الودود
كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...
العربية
المؤلف | محمد عبد الكريم الشيخ |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
إنّ غلاء الأسعار محنة من المحن، وعقوبة من العقوبات، وبلاء يرسله الله -تعالى- على الناس، وإن لم يجد الناس حلولاً ناجعة أساسية لمثل هذه البلايا والمحن فإنها قد تتفاقم، وتؤدي في النهاية إلى مالا تحمد عقباه، والتاريخ مليء بصور بشعة من مآلات غلاء الأسعار، وكيف اضطر الناس لأكل الهوام والدواب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله القابض الباسط، المحيي المميت، المعز المذل، الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، والظاهر فلا شيء فوقه، خلق الخلق فقدّر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، وقسّم لهم أرزاقاً، فالسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، خلق ربنا كل شيء فهدى، فله الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله، أوحّده وأعبده، وأذكره وأثني عليه الخير كله، أشكره ولا أكفره، وأخلع وأترك من يفجره، وأشهد أنّ سيدنا وإمامنا وعظيمنا وقدوتنا وأسوتنا محمداً رسول الله، أرسله الله بالبينات، فهدى الله -تعالى- به إلى الواضحات، وتركنا به على محجة بيضاء، وحنيفية سمحاء، نشهد أنه أدى الرسالة، وبلّغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، فاللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحابته الغر الميامين، اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من خير أهل ملته، واسقنا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإنكم إن اتقيتموه جعل الله لكم من كل همّ فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، كما وعدكم الله -جل وعلا- فقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
ثم يجعل الله لكم مع التقوى فرقانا تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29].
فاتقوا الله بأن تمتثلوا أمر الله، على نور من الله؛ ترجون ثوابه، وأن تتركوا معصية الله، على نور من الله؛ تخافون عقابه.
تزود للذي لا بد منه | فإنّ الموت ميقات العبادِ |
وتب مما جنيت وأنت حيٌّ | وكن متهيئا قبل الرقاد |
ستندم إن رحلت بغير زادٍ | وتشقى إذ يناديك المنادي |
أترضى أن تكون رفيق قوم | لهم زاد وأنت بغير زاد؟ |
إخوة الإيمان: إنّ من البلاء والمحنة التي يرسلها الله على أقوام، ما يتصل بشأن الغلاء، وما أدراك ما غول الغلاء؟! وما أدراك ما يمتحن الله -تعالى- به الناس من جحيم الأسعار حين ترتفع وتدلف إلى كل شكل من أشكال الحياة؟! هذا الغلاء الذي لا يقف عند ما هو مستورد أو عند ما يدخل إلينا من الخارج، وإنما يتعدى كل سبيل من السبل وكل خدمة من الخدمات، في مواد البناء والأدوية والإيجارات، بل في المواد الغذائية في المطعومات مما يقوم عليه حياة الناس، فضلاً عن الخدمات المهنية التي يحتاج فيها الناس بعضهم إلى بعض.
إن حدث هذا في بلد قليل الموارد، ضعيف الثروة، لا يتمتع بإمكانات ولا بنعم وفيرة، أو في بلد ليست له موارده المائية ولا ثروته المعدنية، ولا يملك عقولا وخبرة ممن يمكن أن يوظف هذه الإمكانات، فيمكن ذلك أن يعقل، أمّا في بلد مرشح أن يكون الدولة الثالثة في العالم بأسره لكي يغذي العالم وينتج إليه الخيرات، في بلد يجري تحته أكبر نهر في الدنيا، يمتلك أراضي واسعة، ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية التي لم تستغل، ومع ذلك خبراء أساتذة في الزراعة وفي الفلاحة تستفيد الدول من حولنا من خبرة هؤلاء وتستجلب العقول من هذا البلد للقيام بنهضات زراعية في بلاد ليست فيها هذه الإمكانات! لماذا ترتفع الأسعار؟ وأي أسعار؟ أسعار الخضر والفواكه! ليست أسعار آلات تستورد؛ وإنما أسعار الخضروات! تزداد أضعافا مضاعفة تصل إلى عشرين ضعفا أو تزيد.
في بعض البلدان من حولنا إذا ارتفع السعر شيئا يسيراً، جنيهاً أو جنيهين، درهماً أو درهمين، يضيق بالناس الأمر، وهنا، في هذه البلاد، تعجب حين تذهب فتجد أنّ السلعة لليوم التالي تضاعفت أضعافا مضاعفة، عشرة جنيهات دفعة واحدة! في سلع أساسية! لماذا هذا؟!.
