البحث

عبارات مقترحة:

الكريم

كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

تأثير القرآن الكريم على القلوب

العربية

المؤلف صالح بن محمد آل طالب
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات القرآن الكريم وعلومه - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. الحياة في ظلال القرآن نعمة عظيمة .
  2. مواقف الناس مع القرآن .
  3. موقف عتبة بن ربيعة وزعماء ق قريش من القرآن .
  4. عظم تأثير القرآن على القلوب اليقظة الحية .
  5. مفاتيح القلوب لتبر وفهم القرآن العظيم .
  6. صور من بركات القرآن على النفوسِ والأُسر والمُجتمعات. .

اقتباس

الحياةُ في ظلال القرآن نعمةٌ يعرِفُها من ذاقَها، نعمةٌ تُبارِكُ العُمر وتُزكِّيه، وتُسعِدُ القلبَ وتهدِيه. وأيُّ نعمةٍ على هذا العبدِ الضعيفِ أعظمُ من أن يُكلِّمه الربُّ - جلَّ جلالُه - بهذا القرآن؟! يجبُ أن تمتلِئَ النفوسُ فرحًا بهذا القرآن، ويفيضَ هذا الفرحُ والبُشرى على الوجوه، ويمتدَّ إلى البيوتِ والمُجتمعات. هذا الكتابُ العظيمُ لهذه الأمة المُحمدية منهجُ حياة، وهو رسالةُ الإسلام يحمِلُها الداعية، وعِظةُ الواعِظ يُحرِّكُ به القلوبُ، ولسانُ الخطيب على أعواد منبَره، وقد كانت فيه الكِفايةُ والموعِظةُ والهدايةُ. وإنما تشرُفُ العلومُ بقدر قُربها من هذا القرآن...

الخطبة الأولى:

الحمد لله؛ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) [الكهف: 1، 2]، أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أما بعد:

فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]؛ اتَّقوا الله لعلَّكم تُفلِحون، واستكثِروا من الصالِحات فعمَّا قليلٍ أنتم راحِلُون، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية: 15].

اذكُر الله في السرَّاء، يذكُرك في الضرَّاء، وإذا ذكرتَ الموتَ فعُدَّ نفسَك كأحدِهم، وإذا أشرفَت نفسُك على شيءٍ من الدنيا فانظُر إلى ما يصير.

عباد الله:

الحياةُ في ظلال القرآن نعمةٌ يعرِفُها من ذاقَها، نعمةٌ تُبارِكُ العُمر وتُزكِّيه، وتُسعِدُ القلبَ وتهدِيه. وأيُّ نعمةٍ على هذا العبدِ الضعيفِ أعظمُ من أن يُكلِّمه الربُّ - جلَّ جلالُه - بهذا القرآن؟! (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت: 51].

إنها لنعمةٌ ورحمةٌ وذِكرى، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس: 58]. قال المُفسِّرون: "فضلُ الله الإسلام، ورحمتُه القرآن، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)".

يجبُ أن تمتلِئَ النفوسُ فرحًا بهذا القرآن، ويفيضَ هذا الفرحُ والبُشرى على الوجوه، ويمتدَّ إلى البيوتِ والمُجتمعات. فرحٌ بهذا القرآن، وبهذه النعمة التي حمِدَ الله نفسَه عليها قبل أن يحمَده الحامِدون، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف: 1].

هذا الكتابُ العظيمُ لهذه الأمة المُحمدية منهجُ حياة، وهو رسالةُ الإسلام يحمِلُها الداعية، وعِظةُ الواعِظ يُحرِّكُ به القلوبُ، ولسانُ الخطيب على أعواد منبَره، وقد كانت فيه الكِفايةُ والموعِظةُ والهدايةُ. وإنما تشرُفُ العلومُ بقدر قُربها من هذا القرآن.

أيها المسلمون:

وللناس مع هذا القرآن مواقِفُ أثبتَها القرآنُ، وحوادِثُ سجَّلها التاريخ، وأخبارٌ تداولَتْها السِّيَر، فيها تأثيرُ القرآن على النفوس، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111].

روى ابنُ إسحاق وغيرُه في قصة عُتبة بن ربيعة: وذلك أن قُريشًا بعدما رأَت انتشارَ الإسلام، اختارَت أحسنَ رجالاتها ليُكلِّم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أبو الوليد عُتبةُ بن ربيعة وكلَّم النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا وهو مُنصِتٌ إليه.

