القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | صلاح بن محمد البدير |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
إن مما يناقض الأمانة والصدق في تبليغ الشريعة ما يفعله بعض من رغبوا في الأغراض الدنيوية العاجلة، والأعراض الدنية الزائلة من الإفتاء بالتساهل والتلفيق، والأخذ بالرخص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبُّع الأقوال الشاذة التي لا يخفى على من له أدنى بصيرة مفاسدها الكبيرة، وموبقاتها الغزيرة على الإسلام والمسلمين، والتي لا يقول بها إلا من فزع قلبُه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِر بحب الدنيا والتقرب إلى الخلق دون الخالق. يقول بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكتسب، وطاعته أعلى نسب، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
لقد أنعم الله علينا بشريعة كاملة، ظلٍ ظليل من استظلَّ به أمن من الحرور، وحصن حصين من دخله نجا من الشرور، شريعة مؤتلفة النظام، متعادلة الأقسام، مبرأة من كل نقص، مطهرة من كل دنس، متممة لا شية فيها، مؤسَّسة على العدل والحكمة، والمصلحة والرحمة، إذا حرّمت فسادًا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره، وإذا رعت صلاحًا رعت ما هو فوقه أو شبيهه، لا أمت فيها ولا عوج، ولا ضيق فيها ولا حرج، لم تأمر بشيء فيقول العقل: لو نهت عنه لكان أوفق، ولم تنه عن شيء فيقول الحجي: لو أباحته لكان أرفق، أوامرها غذاء ودواء، ونواهيها حمية وصيانة ووجاء، من رام إدراك الهدى من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير، وهو في سعيه أعمى غير بصير.
أيها المسلمون:
إن البشرية بغير شريعة الإسلام بشرية منكودة معذبة، تتخبط وتتلبط في حياة عفنة، وعيشة نتنة، تهدر فيها أثمن ما تملك، وتعبث فيها بأعز ما تمسك، (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحج: 18].
إن الحياة التي تكرم الإنسان إنما هي الحياة في ظل شريعة الإسلام، ولا عزَّ ولا شرف إلا بالتمسك بها، والعمل بتعاليمها، والوقوف عند حدودها ومراسيمها.
أيها المسلمون:
إن لهذه الشريعة الغراء أعداء ألِدَّاء، لا يألون إقدامًا، ولا ينكسون إحجامًا، ولا يعرفون انهزامًا في محاربتها ومحاولة وأدها في مهدها، بزعزعة ثوابتها وخلخلة قواعدها، والتشكيك في مسلّماتها، عقدٌ لألوية البدعة، وإطلاق لِعنان الفتنة، ومضادَّة للشريعة، بطرق الخداع والمكر والتأوّل، والدجل والكذب والتحيُّل، ولبس الحق بالباطل بأقوال مزخرفة وألفاظ خادعة، تبريرًا للانحراف، وتقريرًا للتهاوي والانجراف.
يتولى كبرَ هذا الجرم العظيم منافقون معاندون، يظهرون ما لا يبطنون، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، سلكوا إذ لم يقدروا على المجاهرة برفض الشريعة وردها طرقًا ماكرة، ووسائل مضلِّلة فاجرة، تقلبُ الحقائق، ليظهر الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وللباطل أنصار وألفاف، وللفساد أعوان وأحلاف، وللشر نُظَّار وأُلاّف، ولربّما عمدوا في ذلك إلى بعض من يروج عليهم زعل المسائل، كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم.
يأتونهم بمسائل ونوازل ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكرٌ وخداع وتضليل، فينظر الغِرُّ في ظاهرها، فيقضي بجوازها، وذو البصيرة ينقد مقاصدها وباطنها، فيقضي بحرمتها وشناعة إبرازها، يقول الإمام أحمد: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء، عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها، أتوا إلى الذي قيل لهم: إنه حرام، فاحتالوا فيه حتى حلّلوه، ما أخبثهم، يحتالون لنقض سنن رسول الله " (انظر: الفتاوى الكبرى (3/253)، وإغاثة اللهفان: 1/355).
