الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | الحسين أشقرا |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
إن للوفاء بالعهود أثره المشهود، ذلك أن الوفاء بالعهد سواء باللسان أو الكتابة برقابة من الله يُحدث السرور في النفوس، ويوثق العرى بين الناس، ويُرضي الملك القدوس، وأما الجاحد والخائن للعهود فإن باب الرضا دونه مسدود ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلما، واتصف بالعفو في علاه رأفة منه وحلما، أمر عباده الأتقياء بالأمانة والوفاء، فتنزهوا عن الخيانة ونقض العهد لأنهما سبيل الأشقياء... وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: لنطرح سؤالا!... ماذا كان يعني " الوفاء بالعهد" عند أجدادنا؟ وما معنى كلمة العهد؟ فقد كان أحدهم إذا قال للآخر: هذا عهد الله بيننا؛ كان كافيا لإبرام عقد أو اتفاق. امتثالا لقوله تعالى (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) [الإسراء:34]. وخوفا من تحذير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له!".
فما معنى العهد؟ قال الإمام الجرجاني: "هو حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، هذا أصله ثم استخدم في المُوَثَّق الذي يلزم مراعاته".
وللعهد معان كثيرة منها: الموَثَّق، اليمين، الوصية، الوفاء، الأمان، الضمان وغيرها.
وهذه المعاني هي التي كانت راسخة ومستقرة في علم وعُرْف السابقين -رحمهم الله-. فكان لفهمهم السليم الأثر الإيجابي في حياتهم الخاصة والعامة؛ فماذا وقع؟ هل هو جهل باللغة؟ أم بالفهم الصحيح لأمور الدين؟ أم هو إعراض واتخاذ للقرآن مهجورا؟ ولا يحتاج الأمر للجواب، إذ لا داعي لتوضيح الواضح، وشرح الفاضح الذي يدل عليه واقع الكثيرين من عباد الله إلا من رحم الله.
أيها المؤمنون: إن الوفاء بالعهد قيمة أخلاقية وإنسانية عظيمة، فبالوفاء بالعهد تُدْعَمُ الثقة بين أفراد الأسرة، والمجتمع، وبها تطمئن النفوس لبعضها البعض، وبها تنمو أواصر التعاون بين الأفراد والجماعات.
والوفاء بالعهد شُعبة من شُعب الإيمان، فهو دليل على صدق إيمان وعنوان استقامتهم؛ فمن يراقب المتعاهدان أثناء تعاهدهما؟ إنه الله! الرقيب السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعيُن وما تُخفي الصدور!
إن الوفاء بالعهود خصلة من خصال المومنين الصالحين، وأدب رباني جليل، وخلق نبوي كريم، وسلوك إسلامي حميد. فمن أعطى عهدا لله أو لعباد الله فقد أصبح مسئولا على الوفاء به.ولهذا، أمر الإسلام بضرورة التحلي بالوفاء بالعهود والعقود، فقال سبحانه في بداية سورة المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [المائدة:1] وقال سبحانه: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل:91].
ولقد جعل الله سبحانه الوفاء بالعهد من صفات أهل الصلح والفلاح والإيمان، فقال عز من قائل: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:176].
ولما كان للوفاء بالعهد هذا الفضل وهذه المكانة والمنزلة، تخلق به كل الأنبياء والرسل عليهم السلام. فنجد في القرآن الكريم (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم:37] وفي شأن إسماعيل (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا) [مريم:54].
وينقسم العهد إلى قسمين: 1- عهد بين الله والناس، 2- عهد بين الناس بعضهم بعضا...
أما العهد مع الله، فقد كان مبدأه في عالم الغيب، على الإيمان بالفطرة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين...) [الأعراف:172].
ثم العهد على التوحيد والإحسان والعمل الصالح في هذه الدنيا (وَإِذَ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة:82].
ويأتي الوفاء مع الناس بتقديم الوفاء بعهد الإحسان للوالدين، وحسن معاملة الأزواج، والأقارب، وحسن الجوار، والإحسان إلى عامة المسلمين، ثم عامة الناس فيما لا يتعارض مع طاعة الله ورسوله.
ومن الوفاء بالعهد: ما يتعلق بالمعاملات المالية التي هي أصل المشاكل في زماننا بين الكثير من الناس، وكذا الوفاء بالعهد في مجال الكيل والميزان لقوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُوا) [الأنعام:152].
ويأتي في هذا السياق أيضا، الوفاء بالعهد بأداء الأمانات لأهلها (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8]، وسرعة تسديد الديون لأن "مطل الغني ظلم" كما جاء في الحديث الشريف.