فلما فرغَ قال: «أفرَغتَ يا أبا الوليد؟» قال: نعم. فقرأَ عليه أولَ سورة فصلت: بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) [فصلت: 1- 4]، فمضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤُها عليه، فلما سمِعَها عُتبةُ ألقَى بيدِه خلفَ ظهره يستمِع، حتى بلغَ قولَه تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت: 13].

فأمسكَ عُتبةُ على فمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وناشدَه اللهَ والرَّحِم.

وفي بعضِ الروايات: أنه جاء إلى قومِه فقال بعضُهم لبعضٍ: نُقسِمُ لقد جاءَكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهبَ به، فلما جلسَ إليهم قالوا: ما وراءَك؟ قال: ورائي أني سمعتُ قولاً والله ما سمعتُ مثلَه قطُّ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكِهانة. يا معشر قُريش! أطيعُوني واجعَلوها لي، خلُّوا بين الرجلِ وبين ما هو فيه، فواللهِ ليكونَنَّ لقولِه الذي سمعتُ نبأً، فإن تُصِبه العربُ فقد كُفيتُموه بغيرِكم، وإن يظهَر عليهم فمُلكُه مُلكُكم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعدَ الناس به. قالوا: سحركَ يا أبا الوليد بلسانِه. قال: هذا رأيي فيه، فاصنَعوا ما بدَا لكم.

عباد الله:

ولما علِم المُشرِكون هذا التأثيرَ العجيبَ للقرآن العظيم، ورأَوا إسلامَ من أسلمَ بسماعِ آياتِه، فتواصَوا فيما بينَهم، كما أخبرَ الله عنهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26].

وكان المُشرِكون يستعذِبون سماعَ القرآن من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان أبو سُفيان وأبو جهلٍ وغيرُهما من رُؤساء قُريش يتسلَّلون ليلاً إلى بيتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمَعوا القرآن.

فخرجَ أبو سُفيان بن حربٍ وأبو جهلٍ والأخنسُ بن شُريقٍ الثقفيُّ ليلةً ليستمِعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، يُصلِّي به من الليل في بيتِه. أخذَ كلُّ واحدٍ منهم مجلِسَه حولَ بيت النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كلُّ واحدٍ لا يعلمُ بمكانِ صاحبِه، باتُوا تلك الليلةَ يستمِعون القرآن.

أيُّ ليلةٍ تلك الليلة؛ ليلةٌ يُستمعُ فيها القرآن بقراءة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. طلعَ عليهم الفجرُ فتفرَّقُوا، فجمعَهم الطريقُ، فتلاوَموا وقال كلٌّ منهم لصاحبِه: لا تعُودوا؛ فلو أن بعضَ سُفهائِكم رآكم لأحدثتُم في قلبِه شيئًا، وذهبُوا وقد تواصَوا على ذلك.

ولما جاءت الليلةُ الثانيةُ عادَ كلٌّ منهم إلى مجلسِه يستمعُ إلى القرآن، وفعلُوا مثلما فعلوا في الليلة التي قبلَها، وهكذا ثلاثُ ليالٍ؛ رواه ابنُ إسحاق وغيرُه بإسنادٍ صحيحٍ.

وفي "صحيح البخاري": عن جُبير بن مُطعِم بن عديٍّ - رضي الله عنه - قال: قدِمتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في وفد أُسارَى بدرٍ، وسمعتُه يقرأُ في المغرب بالطور، فلما بلغَ: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور: 35- 37] كاد قلبي أن يطير.

وفي بعضِ الروايات خارج الصحيح: فأخذَني من قراءَته الكربُ. وفي بعضِها: فكأنما صدعَ قلبي.

وفي "الصحيح": وذلك أول ما وقرَ الإيمانُ في قلبي.

وقد تأخَّر إسلامُه - رضي الله عنه - إلى ما بين الحُديبية وفتح مكة.

ومن التأثير العجيبِ: ما رواه مسلمٌ في "صحيحه"، عن قُطبة بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: صلَّيتُ وصلَّى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأَ: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1]، حتى قرأ: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ) [ق: 10]. قال: فجعلتُ أُردِّدُها ولا أدرِي ما قال.