في بعض ولايات السودان تحكي بعض التقارير الواردة أنّ هنالك شبح مجاعة تضرب أنحاء من القرى، يهجر الأفراد تلك القرى يبحثون عن الأكل والشرب لأن عشرات مهددين بالجوع، بل مئات، ويعيشون حالة من الضنك لا يعلمها إلا الله، لا يمنع كثيرين منهم من التسول إلا العفة! (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) [البقرة:273]، وهذه خلة شائعة في كثيرين من أهل هذا البلد الشرفاء، فيأبى الواحد منهم أن يريق ماء الوجه أمام الناس بذل السؤال فيكتم ما به من الجوع والفاقة فيرحل عن موطنه وبلده وقريته طلبا للطعام وللقمة العيش وللبحث أحيانا عن الدواء، فحق علينا قول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
أيها المصلحون ضاق بنا العيـ | ــشُ ولم تحسنوا عليه القياما |
وغدا القوت في يد الناس كاليا | قوت حتـى نوى الفقير الصـياما |
ومن فتش في بعض أقاربه وأهله، وما أكثرهم في مجتمعنا! يتلمس أحوالهم، يجد الشكوى منهم والأنين، أين الشعارات التي أطلقت في هذا البلد؟ [والعالم كله بيسمع، فلنأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع]؟!.
كيف هجم مثل هذا البلاء على كل أشكال الحياة، هذه الموجة التي لا تخطئها عين، ويحس بها ويشعر بها كل واحد منا، ولست بحاجة أن أتلو قائمة الأسعار كيف كانت في السلع الأساسية قبل شهر، وكيف آلت وصارت؟ وكيف أصبحت بعد شهر واحد في الأسواق المركزية حيث بيع الجملة؛ ناهيك عن الحوانيت والبقالات الأخرى التي تبيع بـ (القطاعي) كما يقولون.
إخوة الإيمان: إنّ غلاء الأسعار محنة من المحن، وعقوبة من العقوبات، وبلاء يرسله الله -تعالى- على الناس، وإن لم يجد الناس حلولاً ناجعة أساسية لمثل هذه البلايا والمحن فإنها قد تتفاقم، وتؤدي في النهاية إلى مالا تحمد عقباه، والتاريخ مليء بصور بشعة من مآلات غلاء الأسعار، وكيف اضطر الناس لأكل الهوام والدواب، كما في تاريخ مصر في منتصف القرن الخامس، يحكي المؤرخون أنه أكلت الكلاب والقطط، حتى فنيت الكلاب وقلّت، حتى بلغ مرة أن بيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير، وتزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وتحرّز الناس أن يسيروا في الطرقات فيخطفوا ليؤكلوا، فكانت طوائف تجلس بأعلى البيوت ومعهم سلب وحبال فيها كلاليب، فإذا مر أحد الناس ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه، حتى آل الأمر إلى أن باع المستنصر الوالي على مصر آنذاك في عهد الفاطميين كل ما في قصره من الذخائر والثياب والآلات والسلاح، وصار يجلس على الحصير، وتعطلت دواوينه، وذهب وقاره، وجاءه الوزير يوماً على بغلته فأكلها الناس، فشنق طائفة منهم من أكلة البشر من أجل هذه المجاعة، فاجتمع عليهم الناس فأكلوهم، أكلوا أولئك الذين قتلهم الوالي من قطاع الطرق. اهـ.
هذه صور بشعة في التاريخ، ويوجد منها في زماننا هذا حيث المجاعات، حيث يأكل الناس أحيانا بعضهم بعضا، فهي محنة، وهي فتنة يجب على الناس أن يتدخلوا وأن يكشفوا هذه الغمة.
يتلاوم الناس فيما بينهم على هذا الارتفاع الجنوني، فالتجار يلومون الحكومة بأن الحكومة تفرض الجبايات الباهظة المتعددة المتفننة على السلع المختلفة، هذا لا بد أنه سبب من الأسباب، وجزء من الحقيقة.
والحكومة تلوم التجار من جهة أنهم جشعون، ومنهم من يحتكر السلع من أجل أن يزيد في الربح ويستربح على حساب قوت الناس، وهذا أيضاً سبب من الأسباب، وجزء من الحقيقة.
