العربية
المؤلف | أسامة بن عبدالله خياط |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - المعاملات |
وإنه لَمَسْلك -يا عباد الله- ما أعظمه وما أعظم آثاره! وما أحسن العقبى فيه! وما أجمل أن يُتخذ طريقاً للإحسان إلى الناس بكل صور الإحسان والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم؛ لاسيما من إنظار المعسر إلى ميسرة، أو بوضع الحق عنه؛ فذلك شأن الموفقين الذين يبتغون الوسيلة إلى ربهم؛ بحسن الامتثال، وكمال الإنابة، وداوم المجاهدة؛ ليبلغوا الغاية من رضوان الله، ويحظوا بنعيم الجنة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: وتزودوا بخير الزاد ليوم المعاد.
أيها المسلمون: لقد منَّ الله على المسلمين، لقد من الله على الموفقين من عباده إلى مرضاته بهذه النفس اللوامة التي أقسم بها سبحانه في قوله: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) [القيامة:1-2]
وهي التي تلوم صاحبها على الخير؛ حيث لم يستثمره، وعلى الشر حين يتردى فيه، وتحثه على الإقلاع عنه والنفرة منه.
وصاحب هذه النفس مرهف الحس، يقظ الضمير، حي القلب، هو من نفسه في راحة؛ إذ يجنبها موارد الهلكة، والناس منه في عافية؛ إذ يسلمون من بوائقه وغوائله.
وعلى العكس من ذلك، صاحب القلب المتحجر والحس الغليظ؛ فإنه لو أقدم على كل موبقة، واجترح كل خطيئة، واقترف كل إثم - ما طرفت له عين، ولا تحرك له فؤاد، ولا أحس بندم؛ ولذا كان مثله وبالاً على نفسه وخطرًا على غيره.
أما وباله على نفسه: فمن حيث أنه يمضي حياته ويبدد أيامه غافلاً عن ربه، متبعاً هواه، معرضاً عما سواه.
وأما خطره على غيره: فمن حيث أنه يعيش لنفسه؛ فيحجب خيره ويمنع رفده؛ لاسيما حين يكون من أهل الجدة وأصحاب الثورة وذوي اليسار؛ فتطغيه الثروة، ويبطره الغنى، وتُنزَع الرحمة من قلبه، ويصم أذنيه ويغمض عينيه عن كل ما جاء من تشريع يضمن التكافل والتضامن بين أبناء المجتمع المسلم، ويبلغ بالتراحم والتعاطف بينهم مبلغاً عظيماً كان طابعًا بارزاً، وعلامةً فارقة بين هذا المجتمع وبين غيره من المجتمعات؛ فقد وصف -سبحانه- المؤمنين بأنهم أشداء على الكفار، رحماء بينهم، وجاء في الحديث -الذي أخرجه أبو داود بسننه والترمذي في جامعه بإسناد صحيح-: عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الرَّاحمونَ يرحمهُم الرَّحمن، ارحموا مَنْ في الأرضِ يرْحَمْكُم مَنْ في السَّماء"، وفي الحديث أيضاً -عند الشيخين في صحيحيهما-: عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- أنه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لا يرْحَم النَّاسَ لا يرْحَمهُ الله".
فإذا ذكر بهذه المعاني؛ أعرض عنها ونأى بجانبه، زاعماً أن من حقه التصرف في ماله كيف شاء، ولا سلطان لأحد عليه؛ لأنه جمعه بجهده وقدرته وخبرته؛ فكان شأنه في ذلك شأن قارون الذي جعله الله - تعالى- مثلاً لأهل الجدة واليسار الذين تحجرت قلوبهم، وانطمست بصائرهم، وغُلَّت أيديهم إلى أعناقهم؛ فقص الله خبره؛ ليكون عبرة الأبد، وعظة الأيام لكل عاقل؛ فقال -عز من قائل-: (إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص:76] أي إن مفاتح الكنوز لَيَثْقل حمله على الجماعة القوية من الناس، وحين لم يقابل هذه النعمة بما يليق بها من شكر وما تقتضيه من إحسان إلى الناس؛ كان عاقبة هذا الحجود ومصير هذا التنكر: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) [القصص:81].
وكم في الناس من أرباب الثروات من نهج هذا النهج؛ فلم يكن من الشاكرين لربه، المحسنين إلى عباده باصطناع المعروف، والبذل في ميادين الخير؛ فتقلبت به الأيام، وتجهَّم له الزمان، ونزلت به النوازل التي أتت على أمواله، واستنفدت ثروته؛ فغدا من بعد هذا الغنى فقيراً معدماً يتكفف الناس.
وإن في ذلك -ياعباد الله- لعبرة لأولي الألباب، تحمل على الشكر للمنعم، والإحسان إلى الخلق، وإن عبداً أتاه الله مالاً؛ فاتخذ إلى الله سبيلاً بالشكر لربه، والإحسان إلى عباده له البشرى؛ بحسن العقبى والتجاوز عما فرط منه من تقصير؛ فقد جاء في الحديث -الذي أخرجه مسلم في صحيحه- عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أُتِيَ الله بعبدٍ من عبادِهِ أتاه الله مالا فقال له: "ماذا عملت في الدنيا؟ قال: -ولا يكتمون الله حديثا- قال: أيْ ربي آتيتني مالاً فكُنتُ أبايعُ النَّاسَ، وكان من خلْقِي الجوَاز (أي التسامح) كنت أُيسِّر على الموسِر، وأنظِر المُعْسِر، قال الله -تعالى-: "أنا أحقُّ بذلِك منْك، تجاوزوا عن عبدِي؛ فأدْخِلْه الله الجنة".
وفي رواية -للشيخين في صحيحيهما-: "أن رجلاً لم يرَ خيرًا قطْ، إلا أنه كان يُداينُ النَّاس، ويقول لرسوله -أي حين يبعثه للتقاضي-: "خذ ما تيسَّر واترك ما عثر، وتجاوز لعل الله يتجاوزُ عنا، فلما هلك؛ قال الله له: هل عمِلْت خيرًا قطْ؟ قَالَ: لا، إلا أنه كانَ لي غلامٌ، وكنتُ أُدَاينُ النّاسَ؛ فإذَا بعثتُه يتقَاضَي قلت له: "خُذْ مَا تيَّسَّر وَاتْرُك مَا عثُر، وتَجَاوزْ؛ لعلَّ الله يتجاوزُ عنَّا، قال الله: قدْ تجاوزْتُ عنْك".
وإنه لَمَسْلك -يا عباد الله- ما أعظمه وما أعظم آثاره! وما أحسن العقبى فيه! وما أجمل أن يُتخذ طريقاً للإحسان إلى الناس بكل صور الإحسان والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم؛ لاسيما من إنظار المعسر إلى ميسرة، أو بوضع الحق عنه؛ فذلك شأن الموفقين الذين يبتغون الوسيلة إلى ربهم؛ بحسن الامتثال، وكمال الإنابة، وداوم المجاهدة؛ ليبلغوا الغاية من رضوان الله، ويحظوا بنعيم الجنة الذي أخبر عنه رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "فيها -أي في الجنة- ما لا عَينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَرَ" الحديث أخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-.
فاتقوا الله -عباد الله- واذكروا أن من أحسَنَ اليوم إلى عباد الله؛ بتنفيس كرَبِهِم، وتفريج ضوائقِهِم، ورفع الشدائد عن دواخلهم - موعودٌ بإحسان الله إليه يوم القيامة، ذلك الإحسان الذي جاء في الحديث -الذي أخرجه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن-: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من نفَّسَ عن مسلمٍ كربة من كُرَبِ الدُّنيا؛ نفَّس الله عنه كربةً من كرَبِ يوم القيامة، ومَنْ يسَّر على مُعْسِرٍ في الدُّنيا؛ يسَّرَ الله عليهِ في الدُّنيا والآخِرة، ومن سَتَرَ على مسلمٍ في الدنيا؛ ستر الله عليه في الدُّنيا والآخرة، والله في عونِ العبدِ ما كَانَ العبْدُ في عونِ أخِيه".
ولا غرو أن يقرر -سبحانه- إذن جزاء الإحسان بقوله -عز اسمه-: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [ الرحمن:60] نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: أخرج الإمام أحمد -في مسنده والترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أنظَرَ مُعسِرًا أو وضَعَ عنه؛ أظلَّه الله يومَ القيامَةِ تحت ظلِّ عرشِهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظلِّه".
وإن الوقاية من فيح جهنم، والاستظلال بعرش الرحمن؛ مغنم ياله من مغنم، وجزاء طاف، وأجر كريم؛ بحفز أهل الجدة واليسار على إنظار كل معسر، أو الوضع عنه؛ أملاً في الحظوة بهذا الموعود الكريم.
فاتقوا الله -عباد الله-، واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسل الله محمد بن عبد الله؛ فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة -أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي- وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك ياخير من تجاوز وعفا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم واجمع كلمتهم على الحق يارب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وعبادك المؤمنين المجاهدين الصادقين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وهيئ لها البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى ياسميع الدعاء. اللهم وفقه ونائبيه وإخوانه إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين وإلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يامن إليه المرجع يوم التناد.
اللهم احفظ هذه البلاد حائزةً على كل خير سالمةً من كل شر وسائر بلاد المسلمين يارب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا يارب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نسألك أن تكفينا أعداءك وأعداءنا بما شئت يارب العالمين، اللهم إن نسألك أن تكفينا أعداءك وأعداءنا بما شئت يارب العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم إن نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالصالحات أعمالنا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201] وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.