عباد الله:

ولقد كان نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذي نزلَ عليه هذا القرآنُ يُحبُّ أن يسمعَه من غيرِه؛ يقولُ لابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: «اقرَأ عليَّ القرآن»، فيقرأُ عليه من أول سورة النساء، حتى إذا بلغ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]، قال: «حسبُك الآن»، فالتفَتَ ابنُ مسعودٍ، فإذا عيناه تذرِفان، وإذا عيونُه تسيل.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاصِ - رضي الله عنهما -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تلا قولَ الله - عزَّ وجلَّ - في إبراهيم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم: 36]، وقال عيسى - عليه السلام -: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة: 118]، فرفعَ يدَيه وقال: «اللهم أُمَّتي أُمَّتي»، وبكَى. فقال الله - عزَّ وجل -: «يا جبريل! اذهَب إلى محمدٍ - وربُّك أعلمُ -، فسَلْه: ما يُبكِيك؟»، فأتاه جبريلُ  عليه السلام - فسألَه، فأخبرَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الله - عزَّ وجل -: «يا جبريل! اذهَب إلى محمدٍ، فقُل: إنا سنُرضِيك في أمَّتك ولا نسوؤُك» (رواه مسلم).

عباد الله:

وقبل الهِجرة بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُصعبَ بن عُمير - رضي الله عنه - إلى المدينة هادِيًا ومُعلِّمًا، فنزلَ على أسعَد بن زُرارة، فدعاه وقرأَ عليه القرآن فأسلَم. وتسامَعَ الناسُ بخبر مُصعب، فأتاه سعدُ بن مُعاذ وقد لبِسَ لأْمَتَه - وكان سيِّد الأوس - أتاه يُريد قتلَه، فقال له أسعدُ بن زُرارة: يا ابن خالَة! اسمَع من قوله، إن سمِعتَ مُنكرًا رددتَ عليه، وإن سمِعتَ حقًّا فأجِب إليه.

فقال سعدٌ: ماذا يقول؟ فقرأَ مُصعبُ بن عُمير: بسم الله الرحمن الرحيم (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا ..) [الزخرف: 1- 5]، الآيات من أول سُورة الزُّخرف. فأسلمَ سعدُ بن مُعاذ، وكان بعدُ مُجاهِدًا كريمًا، اهتزَّ لموتِه عرشُ الرحمن.

قال أهلُ السِّير: رجعَ سعدٌ إلى قومِه، فقال: إن كلامَ رجالِكم ونسائِكم عليَّ حرامٌ حتى تُؤمِنوا بالله ورسولِه. فواللهِ ما أمسَى في دار بني عبد الأشهَل رجلٌ ولا امرأةٌ إلا مُسلمًا أو مُسلمةً.

وهذا عُمر - رضي الله عنه - الوقَّافُ عند حُدود الله، يعِظُ بالقرآن ويُذكِّرُ به:

روى ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُه أنه كان رجلٌ من أهل الشام ذو بأسٍ، وكان يفِدُ إلى عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ففقدَه عُمر فقال: ما فعلَ فُلانُ بن فُلان؟ فقالوا: يا أميرَ المُؤمنين! يُتابِعُ في هذا الشراب، أو تتابَعَ في هذا الشراب! قال: فدعَا عُمرُ كاتِبَه فقال: اكتُب: من عُمر بن الخطاب إلى فُلان بن فُلان، سلامٌ عليك. أما بعد: فإني أحمدُ إليك اللهَ الذي لا إله إلا هو غافرُ الذنبِ، وقابِل التوب، شديدُ العقاب، ذو الطَّول لا إله إلا هو إليه المصير.

ثم قال لأصحابه: ادعُوا لأخيكم أن يُقبِل بقلبِه، وأن يتوبَ الله عليه. فلما بلغَ الرجلَ كتابُ عُمر، جعلَ يقرؤُه ويُردِّدُه ويقول: غافرُ الذنب، وقابِلُ التوب، شديدُ العقابِ، لقد حذَّرني عقوبتَه ووعدَني أن يغفِر لي، ولم يزَل يُردِّدُ الآيةَ على نفسِه، ثم بكَى. ثم نزعَ فأحسنَ النَّزع. فلما بلغَ عُمر - رضي الله عنه - خبرُه قال: هكذا فاصنَعوا، إذا رأيتُم أخاكم زلَّ زلَّةً فسدِّدوه ووثِّقوه، وادعُوا الله له أن يتوبَ عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه.

أيها المؤمنون:

وقد كان للقرآن تأثيرُه على أفئِدة قساوِسة النصارى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83].

بل تأثَّر مرَدَةُ الجانِّ الذين كانوا قبل نزوله يسترِقون السمعَ: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن: 1، 2].

هبطَ الجنُّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمِعوه قالوا: أنصِتوا، وكانوا تسعةً من الجنِّ، فأنزل الله - عزَّ وجل -: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأحقاف: 29- 32].