واعلموا -رحمكم الله- أن نقض العهود وعدم الوفاء بها علامة من علامات النفاق التي حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد التحذير فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" هذه علامات الدنيا، وأما في الآخرة فينصب له لواء يُعرفُ به بين الأشهاد، نسأل الله المعافاة.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وما فيه من الذكر الحكيم، وبكلام سيد المرسلين، ويغفر الله لي ولكم ولمن قال آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ..
عباد الله: إن للوفاء بالعهود أثره المشهود، ذلك أن الوفاء بالعهد سواء باللسان أو الكتابة برقابة من الله يُحدث السرور في النفوس، ويوثق العرى بين الناس، ويُرضي الملك القدوس، وأما الجاحد والخائن للعهود فإن باب الرضا دونه مسدود. وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن اتخاذ الخائنين للأمانات قدوة بقوله: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك".
ولكي نؤكد أن للوفاء بالعهود رصيدا غنيا في الواقع، نعيش ثلاث حالات من حالات الوفاء لا للحصر، ولكنها أمثلة حية، عساها تدفعنا إلى اليقين والثبات على الحق الذي جاء به من وصفه الله تعالى بالخلق العظيم صلى الله عليه وسلم، والذي كانت حياته كلها وفاء وصدقا وأمانة:
الحالة الأولى: عن عبد اللَّهِ بْنِ أَبِى الْحَمْسَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ فَنَسِيتُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَالَثٍ، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ في مَكَانِهِ فَقَالَ: "يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ أَنَا هَا هُنَا مُنْذُ ثَالَثٍ أَنْتَظِرُكَ" رواه أبو داود. الله أكبر! من يطيق من ذلك؟ إلا من أدبه ربه فأحسن تأديبه.
الحالة الثانية: عن حُذَيْفَة بْن الْيَمَانِ -رضي الله عنه- قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَاّ أَنِّى خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي -حُسَيْلٌ- قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلا الْمَدِينَةَ. فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَألاَّ نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: "انْصَرِفَا نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِين ُ الله عَلَيْهِمْ" رواه مسلم. هكذا يكون الوفاء حتى مع الأعداء، والتوكل على الله والاستعانة به.
الحالة الثلثة: وفاء الزوجة مع زوجها. ففيما روته كتب السرية عن السيدة أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوج عكرمة بن أبي جهل، فقد أسلمت يوم الفتح 6هـ وهرب زوجها عكرمة إلى اليمن خوفا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهبت الزوجة الصالحة إليه -صلى الله عليه وسلم- طالبة لزوجها الشفاعة، فقبل شفاعتها وأعطاها العهد بالأمان والعفو لزوجها، فسافرت إليه ومعها البشارة بالعفو والعهد والأمان، فكانت النتيجة أن هداه الله للإسلام وشرح له صدره... ورَجَعَ عكرمة مَعَ زوجه، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَصْحَابِهِ: "يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ وَلَا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ"، قَالَ: فَقَدِمَ عِكْرِمَةُ فَانْتَهَى إِلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَزَوْجَتُهُ مَعَهُ. قَالَ: فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَدَخَلَتْ فَأَخْبَرَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقُدُومِ عِكْرِمَةَ فَاسْتَبْشَرَ وَوَثَبَ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَقَالَ: "أَدْخِلِيهِ"، فَدَخَلَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذِهِ أَخْبَرَتْنِي أَنَّكَ أَمَّنْتَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَدَقَتْ فَأَنْتَ آمِنٌ". قَالَ عِكْرِمَةُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ! وَقُلْتُ: أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ، وَأَصْدَقُ النَّاسِ، وَأَوْفَى النَّاسِ، أَقُولُ ذَلِكَ وَإِنِّي لَمُطَأْطِئُ الرَّأْسِ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ. يَا رَسُولَ اللَّهِ: اسْتَغْفِرْ لِي كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَيْتُكَهَا أَوْ مَرْكَبٍ أَوْضَعْتُ فِيهِ أُرِيدُ بِهِ إِظْهَارَ الشِّرْكِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعِكْرِمَةَ كُلَّ عَدَاوَةٍ عَادَانِيهَا، أَوْ مَنْطِقٍ تَكَلَّمَ بِهِ، أَوْ مَرْكَبٍ أَوْضَعَ فِيهِ يُرِيدُ أَنْ يُصَدَّ عَنْ سَبِيلِكِ".
هكذا -أيها المومنون- يكون الوفاء، وقد عشنا بعضا من صوره بتصرف؛ فكيف بمن يخالف نهج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!
يقول الله تعالى جوابا للمخالف: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63] فهل نتعظ ونعتبر؟!