وإذا قامت الحكومة بزيادة مرتبات بعض الفئات كالمعلمين والأطباء أيضاً يسارع آخرون إلى رفع الأسعار ليكون ذلك على حساب غير العاملين وموظفي الدولة! إذن؛ أين الأسباب الحقيقية؟ وأين هي تلك الحلول التي يجب أن يضعها الناس في الاعتبار؟.
إخوة الإيمان: أيها المسلمون عباد الله، إنّ المشكلات الكبيرة التي تجتاح الناس وتكون مما يقال عنها مما عمّت بها البلوى عادة لا يرجع الخلل إلى سبب واحد، بل إلى أسباب مجتمعة، ولا يتأتي مثل هذا بسبب أو سببين، وإنما بتراكم الخلل، وبغض الطرف عن كثير من الثغرات حتى تجتمع هذه الأمور على الناس فيفاجأ الناس بغلاء الأسعار وبندرة السلع، ثم في نهاية المطاف بمجاعة تأكل الأخضر واليابس حين يقف الناس وهم يتفرجون على مثل هذا البلاء ومثل هذه المحنة.
إنّ الأسباب التي يتحدث عنها النّاس في العالم حين يقع غلاء الأسعار كثيرة، ويمكننا أن نعدد بعضها.
فمن ذلك: ارتفاع أسعار المواد المستوردة إذا كان البلد يعتمد على المستورد، ولكنّ دراسة أجريت قبل مدة تقول بأنّ المستورد في هذا البلد لا يتجاوز الثلاثة في المائة، وأنّ المشكلة ليست في المستورد وإنما هناك مشكلات أخرى غير مشكلة الاستيراد، نعم الاعتماد على المستورد -وخاصة مع الغلاء العالمي في الأسعار- سبب رئيس من الأسباب حين يكون البلد معتمدا على استيراد السلع، ويحصل ما يحصل في العالم، يقع هذا، لكن، هل هذا ينبغي أن يكون في بلد يرجى أن يكون بلدا قوياً رغم ما به من الإمكانات في الاعتماد على المستورد من السلع والمنتجات؟.
وأيضاً جنوح الأسعار فيما يتعلق بالسلع العالمية، كذلك الأحوال المناخية سبب من الأسباب، قد يضرب الله طرفاً من أطراف من البلد بشح المطر كما وقع في عامنا هذا، وكما وقع قبل عامين، فإذا شحت الأمطار قل الزرع، ونضب الضرع، وارتفعت أسعار البهائم والأنعام، وارتفع السعر، فهذا سبب من الأسباب، وقد يكون بسبب جائحة يرسلها الله على طرف أو على بلد، كفيضانات تجتاح قرى ومدناً، أو أعاصير، أو نحو ذلك مما يقع من كوارث، فقد يكون هذا سببا من أسباب ارتفاع الأسعار.
كذلك ما يقع من ارتفاع السلع الأساسية وذهابها عن الناس، حين يقل في الناس ما كان في أيديهم من بعض الثروات التي كانت تمثل شيئا عظيما في العائد، كالنفط مثلا، فخمس وسبعون في المائة من النفط ذهب مع انفصال الجنوب، ذهب ما كان في ميزانية الدولة، هذا سبب من الأسباب.
ارتفاع سعر هذه السلعة الأساسية في العالم إذا كان البلد يستورد شيئا من هذه السلعة، أيضاً سبب من أسباب ارتفاع هذه الأسعار.
كذلك ارتباط البلد ببعض البلاد الأخرى التي يتأثر اقتصادها، كرهن عملة البلد مثلا بعملة عالمية تتأرجح، كربط العملة بالدولار مثلا، فإذا حصلت أزمة في تلك العملة حصلت أزمة في عملة البلد، ومن هنا أيضاً لا بد من النظر إلى هذا السبب في أن يعتق البلد من إسار بلدان أخرى، خاصة إذا كانت تقوم على ما حرم الله من الربا، ومما نحن ينبغي أن نحاربه بأمر ديننا وشرع ربنا جل جلاله.