ويقول زياد بن حدير: قال لي عمر –رضي الله عنه-: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟! قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة عالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المضلين" أخرجه الدارمي.
فاحذروا -عباد الله- سلوك هذا السبيل، أو السير في ركاب هذا الشر الوبيل، فقد قال رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- : "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (أخرجه ابن بطة في إبطال الحيل (ص 24) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه ابن تيمية كما في المجموع (3/287).
يقول بعض السلف: "ثلاث من كنَّ فيه كنَّ عليه: المكر والبغي والنكث، قال جل في علاه: (وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]".
أيها المسلمون:
إن الدفاع عن هذه الشريعة، وردِّ حيل المحتالين وشبه المفترين، وتعريةَ طرق المفسدين، والقيام بواجب الإعذار والإنذار، والحسبة والإنكار، والتبليغ والبيان، والإيضاح وعدم الكتمان واجبٌ معظَّم وفرض محتَّم على جميع المسلمين، كلٌّ على حسب علمه وطاقته واستطاعته، ويتأكّد ذلك في حق العلماء والفقهاء، وأهل الحل والعقد والقضاء والإفتاء، القادة الأعلام، زوامل الإسلام، وأئمة الأنام، العارفين بالحلال والحرام، المخصوصين باستنباط الأحكام، الذين بنورهم يهتدي المهتدون، وعلى منهاجهم يسلك الموفَّقون.
أمة الإسلام:
إنها تَبِعَة ثقيلة، ومَهَمَّة خطيرة جليلة، لا بدّ من القيام بها، لتُحْفظ معاقد الدين ومعاقله، وتُحمى من التغيير والتكدير موارده ومناهلُه، وفي الحديث الذي رواه ابن عبد البر يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- : "يحمل هذا الدين من كلّ خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (أخرجه ابن حبان في الثقات (4/10)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة (1/53).
إنه العهد والميثاق الذي أخذه على العلماء الملك الخلاق في قوله -جل في علاه-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران: 187]، قال قتادة -رحمه الله تعالى-: "هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم شيئًا فليعلِّمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هَلَكة (أخرجه الطبري في تفسيره (4/203).
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "حُكْم الله ورسوله يظهر على أربعة ألسنة: لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد، والواجب على هؤلاء الأربعة أن يخبروا بالصدق المستند إلى العلم، وآفة أحدهم الكذب والكتمان، فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حادَّ الله في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يمحق بركة علمه ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، ومن التزم الصدق والبيان بورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه، بالكتمان يُعْزل الحق عن سلطانه، وبالكذب يُقلب عن وجهه، والجزاء من جنس العمل، فجزاء أحدهم أن يعزله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم، الذي يُلبسُه أهلَ الصدق والبيان، ويُلبسَه ثوب الهوان والمقت والخزي بين عباده، فإذا كان يومُ القيامة جازى الله سبحانه من يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه وردّها على أدبارها كما طمسوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه، جزاءً وفاقًا، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46]" انتهى كلامه رحمه الله بشيء من التصرف (إعلام الموقعين: 4/174 - 175).
أيها المسلمون:
إن كتمان العلم والحق مع حصول التحقق النفسي واليقين العلمي وصف مذموم، وفعل موخوم، ذكره الله في كتابه المبين من علامات المغضوب عليهم والضالين، قال الله تعالى: (يا أَهْلَ الْكِتَـابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [آل عمران: 71]، وقال سبحانه: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَـاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 12]، وقال جل في علاه: (الَّذِينَ آتَيْنَـاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 146].
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تعليقه على قوله -جل وعلا-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَـاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران: 187]،
قال رحمه الله: "كتموا ذلك، أي رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وصفته، وتعوّضوا عما وُعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذيرٌ للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، ويُسلَك بهم مسلَكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما في أيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا" انتهى كلامه -رحمه الله تعالى- (تفسير ابن كثير (1/437).
أيها المسلمون:
إن كتمان العلم والحق من أسباب العذاب المهين، واستحقاق اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول جل في علاه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَـاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّـاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 159، 160]، قال الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى-: "أخبر الله –تعالى- أن الذي يكتم ما أُنزل من البيان والهدى أنه ملعون" تفسير القرطبي (2/184).
يقول أبو هريرة -رضي الله عنه-: "لولا آيتان من كتاب الله تعالى ما حدثتكم حديثًا" وقرأ الآيتين السابقتين (أخرجه البخاري في المزارعة (2350)، ومسلم في فضائل الصحابة (2492).
ويقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "من سئل عن علم يعلمه فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار" (أخرجه أحمد وأبو داود)، قال بعض أهل العلم: "فكما ألجَم لسانَه عن قول الحق وإظهار العلم يُعاقب في الآخرة بلجام من نار" (انظر: معالم السنن للخطابي (5/251).
أيها المسلمون:
لقد مدح الله في كتابه الذين يبلغون رسالاته بكلّ أمانة وصيانة، لا تمنعهم لومة اللائمين، قال -جل وعلا-: (الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالـاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) [الأحزاب: 39]، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبته: "ألا، لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه" (رواه الترمذي وأحمد)، وزاد: "فإنه لا يقرّب من أجل، ولا يباعد من رزق أن يُقال بحقّ أو يُذكّر بعظيم" (مسند أحمد (3/50)، وصحح إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (1/274).
وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحقر أحدكم نفسه"، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله: فإياي كنت أحق أن تخشى" (رواه ابن ماجه).
فاتقوا الله عباد الله، وبلغوا رسالة الله، بالضوابط الشرعية المرعية، لتحققوا المصالح والمرابح، وتدفعوا المفاسد والقبائح.
أيها المسلمون:
إن السلامة والأمان، والنفع والإحسان إنما هو في التبليغ وعدم الكتمان، قال الله جل في علاه لنبيه ومصطفاه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَـالَـتِهِ) [الجن: 21 ـ 23]، وقال -جل وعلا-: (يَـا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَـافِرِينَ) [المائدة: 67]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "في هذا تأديب للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتأديب لحَمَلة العلم من أمته أن لا يكتموا شيئًا من أمر شريعته" (انظر: تفسير القرطبي (6/ 242).
أيها المسلمون:
لقد قضى عليه الصلاة والسلام ما عليه، وبلَّغ ما عُهد إليه، فعن مسروق عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "من حدثك أن محمدًا كتم شيئًا من الوحي فقد كذب" (أخرجه مسلم).
ويقول العباس -رضي الله عنهما-: "والله ما مات رسول الله حتى ترك السبيل نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلال، وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم" (أخرجه الدارمي في مقدمة سننه: 83).
وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: "توفي رسول الله وما طائر يحرّك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علمًا" (أخرجه أحمد (5/153، 162).
وقال عليه الصلاة والسلام في خطبته للناس في قصة الكسوف: "إنما أنا بشر رسول، فأذكركم بالله، إن كنتم تعلمون أني قصَّرت في تبليغ شيء من رسالات ربي" أي: فقولوا، فقالوا: "نشهد أنك بلغت رسالات ربك، وقضيت الذي عليك" (صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم).
وقال -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه: "تركتكم على بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" (أخرجه أحمد).
فيا أنصار الحق والهدى، يا أهل العلم والتقى، من الرجال والنساء، يا أتباع سيد الورى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، يا دعاة الخير والسداد، يا جنود الدعوة والإرشاد، قوموا بما أوجب الله عليكم، وبلِّغوا رسالة ربكم إليكم، أنبئوا الناس عذاب الله ووقائعه بالأمم، وذكروهم بشدة نقمته إذا انتقم، وتذكروا قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حُمر النعم" (أخرجه البخاري في الجهاد (3009).