أرأيتُم أحسنَ من هذا الكلام؟!

وإذا كان هذا منطِق الجنِّ مع القرآن، فللملائكةِ مع القرآن شأنٌ؛ في "الصحيحين" عن أُسيد بن حُضيرٍ - رضي الله عنه - قال: بينما هو يقرأُ القرآن من الليل سورةَ البقرة، وفرسُه مربوطةٌ عنده؛ إذ جالَت الفرسُ، فسكتَ فسكتَت، فقرأَ فجالَت الفرسُ، فسكَتَ فسكتَت الفرسُ، أو فسكَنَت، ثم قرأَ فجالَت الفرسُ. فانصرفَ وكان ابنُه يحيى قريبًا منها، فأشفقَ أن تُصيبَه.

فلما أصبحَ حدَّث النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: «اقرأ يا ابنَ حُضير»، قال: فأشفقتُ يا رسولَ الله أن تطأَ يحيى وكان منها قريبًا، فرفعتُ رأسي إلى السماء، فإذا مثلُ الظُّلَّة فيها أمثالُ المصابِيح، فخرجتُ حتى أراها. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «وتدري ما ذاك؟» قال: لا، قال: «تلك الملائكةُ دنَت لصوتِك، ولو أنك قرأتَ لأصبحَت ينظرُ الناسُ إليها لا تتوارَى عنهم».

هذا خبرُ الجنِّ والملائكة، أما الجبالُ فقد أخبرَ الله عنها فقال: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].

فلو كان للقلوبِ قلوبٌ وإدراكٌ فنزلَ عليها هذا القرآن، لتفطَّرَت وتشقَّقَت من خشيةِ الله، (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

بارَك الله لنا في القرآن العظيم، وهدانا صراطَه المُستقيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله، أنزلَ على عبدِه الكتاب أشرفَ كتاب، نزلَ به أشرفُ الملائكة على أشرفِ الرُّسُل إلى أشرفِ الأُمم بأشرف لسانٍ، في أشرفِ زمانٍ وأشرفِ مكانٍ، فاجتمعَ لهذا الكتابِ الشرفُ كلُّه، (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44]، فأشهَدُ أن لا إله إلا الله، وأشهَدُ أن محمدًا رسولُ الله.

أيها المسلمون:

هذا القرآن الذي بين أيدِينا هو القرآن الذي قرأَه الأولون، لم يزَل غضًّا طريًّا، ولكن ليست القلوبُ هي القلوب، (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد: 24].

وقد جعلَ الله لهذه الأقفال مفاتِح؛ فأولُ هذه المفاتِح: معرفةُ المُتكلِّم بهذا القرآن، وهو الله - جَّل جلاله -، ربُّكم وربُّ آبائِكم الأولين، وربُّ العالمين المُحيِي المُميت، الرزَّاقُ ذو القوَّة المتين، وشرفُ الكلام من شرفِ المُتكلِّم به. وكلُّ كلامٍ وإن عظُم وجلَّ فهو دون كلامِ الله تعالى، ناهِيكم عمَّن يشتغِلُ عن كلامِ الله بكلام الباطِل واللهو.

قال عُثمانُ - رضي الله عنه -: "لو طهُرَت قلوبُكم ما شبِعَت من كلامِ ربِّكم" (رواه أحمد).

وثاني مفاتِح الأقفال: معرفةُ بركاتِ القرآن العظيم، (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29]، بركاتُ القرآن على النفوسِ والأُسر والمُجتمعات، بركاتٌ عامَّةٌ في الدنيا والآخرة، «من قرأَ حرفًا من كتابِ الله فله حسنة، والحسنةُ بعشر أمثالِها» (رواه الترمذي).

«اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامةِ شفيعًا لأصحابِه»، «اقرؤوا الزَّهراوَين: البقرة وسورة آل عمران؛ فإنهما تأتِيان يوم القيامة كأنهما غمامَتان، أو كأنهما غيايَتان، أو كأنهما فِرقَان من طيرٍ صواف تُحاجَّان عن أصحابِهما».

«اقرؤوا سورةَ البقرة؛ فإن أخذَها بركة، وتركَها حسرة، ولا يستطيعُها البطَلة» (رواه مسلم).

«سورةٌ في كتابِ الله ثلاثون آية شفعَت لرجلٍ حتى غُفِر له، وهي (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك: 1]» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه).

«يُقال لصاحبِ القرآن: اقرأ وارقَ ورتِّل كما كنتَ تُرتِّلُ في الدنيا؛ فإن منزلتَك عند آخر آيةٍ تقرؤُها» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي).

«الماهِرُ بالقرآن مع السَّفَرة الكرامِ البرَرَة، والذي يقرأُ القرآن ويتتعتَعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجران» (رواه مسلم).

هذا بعضُ قولِ نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم -.

أيها المسلمون:

وثالثُ مفاتِح الأقفال: الدعاءُ؛ روى الإمام أحمد وغيرُه، عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما أصابَ أحدًا قطُّ همٌّ ولا حزَنَ فقال: اللهم إني عبدُك، ابنُ عبدِك، ابنُ أمَتِك، ناصِيَتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سمَّيتَ به نفسَك، أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآنَ العظيمَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدرِي، وجلاءَ حُزني، وذَهابَ همِّي؛ إلا أذهبَ الله همَّه وحُزنَه، وأبدلَه مكانَه فرَحًا»، وفي بعضِ الروايات: «فرَجًا».

فقيل: يا رسولَ الله! ألا نتعلَّمُها؟ قال: «بلى، ينبغي لمن سمِعَها أن يتعلَّمَها».

اللهم افتَح أقفالَ القلوبِ، واغفِر لنا ما أسلَفنا من الخطايا والذنوب، ووفِّقنا لتلاوةِ كتابِك آناء الليل وأطرافِ النهار، وتدبُّر آياتِه وعِظاته، وبلِّغنا يا ربَّنا شهرَ رمضان شهرَ القرآن، وبارِك لنا فيه، ووفِّقنا فيه لللصيام والقيام وصالِح الأعمال.

وطُوبَى لمن عمرَ وقتَه بالقرآن، وكان القرآنُ أنيسَه وجليسَه، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة: 185].

ثم صلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة، وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارضَ اللهم عن صحابةِ رسولِك أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطُّغاةَ والملاحِدة والمُفسِدين، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المؤمنين.

اللهم انصُر المُجاهدين في سبيلِك في فلسطين، وفي بلاد الشام، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم أنقِذ المسجد الأقصَى والمُؤمنين فيه وحولَه من عُدوان المُعتدين وظُلم المُحتلِّين، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجِزونك.

لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرش العظيم.

اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي سُوريا، وفي العراق، وفي كل مكان، فإنه قد عظُم عليهم الخَطب، واشتدَّ الكرب، ولا ناصِر إلا أنت سُبحانك، فاللهم عجِّل بالنصر والفرَج.

اللهم إنا نستودِعُك أهالِي الفلُّوجة، وأنت تحفظُ الودائِع سُبحانك، اللهم أنجِهم من براثِن الإرهابيين، وعُدوان الطائفيين، وظُلم الظالِمين.

اللهم احفَظ بلادَنا وبلادَ المُسلمين من كل سُوءٍ ومكروه، اللهم من أرادَنا وأرادَ الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نحره، اللهم من أرادَ دينَنا وبلادَنا ووُلاتَنا وعُلماءَنا وعامَّتنا ووحدَتنا بسوءٍ فأشغِله بنفسه، واجعَل دائرةَ السَّوء عليه يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَيه وإخوانَهم وأعوانَهم لما فيه صلاحُ العباد والبلاد.

اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتِّباع سُنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعَلهم رحمةً على عبادِك المؤمنين.

اللهم انصُر جنودَنا المُرابِطين على ثُغورِنا، وكلَّ رِجال أمنِنا، اللهم احفَظهم بما يحفَظون من بلادِك المُقدَّسة وعبادِك المُؤمنين، اللهم ثبِّتهم وأعِنهم، وبارِك أعمالَهم وأعمارَهم، وأهلَهم وأموالَهم، وتولَّ ثوابَهم وتقبَّل منهم يا رب العالمين.

اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادِنا وبلادِ المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِق الليل والنهار.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].

اللهم اغفِر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورَنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا.

اللهم اغفِر للمُسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفِر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم، اللهم ارحَمهم كما ربَّونا صِغارًا، اللهم من كان منهم حيًّا فمتِّعه بالصحة والعافيةِ على طاعتِك، ومن كان منهم ميتًا فتغمَّده برحمتِك، ونوِّر له في قبرِه ووسِّع له فيه، واجعَله روضةً من رِياض الجنة، واجمَعنا به في  دارِ كرامتِك.

ربنا اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذريَّاتهم، وأزواجِنا وذريَّاتِنا، إنك سميع الدعاء.

ربَّنا تقبَل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

سبحان ربِّك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.