من الأسباب غياب الرقابة الرسمية، وعدم ملاحظة ما يقع من انحرافات في دنيا التجارات، فهذا سبب من الأسباب، غياب الرقابة الرسمية، حصول الاحتكار الجشع الذي يضرب قلوب الناس، فيكون همّ التاجر أن تزيد ثروته، وأن تزيد أرصدته، ولو على حساب المساكين من الفقراء والمحتاجين، والنبي -عليه الصلاة و السلام- يقول في الحديث الصحيح، كما في صحيح مسلم: "من احتكر فهو خاطئ". من احتكر أي سلعة يحتاج إليها الناس من الطعام أو من غيره فهو خاطئ، فهو معرض لعقوبة الله -تعالى-، وسيقف أمام الله يوم القيامة وقد احتكر هذه السلعة وخبأها وخزنها أحوج ما يكون الناس إليها، فهو عند الله -تعالى- آثم ومعاقب، سمى النبي -صلى الله عليه وسلم- المحتكر خاطئا، أي: آثما.
كذلك أيضاً ما يقع عند الناس من الذنوب والمعاصي التي يمحق الله -تعالى- بها الأرزاق، فالعبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه كما قال -عليه الصلاة والسلام-، يكتب الله له رزقا فيجترح ذنبا فيحرم ذلك الرزق، فإذا وقعت الذنوب والمعاصي وكثرت يمحق الله -تعالى- الأرزاق: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
ومن ذلك ولوغ الناس في المعاملات المحرمة، وعلى رأسها الربا، وبيع العينة، والتساهل في اغتصاب حقوق الناس، والتحايل عليهم، وغشهم، واعتبار ذلك شطارة في التجارة، الوقوع فيما حرم الله -تعالى- من النجش، ومن الغش، ومن الرشا، فهذه المعاملات كلها تمحق البركة، التطفيف في المكيال والميزان، فما كان له يستوفيه وما كان لغيره فانه ينقصه ويبخسه، (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين:3]، فهذا سبب من أسباب محق الأرزاق؛ فإنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- حذر من ذلك فقال -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ"، إلا أخذوا بالسنين، أي: بالمجاعات وبقلة الأرزاق، وجور السلطان، أي: ظلم السلطان؛ لما يقع بينهم من البغي والعدوان في المكيال والميزان، رغم ما يكون في البلد من الخيرات، فإن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول في الحديث الصحيح: "لَيْسَ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنَّ السَّنَةَ أَنْ تُمْطَرُوا، ثُمَّ تُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا"، وإنما السنة، أي: القحط، بأن تمطروا وتمطروا ولا تنبت الأرض، أن يمطر الناس سنين، أن يكون المطر وفيراً، ولكنهم لا يجدون النبات، ولا يحسن لهم زرع، ولا يستخلصون ثمرة، إما أن يرسل الله آفة على الزرع فلا يجدون ثمرتها، أو أن الأرض يحصل فيها ما يحصل من المصائب فيحرمون النبت والسماء تمطر، هذا نوع من أنواع البلاء، أنّ الله يرسل الغيث فلا يجد الناس نتاج هذا الغيث من خيرات الأرض.
ومن أسباب الغلاء، عدم إخراج الزكاة بأن يتحايل بعض التجار وبعض ذوي اليسار ممن منّ الله عليهم بالغنى، والغني ليس ملايين مملينة، وليس في أرصدة كثيرة، وليس في امتلاك عقارات وبيوت ومركبات وشركات، وإنما حددت الشريعة ذلك ببلوغ النصاب في المال المعين، فأيما مال بلغ نصاباّ وحال عليه الحول، وفي بعضه لا يشترط حولان الحول، كما في الخارج من الأرض مما يقتات ويدخر فانه ليس شرطاً فيه أن يحول عليه الحول، وإنما أمرنا الله بأن نخرج زكاته إذا كان في اليد بعد حصاده: (وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام:141]، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا"، فهذه عقوبة يرسلها الله على القرية أو على مجتمع إذا ولغوا في معصية ترك الزكاة، إذا ترك الناس الزكاة بأي حجة من الحجج.
والأموال التي أمر الله بزكاتها كثيرة عددّها الله -تعالى- في القرآن والسنة، والأصناف الذين يجب أن نغنيهم وأن نبعث إليهم بهذه الزكاة، وهي حق من حقوقهم، أيضاً نص عليهم القرآن نصا، فلم يدع مجالاً للاجتهاد: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة:60]، هكذا بين الله -تعالى- وفصل.
إذا كانت تلك بعض الأسباب -إخوة الإيمان-، فأين هي الحلول؟ أين هي الحلول التي يجب أن يتفطن إليها الناس؟.
إخوة الإيمان: إذا عرف الناس السبب بطل العجب كما يقال، والطريق إلى الحل هو رفع الأسباب التي توجب هذا البلاء بمعالجتها معالجة جذرية وليس بمعالجتها معالجة وقتية، لا تعالج معالجة وقتية آنية.
وهنا يأتي دور الدولة ودور الحكومة ودور القائمين على رعاية شؤون الناس، نعم الدولة، الدولة لها مهمتها وعليها مسؤوليات، إننا في النظام الاقتصادي في الإسلام لسنا شرقيين ولا غربيين، لسنا شيوعيين ولا رأسماليين، وإنما هو اقتصاد قائم على مبادئ واضحة.
من جملة هذه المبادئ أنّ المال يترك للناس عرضا وطلبا، وأن الدولة -وإن كانت لا تتدخل في أرزاق الناس بنوع يعود عليهم بالضرر- فالدولة أيضاً في الإسلام يجب أن تقوم بخدمات أساسية؛ لماذا؟ لأنها تمتلك ثروات وأموالاً لا يجوز أن يمتلكها أحد من الأفراد، وإنما تمتلكها الدولة، فالأموال المشاعة مما لا يجوز للأفراد أن يمتلكوه، كجبال الملح فيما ما مضى مما يذكره العلماء في السابق، أو مما يكون من حطب من الغابات أو من الثروات المعدنية الأساسية كالنفط مثلا، فهذه ثروات تملكها الدولة وتوزعها على الناس وتقسمها بينهم بالسوية وبالعدل، الدولة عليها وهي تتحصل على هذه الأموال وتجني الزكاة أن تقوم بما يجب عليها من الخدمات: خدمات الصحة، والتعليم، الخدمات التي في مقابلها تأخذ الدولة أموالاً، فيجب أن تقوم الدولة بهذه الخدمات.
يجب أن تتدخل الدولة بسياسات واضحة وبقوانين رادعة من أجل أن لا يظلم الناس بعضهم بعضا، جميل أن يجتمع مجلس الوزراء وأن يقر حزمة من الخطط والمعالجات، ولكن لا ينبغي أن تكون أمانيّ أو مجرد توجيهات، وجه المجلس بكذا وأرشد المجلس إلى كذا ووضع المجلس كذا، بل ينبغي أن تكون قوانين، نريد أن نسمع عوضاً عن التوجيه وعن التطلع وعن البرامج الفضفاضة نريد أن نسمع مراسيم وقوانين: خرج المرسوم الفلاني من الوالي بإيقاف الرسوم والجبايات في كذا وكذا وكذا وكذا تحديداً، هكذا، وضع قانون حماية المستهلك الذي يحمي المستهلك من جشع المحتكرين في كذا وكذا وكذا، وهذه القوانين هي كذا وكذا.
وهكذا، للدولة أن تتدخل حتى في مسألة ضبط الأسعار، إذا غلا السعر وفشا الجشع والاحتكار ولم يكن هناك من بد إلا لتدخل الدولة للتسعير وضبط الأسعار ووضع القوائم للسلع، ولْيكن ذلك أمراً وقتيا ليس على الدوام، وإنما إلى أن تزول هذه المشكلة، مشكلة تفاقم الأسعار؛ ليعود الناس إلى الأصل، إلى عدم التسعير، وإلى توقف الأمر على العرض والطلب، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحجم عن أن يسعر في المدينة، لأنه لم يكن هنالك من جشع، ولم يكن هنالك من احتكار بين الصحابة وقطان المدينة، فلم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- بحاجة إلى أن يتدخل بسلطان الدولة لتسعير السلع، وإنما كان ذلك خارجاً عن إرادتهم، من هنا يأتي حديثه في هذا السياق لما قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ , سَعِّرْ لَنَا, فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ"، فأحجم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التسعير لهذا السبب، أما إذا فشا الجشع بين الناس وكان لا بد من تدخل الدولة أحيانا، خاصة في السلع الأساسية التي يقوم عليها حياة الناس وأقوات الناس، فلا بد للدولة أن تتدخل، هاهنا جميل جدا هذا التوجيه الذي سمعناه من الولاية في أن تتدخل الحكومة بضبط أسعار اللحوم بالإتيان بالأنعام من مصادر الإنتاج، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك أيضاً نوعاً من أنواع المحاباة بأن يعطى بعض التجار دون بعض، فإما أن تقوم الدولة وحدها بذلك وإما أن يكون ذلك مشاعاً لعموم الناس لكي يقوم التجار عموماً بهذه المسألة وتساعدهم الدولة في ذلك، لا بأس أن توجد الدولة بنكاً للحوم أو مخزناً للحوم وتساهم البنوك في ذلك، وأيضاً يكون ذلك بما أمر الله -تعالى- من القسمة بالسوية.
إنّ من الحلول الإستراتيجية أن تعود الدولة في نظامها الاقتصادي إلى الشريعة شكلاً ومضموناً، إلى الشريعة في ظاهرها وروحها، أن تعود الدولة لتحكم الشريعة في الاقتصاد، أن يكون الاقتصاد الإسلامي محكما يعيشه الناس، والناس إذا عاشوا النظام الاقتصادي بحق أرسل الله عليهم البركات وأفاء الله -تعالى- عليهم بالنعمة والخيرات، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف:97].
ولكن، إذا أخذ الناس شيئا من الاقتصاد الإسلامي فحرموا الربا في مراسيم أو في قوانين، وألزموا بمنشور أو منشورين بعض المصارف بأن تتعامل بكذا وكذا وكذا، ثم لا تجد تطبيق شريعة الله -تعالى- في الاقتصاد في مجالات أخرى، لا تجد ذلك في أمر الجبايات، لا يمكن لحكومة أن تجمع على الناس الأمرّين والأمرين: أمر الزكاة من جهة، وجبايات لا حدود لها من جهة أخرى! ألم يقل النبي -عليه الصلاة والسلام- : "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ صَاحِبُ مَكْسٍ"؟ بأي حق تتدخل الدولة لكي تجمرك على المواطن العادي أو على كل أحد ما يأتي به من سلعة أو سلع؟ بأي حق هذا التدخل؟.
المدينة النبوية والناس يعانون ما يعانون، ويربط النبي حجرين -صلى الله عليه وسلم- ويربط الناس حجراً حجرا، ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقر العشور ولا يقر المكوس ولا يفرض على تجار المدينة كلما دخلوا أو جلبوا أن يعطوا شيئاً مما يأتون به، لم يكن ذلك، وهذا سبب رئيس للندرة التي تقع، للشح الذي يقع في السلع، فمن أسباب الوفرة بالنسبة للسلع وعدم ندرتها عدم إقامة المكوس عليها والجبايات، الجبايات التي تكون حتى على مدخلات الإنتاج الأساسية في الزراعة أو الصناعة مما يرهق كاهل الناس. كيف سينتج الناس؟ كيف تشجعهم على الإنتاج إذا كنت تفرض عليهم كل هذه الرسوم؟.
الحكومة الاتحادية تفرض من جهة في المعابر والمداخل، في الميناء والمطار، ثم تأتي الولاية لتفرض رسوماً هي الأخرى، ثم عندما تعبر هذه السلع من ولاية إلى أختها فإنه يفرض عليها كذلك جمارك أو يفرض عليها جبايات! أين هذا في شريعة الله -سبحانه وتعالى-؟ وكيف يبارك الله -عز وجل- في المال العام إذا كان يقوم على مثل هذا؟!.
جزء أساس حين تتدخل الدولة للجباية أن تكون هذه الجباية بحق، ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن وأمره بجباية الزكاة، قال: "فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاس"، وإياك وكرائم أموال الناس! أي: لا تتعدّ الحدود الشرعية في الأخذ من الناس، "وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ".
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحذره، وهو الوالي، من أن يتجاوز حده في الجباية، وأن يلتزم الحدود الشرعية، فللدولة أن تتدخل بمثل هذا من أجل الإصلاح.
أسأل الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- أن يرفع عنا الغمة، وأن يزيل عنا هذا البلاء. اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء والبلاء وسائر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
أقول هذا القول وأستغفر الله، فيا فوز المستغفرين!.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. والصلاة والسلام على البشير النذير المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
إخوة الإيمان: لقد كتب فقهاؤنا في هذا العصر وعلماؤنا الجهابذة ممن علا كعبهم في العلم والفقه في هذا الباب العظيم، وهو باب الأموال والاقتصاد، كتبوا كتباً عظيمة في إدارة الاقتصاد وفي توزيع الأموال، ولا غروَ في ذلك ولا عجب، فالقرآن أشار كيف أن النبي الكريم يوسف -عليه السلام- حل مشكلة الاقتصاد في مصر، يحدثنا القرآن عن أن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف -عليه السلام- فيما رأى من رؤيا، فيما عبر من رؤيا الملك كيف أنه عمد إلى قواعد أعملها فبارك الله -تعالى- في سياسته، كما قال في تعبيره للملك، فقد زاد على مجرد التعبير بوضع الحلول: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف:47-49].