علموا جاهلَهم، وعِظوا غافلهم، وانصحوا معرضهم، وجادلوا مبطلهم، ولتكن الدعوة همكم، وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفتكم، ونشر التوحيد الخالص ديدنكم ونهمتَكم، ولا تكونوا شتى وأمر العدو مجتمع، ولا تركنوا إلى الراحة حتى يندحر الباطل ويندفع، ولا تخلُدوا إلى الدعة والمتاع القليل فإن الأمر عظيم وجليل وثقيل، وبينوا ولا تكتموا، وابذلوا جُهدكم، وانفِدوا وُجدكم، دون دهركم وإلى مماتكم، فقد بلّغ الرسول حتى بلغت روحه الحلقوم، وقام بواجب الدعوة والبيان حتى أصبح لا يفيض بالحديث اللسان.
ففي سنن ابن ماجه عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: "الصلاةَ وما ملكت أيمانكم"، "فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه" (أخرجه أحمد (6/ 290)، والنسائي في الكبرى (7098).
وعند أحمد: "جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلجلها في صدره وما يفيض بها لسانه" (مسند أحمد (6/290)، أي: يردّدها ويكرِّرها من شدّة الاهتمام بها، ولكنه لا يقدر على الإفصاح بها؛ لشدّة مرضه -صلى الله عليه وسلم-.
فيا دعاة الحق والهدى، تعاونوا وتكاتفوا وتآزروا ولا تقصِّروا، وبشروا ولا تنفِّروا، ويسروا ولا تعسروا، وأمِّلوا وأبشروا، واستمعوا لقول المولى -جل وعلا-: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَـادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 125 - 128].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، (يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـادِقِينَ) [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
إن مما يناقض الأمانة والصدق في تبليغ الشريعة ما يفعله بعض من رغبوا في الأغراض الدنيوية العاجلة، والأعراض الدنية الزائلة من الإفتاء بالتساهل والتلفيق، والأخذ بالرخص المخالفة للدليل الصحيح، وتتبُّع الأقوال الشاذة التي لا يخفى على من له أدنى بصيرة مفاسدها الكبيرة، وموبقاتها الغزيرة على الإسلام والمسلمين، والتي لا يقول بها إلا من فزع قلبُه من تعظيم الله وإجلاله وتقواه، وعُمِر بحب الدنيا والتقرب إلى الخلق دون الخالق.
يقول بعض السلف: "أشقى الناس من باع آخرته بدنياه، وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره".
ألا فليتذكر هؤلاء يومًا تكِعُّ (أي: تضعف وتجبن) فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، ويحصِّل يومئذ ما في الصدور، كما يُبعَثر ما في القبور، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
أيها المسلمون:
تحمل الغيرة على دين الله، والرغبة في التبليغ والبيان، بعض ممن قصَر في باب العلم باعُهم، وقل فيه نظرهم، واطلاعُهم على الخوض في نوازل عامة، وقضايا حاسمة وهامة، بلا علم ولا روية، فيخبطون خبط عشواء، ويأتون بما يضاد الشريعة الغراء، ويقولون باسم الإسلام ما الإسلام منه براء.
وإن من البلاء تصدّر أقوام للإفتاء، أحدهم بيّن أهل العلم منكر أو غريب، ما له في مقام الفتوى حظ ولا نصيب، غرّهم سؤال من لا علم عنده لهم، ومسارُعة أجهل منهم إليهم.
ألا فليتق الله هؤلاء وهؤلاء، وليراعوا حرمة هذه الشريعة العظيمة، يقول الإمام أحمد: "لا يجوز الإفتاء إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة"( إعلام الموقعين (1/45).
ويقول بعض السلف: "إن أحدكم ليفتي في مسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر" (أخرجه البيهقي في المدخل عن أبي الحصين الأسدي (ص 434).
ويقول سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علمًا، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه" (إعلام الموقعين (1/34).
ويقول الإمام مالك: "أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فوجده يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ فقال: "لا، ولكن استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم" (التمهيد (3/5)، وإعلام الموقعين (4/207).
فاتقوا الله عباد الله: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلَـالٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [النحل: 116].
أيها المسلمون:
اتقوا الله في دينكم، واستمعوا لقول نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-: "إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيها، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإن فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب" (متفق عليه).
اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا، اللهم أصلح قلوبنا يا أرحم الراحمين.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وثلَّث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد...