 45-46]؛ نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، فَالْخَيْرُ بِيَدَيْهِ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَإِنَّا بِهِ وَإِلَيْهِ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ جَعَلَ حَاجَةَ المَرْأَةِ إِلَى الرَّجُلِ كَحَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِتَكَامُلِهِمَا وَتَآلُفِهِمَا وَتَوَادِّهِمَا، وَيَقَعُ الشَّقَاءُ بِتَنَافُرِهِمَا وَخَلْقِ الصِّرَاعِ بَيْنَهُمَا (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرُّوم: 21].
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ لَهُ فِي بَيْتِهِ وَمَعَ نِسَائِهِ أَخْبَارٌ وَأَحْوَالٌ تَدُلُّ عَلَى بَشَرِيَّتِهِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى صَبْرِهِ وَحِلْمِهِ وَعَدْلِهِ وَحُسْنِ خُلُقِهِ، وَلَا عَجَبَ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أَدَّبَهُ رَبُّهُ سُبْحَانَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ تَعَالَى فَقَالَ فِيهِ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ –تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَلَّمُوا مِنْ دِينِهِ مَا يَنْفَعُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ؛ فَإِنَّ المَوْتَ قَرِيبٌ، وَالْحِسَابَ عَسِيرٌ، وَهَوْلَ المُطَّلَعِ شَدِيدٌ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقَّة: 18].
أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يُعَايِشُ الْإِنْسَانُ عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَيُطِيلُ المُكْثَ مَعَهُمْ، وَيَطَّلِعُونَ عَلَى حَيَاتِهِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ عُيُوبِهِ وَأَخْطَائِهِ وَأَسْرَارِهِ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ. وَكُلَّمَا كَثُرَ الْمُحِيطُونَ بِالمَرْءِ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى لِكَشْفِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ عَاشَ وَحِيدًا، وَمَاتَ وَحِيدًا.
لَكِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَكْثَرُ النَّاسِ عِشْرَةً لِلنَّاسِ، وَاطَّلَعَ أَزْوَاجُهُ الْكَثِيرَاتُ عَلَى أَسْرَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ دَاخِلَ غُرَفِهِنَّ- مَا كَانَتْ حَيَاتُهُ فِي السِّرِّ تَخْتَلِفُ عَنْ حَيَاتِهِ فِي الْعَلَنِ، وَمَا كَانَ يَتَصَنَّعُ لِلنَّاسِ أَشْيَاءَ يَفْعَلُ غَيْرَهَا، وَلَا نَقَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أَزْوَاجِهِ مَا يُعَابُ عَلَيْهِ رَغْمَ طُولِ الْعِشْرَةِ وَالمُخَالَطَةِ، وَمِنْ أَزْوَاجِهِ مَنْ كُنَّ بَنَاتِ أَعْدَائِهِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ الَّتِي يَغْفُلُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ رَغْمَ أَهَمِّيَّتِهَا؛ فَهُوَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِهِ وَمَعَ أُسْرَتِهِ جَمَعَ بَيْنَ الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الِاعْتِيَادِيَّةِ، وَبَيْنَ التَّنَزُّهِ عَمَّا يُعَابُ مِنْهَا.
وَهَاكُمْ حَدِيثًا عَجِيبًا عَنْ شِجَارٍ حَصَلَ بِحَضْرَتِهِ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَمَاذَا قَالَ؟ وَمَاذَا قُلْنَ؟ وَمَاذَا فَعَلَ؟ وَمَاذَا فَعَلْنَ؟ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "أَنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ حِزْبَيْنِ، فَحِزْبٌ فِيهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَصَفِيَّةُ وَسَوْدَةُ، وَالحِزْبُ الآخَرُ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَكَانَ المُسْلِمُونَ قَدْ عَلِمُوا حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمْ هَدِيَّةٌ يُرِيدُ أَنْ يُهْدِيَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَخَّرَهَا حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، بَعَثَ صَاحِبُ الهَدِيَّةِ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَيْتِ عَائِشَةَ.
فَكَلَّمَ حِزْبُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدِيَّةً، فَلْيُهْدِهِ إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِمَا قُلْنَ، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا، فَقُلْنَ لَهَا: فَكَلِّمِيهِ، قَالَتْ: فَكَلَّمَتْهُ حِينَ دَارَ إِلَيْهَا أَيْضًا، فَلَمْ يَقُلْ لَهَا شَيْئًا، فَسَأَلْنَهَا، فَقَالَتْ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا.
فَقُلْنَ لَهَا: كَلِّمِيهِ حَتَّى يُكَلِّمَكِ، فَدَارَ إِلَيْهَا فَكَلَّمَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: «لاَ تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ؛ فَإِنَّ الوَحْيَ لَمْ يَأْتِنِي وَأَنَا فِي ثَوْبِ امْرَأَةٍ إِلَّا عَائِشَةَ»، فَقَالَتْ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُنَّ دَعَوْنَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَقُولُ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَكَلَّمَتْهُ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةُ أَلاَ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟» فَرَجَعَتْ إِلَيْهِنَّ، فَأَخْبَرَتْهُنَّ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "فَقُلْنَ لَهَا: مَا نَرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ" فَقُلْنَ: ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَرْجِعَ، فَأَرْسَلْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، فَأَتَتْهُ، فَأَغْلَظَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدْنَكَ اللَّهَ العَدْلَ فِي بِنْتِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ، فَرَفَعَتْ صَوْتَهَا حَتَّى تَنَاوَلَتْ عَائِشَةَ وَهِيَ قَاعِدَةٌ فَسَبَّتْهَا، حَتَّى إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ، هَلْ تَكَلَّمُ.
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: "ثُمَّ وَقَعَتْ بِي، فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ، هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا، قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ"
فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ تَرُدُّ عَلَى زَيْنَبَ حَتَّى أَسْكَتَتْهَا، قَالَتْ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى عَائِشَةَ وَقَالَ: «إِنَّهَا بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ». أَيْ: إِنَّهَا شَرِيفَةٌ عَاقِلَةٌ عَارِفَةٌ كَأَبِيهَا.
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَكَوْنُهَا أَحَبَّ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِ، وَالْأُخْرَيَاتُ مِنْ نِسَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا سَأَلْنَهُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ فِي مَحَبَّةِ الْقَلْبِ، وَكَانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَبِيتِ وَالنَّفَقَةِ وَنَحْوِهِ.
وَأَمَّا مَحَبَّةُ الْقَلْبِ فَكَانَ يُحِبُّ عَائِشَةَ أَكْثَرَ مِنْهُنَّ، وَالْقَلْبُ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى؛ وَلِذَا عُذِرَ المَرْءُ فِي مَيْلِ الْقَلْبِ، مَا لَمْ يُؤَدِّ مَيْلُهُ إِلَى الظُّلْمِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالمُعَلَّقَةِ) [النساء: 129].
وَفِيهِ تَنَافُسُ الضَّرَائِرِ عَلَى الرَّجُلِ، وَالْحَظْوَةِ بِهِ، وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِنَّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَفْخَرَةٌ لِأُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ- أَنْ يَتَغَايَرْنَ عَلَى أَفْضَلِ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَإِذَا اخْتَصَمَ الضَّرَائِرُ أَمَامَ زَوْجِهِنَّ فَيَسَعُهُ السُّكُوتُ عَنْهُنَّ، فَلَا يَمِيلُ بِالْقَوْلِ وَلَا بِالْفِعْلِ مَعَ بَعْضِهِنَّ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَنْتَصِرْ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- رَغْمَ أَنَّهُ يُحِبُّهَا، وَرَغْمَ أَنَّ زَيْنَبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- اعْتَدَتْ عَلَيْهَا بِالْقَوْلِ، وَلَمْ يُحَرِّضْ عَائِشَةَ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهَا، بَلْ سَكَتَ، حَتَّى فَهِمَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مِنْ نَظْرَتِهِ أَنَّهُ لَا يُمَانِعُ مِنِ انْتِصَارِهَا لِنَفْسِهَا، فَرَدَّتْ عَلَى زَيْنَبَ قَوْلَهَا.
وَفِيهِ هَيْبَةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ نِسَائِهِ رَغْمَ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُهُنَّ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّعْنِيفِ عَلَيْهِنَّ، وَكَانَ لَهُ عِنْدَهُنَّ إِجْلَالٌ وَتَوْقِيرٌ كَبِيرٌ، جَعَلَ عَائِشَةَ لَا تَنْتَصِرُ لِنَفْسِهَا حَتَّى عَلِمَتْ أَنَّهُ لَا يَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ، وَحَتَّى أَرْسَلَ نِسَاؤُهُ بِشَكْوَاهُنَّ مَعَ ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ؛ لِعِلْمِهِنَّ بِمَكَانَتِهَا عِنْدَ أَبِيهَا وَمَحَبَّتِهِ لَهَا.
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ النَّبَوِيِّ حَلَاوَةُ أَخْبَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ نِسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَهِيَ حَلَاوَةٌ لَا يَجِدُ طَعْمَهَا إِلَّا مَنْ وَجَدَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا مَنِ اسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ، وَأَيْقَنَ أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا حَوَاهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، فَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمَا، وَلَا يَسْتَبْدِلُ بِهِمَا غَيْرَهُمَا، وَإِلَّا كَانَ مِمَّنِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَذَلِكَ سَبِيلُ الْجَهَلَةِ المُعْرِضِينَ.
نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنَ الْجَهْلِ وَالْهَوَى، وَمِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَتَمَامِ الِاسْتِسْلَامِ، وَرُسُوخِ الْيَقِينِ، وَالْإِخْلَاصِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمُتَابَعَةِ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي قِصَّةِ خُصُومَةِ نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ، مَا كُنَّ عَلَيْهِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ، وَالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذَّنْبِ، وَالْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ، وَمَا أَعْسَرَ ذَلِكَ عَلَى النُّفُوسِ!
فَأُمُّ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- لمَّا كَلَّمَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَأْنِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَكَرَّرَتْ ذَلِكَ، فَنَهَاهَا أَنْ تُؤْذِيَهُ فِي عَائِشَةَ، مَا كَانَ جَوَابُهَا إِلَّا أَنْ قَالَتْ: «أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِنْ أَذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» سُرْعَةٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، وَإِمْسَاكٌ عَنِ الْقَوْلِ وَالْجِدَالِ، فَأَيْنَ مِنْ هَذَا المَوْقِفِ الْعَجِيبِ مَنْ يُجَادِلُونَ فِي دِينِ اللهِ تَعَالَى بِجَهْلٍ أَوْ بِهَوًى، أَوْ بِكِلَيْهِمَا، وَيُصِرُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى بَاطِلِهِ حَتَّى يَزِيغَ قَلْبُهُ؟!
وَمَا أَعْظَمَ مَوْقِفَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي وَصْفِهَا لِزَيْنَبَ، وَهِيَ ضَرَّتُهَا! بَلْ هِيَ أَكْثَرُ نِسَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنَافَسَةً لَهَا، فَحِينَ وَصَفَتْهَا عَائِشَةُ قَالَتْ فِيهَا مَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا مَادِحٌ، كَمَا جَاءَ فيِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ:«فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ. وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ، وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا، تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ».
فَمَدَحَتْهَا بِأَجْمَلِ الْخِصَالِ، وَقَلَّلَتْ مِمَّا فِيهَا مِنْ سُرْعَةِ الْغَضَبِ، فَقَالَتْ: سَوْرَةٌ مِنْ حِدَّةٍ، ثُمَّ أَعْقَبَتْ ذَلِكَ بِمَدْحِهَا فِي سُرْعَةِ رُجُوعِهَا عَنْ غَضَبِهَا. تَقُولُ عَائِشَةُ ذَلِكَ وَهِيَ الَّتِي تَخَاصَمَتْ مَعَهَا، وَتَبَادَلَتَا السِّبَابَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنَّهَا النُّفُوسُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي لَا تَنْزِعُ إِلَى الظُّلْمِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَغْيِ لَا فِي الْقَوْلِ وَلَا فِي الْفِعْلِ.
وَلَمْ تَكُنْ زَيْنَبُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَقَلَّ مِنْ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ النَّبِيلَةِ؛ إِذْ لمَّا وَقَعَ مَنْ وَقَعَ فِي الْإِفْكِ، وَكَانَتْ فُرْصَةً لِزَيْنَبَ أَنْ تَنْتَقِمَ مِنْ عَائِشَةَ، عَصَمَ زَيْنَبَ دِينُهَا فَكَانَ أَقْوَى مِنْ غَضَبِهَا، وَضَبَطَ وَرَعُهَا غَيْرَتَهَا، فَدَافَعَتْ عَنْ عَائِشَةَ، وَاسْتَنْكَرَتْ مَا قُذِفَتْ بِهِ مِنَ الْإِفْكِ، حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: «يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ؟ مَا رَأَيْتِ؟»، فَقَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالوَرَعِ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).
فَلِلَّهِ دَرُّ هَذِهِ النُّفُوسِ الْعَظِيمَةِ! وَللهِ دَرُّ هَذِهِ الْقُلُوبِ الْكَبِيرَةِ! وَمَا أَحْوَجَنَا إِلَى تَعَلُّمِ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ وَالْحُكْمِ عَلَى الْآخَرِينَ فِي زَمَنٍ طَغَى فِيهِ الظُّلْمُ عَلَى النُّفُوسِ، فَنَزَعَتْ إِلَى الْبَغْيِ وَالِافْتِرَاءِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ! (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأنعام: 152].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...