ففطن الملك الحاذق إلى حسن تدبير هذا الفتى، وأنه يصلح أن يكون عزيز مصر، ويصلح أن يدير أموال مصر، وهو الذي (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55]، بعد أن قال له الملك: (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ) [يوسف:54]، فطبق سياسته، فماذا فعل؟ بدأ بوفرة الإنتاج، بدأ بالإنتاج، وكل بلد ينتج ما يحسن أن ينتجه، هكذا كل بلد ينظر إلى الإمكانات المتوفرة، إن كان بلداً زراعياً أعمل كل ما يمكنه في الزراعة ليكون منتجاً زراعياً، وإن كان بلداً صناعياً له قدرة على صناعات معينة أعمل ذلك، هكذا.
حين ذهبت في نهاية التسعينات في رحلة في مؤتمر إلى النرويج في مؤتمر في أوسلو، وكانت النرويج في بداية طفرتها النفطية، حدثني بعض من هنالك بأنهم أعملوا الثروة النفطية في الإنتاج الزراعي، يعني جعلوا الهم الأكبر لتلك الثروة ليس تبديدها وتوزيعها من غير رؤية ولا خطة ولا إستراتيجية، قالوا: لا، نحن نوظف هذه الأموال -عائد هذا النفط- في الاستثمار، أول ذلك في الزراعة، وأما عائدات النفط فهي للأجيال القادمة، للأجيال التي ستأتي من بعدنا، أما في البلاد العربية يأكلون إنتاجهم وإنتاج من يأتي بعدهم! هكذا يصدرون النفط بلا مقدار، بلا حساب، بلا رؤية، هم لا هم يعدون العدة للمستقبل، فهذه الثروة يأتي عليها زمن فتنضب فتقل أو تنعدم، فيضعون خططاً من أجل توظيف هذه الثروة فيما يعود على البلد.
فيوسف -عليه السلام- ماذا فعل؟! طبق السياسة، تزرعون سبع سنين دأبا، يجب أن تضاعفوا الإنتاج، لأن السنين ستأتي عجافا، ضاعفوا الإنتاج في السبع سنوات التي فيها الغيث، فكانت الأرض تنتج نتاجين في السنة، وبدلاً من إنتاج محصول واحد محصولين، وهكذا أصبحت هناك وفرة، ماذا فعل؟ هل بدد ما أنتج؟ خزن ذلك إلا قليلا مما تأكلون، هذا هو الاقتصاد حقيقة، الاقتصاد هو القصد فيما تملك: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان67]، (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء:29]. إلا قليلا مما تأكلون، فجاءت السبع العجاف، ودبت المجاعات حول مصر في البلدان، وبدأ النزوح السكاني، بدأ نزوح الناس من الشأم ومن جزيرة العرب ومن شمال إفريقيا، إلى أين يذهبون؟ إلى حدود مصر، حيث الوفرة، حيث استطاع يوسف -عليه السلام- بما أوحى الله إليه من سياسة رشيدة أن يوفر كثيراً من الطعام في المخازن، هذه القاعدة الأولى التي أعملها يوسف.
القاعدة الثانية: حسن التخزين؛ لذلك (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ)، فلا بد مع الإنتاج في التفكير: أين نضع هذه الثروة؟ هذا العائد أيصلح أن نسير بهذا العائد إلى بنوك أوربا وأمريكا ونضعها هنالك في بنوك أعدائنا والكافرين ليأتوا في يوم من الأيام حين يغضبون ليصادروا تلك الثروة وليتحكموا في رقابنا؟ أين نضع هذه الأموال؟ أين نضع هذا العائد؟ يجب أن يكون هنالك تفكير سليم، إعمال هذا العقل في كيفية تخزين هذه الثروة، ثم تقسيم ذلك بالسوية والعدل.
حين جاء إخوة يوسف إلى يوسف، جاؤوا إليه ليأخذوا نصيبهم من الطعام ولم يكونوا من سكان مصر، كانوا من العبرانيين في سوريا من سكان الشأم، إخوة يوسف جاؤوا إليه ليأخذوا نصيبهم ونصيب من تركوهم من أهليهم، قال لهم يوسف: لا، أخوكم هذا يجب أن يأتي بنفسه ليأخذ نصيبه، فلا مجاملة لأحد ولا مجاملات في إعطاء الأقارب، المسؤول الفلاني الحصة التي عنده أول ما يعطيها لقبيلته أو لأسرته أو لعشيرته، ويعطي هذا أضعافا ويقتر على الآخر، لا، (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [يوسف:59]، عادل، يعدل في القسمة، في قسمة هذه الثروة، هكذا أدار النبي الكريم يوسف -عليه السلام- أمر مصر في الاقتصاد.
والاقتصاد الحديث اليوم مداره على هذه الأمور الثلاثة: على ضرورة الإنتاج، وعلى ضرورة التوزيع العادل للثروة، وعلى حسن الإدارة والتخزين، وغير ذلك.
فإذن، يجب على الدولة أن تعود إلى الاقتصاد الإسلامي، إلى ما وضعه العلماء في هذا الباب، وإعمال ذلك، واستشارة أهل الخبرة في هذا.
إخوة الإيمان: إنه يمكن للناس فعلا أحيانا أن يحجموا عن بعض السلع إذا وقع فيها ما يقع من الجشع، يمكن أن تكون هذه سياسة من السياسات وطريقاً لحل بعض الأزمات، كما فعلت جمعية حماية المستهلك في دعوة الناس لترك شراء اللحوم، يعني لإجبار التجار والمنتجين على عدم رفع الأسعار، يمكن أن يقع ذلك، كما وقع ذلك من بعض خلفاء المسلمين، كما حصل أن جاء الناس بعضهم -في الأثر- إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، جاؤوا إليه وقالوا: نشتكي إليك غلاء اللحم، فسعره لنا؟ فقال عمر-رضي الله عنه-: "أرخصوه أنتم، أرخصوه أنتم"، فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين! يعني: نحن كيف سنرخصه وإنما اللحم عندهم وأنت الوالي! أنت الحاكم! فقال عمر-رضي الله عنه- قولته الرائعة: "اتركوه لهم".
بل إن عليا -رضي الله تعالى عنه- يطرح بين أيدينا أيضاً نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي: إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى، فعن رزين بن الأعرج -مولى لآل عباس- قال: غلا علينا الزبيب بمكة، فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر، أي: استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوفراً في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقل الطلب على الزبيب فيرخص حين ذاك، عندما تستبدل السلعة بسلعة أخرى فهذا قد يكون حلاً من الحلول، ولكن ليست في سلعة هي بالنسبة للبلد متوفرة، يعني السودان بلد اللحوم، فهل يكون الحل لإرخاص سعر اللحوم فيه هو مواصلة الامتناع عن الشراء؟ هذا ليس حلا، قد يكون حلا مؤقتا، يعني لزمن معين، لكن هذا ليس حلاً، فغلاء هذه السلعة مع تصدير البلد لها إلى الخارج يعنى ذلك أن هنالك خللا ينبغي تداركه، هنالك جانب من الجوانب يجب أن ننتبه إليه في إرخاص هذه السلعة أو غيرها.
وفوق ذلك، أو مع ذلك إخوة الإيمان، التوبة إلى الله -سبحانه وتعالى- الذي يرزقنا ويكلؤنا بالليل والنهار: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:56-58]، وقال -تعالى-: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح:10-12].
فالاستغفار، والتوبة، ورد المظالم، وإعطاء كل ذي حق حقه، هذا هو الذي به يرفع الله -تعالى- الغم، ويكشف الله -تعالى- به الهم.
أسأل الله -تعالى- أن يرزقنا رزقاً حسناً، وأن يكشف عنا الغم والهم. اللهم إنا نعوذ بك من الغلاء، اللهم إنا نعوذ بك من الوبأ والغلاء. اللهم كما صرفت عنا شرورا كثيرة وبلايا عديدة اللهم فاصرف عنا هذا البلاء.
اللهم أرسل علينا السماء مدرارا، اللهم أنبت الأرض نباتا، اللهم أخرج بركات الأرض، اللهم أعنا على شكرك وذكرك يا ارحم الراحمين.
اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم...