العربية
المؤلف | أحمد بن عبد العزيز الشاوي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين |
وهكذا طويت صفحة من صفحات المكارم، وأفلت شمس من شموس المغانم، حينما ودعنا موسماً شهد تصارع الهمم، فقوم همتهم في الثرى، وآخرون سمت فوق الثريا؛ فأما الذين آمنوا فزادتهم أيام هذا الموسم إيماناً مع إيمانهم وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وهم لا يشعرون، فكان الجزاءُ إرغامَ أنوفٍ وإبعاداً بتوقيع الروح الأمين، وشهادة سيد المرسلين.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، أحمده -سبحانه- وهو للحمد أهل، وهو الحقيق بالمنة والفضل، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، نعمه تترا، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أخشى الناس لربه، وأتقاهم لمولاه، وأكثرهم له استغفاراً وذكراً، وأصدقهم شكراً، صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى.
وَ(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [الإسراء:111].
الله أكبر كبيرا...
أمة الإسلام: وهكذا طويت صفحة من صفحات المكارم، وأفلت شمس من شموس المغانم، حينما ودعنا موسماً شهد تصارع الهمم، فقوم همتهم في الثرى، وآخرون سمت فوق الثريا؛ فأما الذين آمنوا فزادتهم أيام هذا الموسم إيماناً مع إيمانهم وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وهم لا يشعرون، فكان الجزاءُ إرغامَ أنوفٍ وإبعاداً بتوقيع الروح الأمين، وشهادة سيد المرسلين.
مضى شهر رمضان بعدما تميز فيه السعداء والأشقياء، فالسعداء يغدون ليبيعوا أنفسهم فيعتقوها، والأشقياء يغدون ليبيعوا أنفسهم فيوبقوها، وكلا الفريقين وجد تعباً، (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ) [النساء:104].
فهنيئاً لكم أيها السعداء! أدركتم أن كل من في هذه الحياة يغدو ويتعب، وكل يسعى ويشقى، وكل يعمل على شاكلته، وسعيكم شتى، والجزاء مختلف، فليس الخير كالشر، وليس الهدى كالضلال، وليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى، وإن لكلٍ طريقاً، ولكل مصيراً، ولكل جزاء وفاقاً، لقد تعبتم في مرضاة ربكم، وسخّرتم جوارحكم لما ينفعكم يوم تلقون ربكم.
هنيئاً لكم فإن أياماً صمتموها، وليالي قمتموها، وآيات تلوتموها، وأموالاً أنفقتموها، وأذكارا رددتموها، وطاعات بذلتموها؛ لن تضيع -ورب السماء والأرض- سدى، وما كان الله ليضيع إيمانكم، فإن ربكم مجازيكم عليها تكفيراً لسيئاتكم، ورفعة لدرجاتكم، وزيادة في أجوركم، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة:120]. "لا يصيب المسلم من هم ولا غم ولا وصب ولا نصب، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه".
أما غيركم ممن تعب في سبيل الشهوات، فأعمالهم تكثير لسيئاتهم، وعذاب في دنياهم وأخراهم، (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55].
هنيئا لكم أيها السعداء، تعبكم أنتم مجازون عليه، وإن كان مجرد همّ، "مَن هم بالحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة"، تعبكم مثابون عليه وإن لم تعملوه لعذر، "إذا مرض الإنسان أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما".
هنيئا لكم يا أولي الألباب: تعبكم يصحبه لذة وسرور في القلب تجدونه في الدنيا قبل الآخرة، مما يؤدي إلى زوال هذا التعب وتحوله إلى نعيم وراحة ولذة وسرور، أما الأشقياء فيشعرون أن تعبهم في معصية الله، فإذا انتهوا من لذاتهم وذهب شعورهم بها بقيت الحسرة في قلوبهم، وأورثهم التعب هماً وحزناً.
إن أهنا عيشة قضّيتها | ذهبت لذّاتُها والإثم حلّ |
هنيئا لكم أيها العاملون بطاعة ربكم! تعبكم مؤقت ينتهي بفراق هذه الحياة حين يجد الإنسان عند الموت من التثبيت والبشرى بحياة النعيم الدائم، (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30-32].
ثم الجزاء الأعظم حيث ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهناك تنسى المتاعب، وتتلاشى المصاعب، وينقطع النصب والهم والحزن.
إن السعداء يدركون أن الحياة الدنيا مهما تطُل فهي قصيرة، وأن عناء السعداء وتعبهم مهما اشتد فهو محتمل في سبيل الله، ما دامت نهايته الموت، وعاقبته الفوز والنعيم المقيم، ومن هنا؛ فالسعداء يستقلون كل تعب لقوه في الدنيا في ذات الله حينما يجدون ثوابه وجزاءه، "لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرِماً في سبيل الله؛ لحقره يوم القيامة".
يا أيها السعداء بطاعة ربهم: إن الفرق الأكبر بينكم وبين التائهين في ظلمات المعاصي هو ما تلقونه في قبوركم من النعيم، ثم ما تلقونه في الآخرة من السعادة والسرور وألوان اللذة مما لا يخطر على بال، وأعظم ذلك النظر إلى وجه الله -عز وجل-، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:23].
هذا هو الفرق بين السعداء الذين تعبوا في مرضاة ربهم وطاعته، فهم سعيدون في الدنيا بطاعة الله، وبلذة المناجاة، وبالأنس بقرب الله، سعيدون بما يلقون من الأذى في سبيل الله، وبما يجدون من التعب في طاعة الله، سعيدون بكل معاني السعادة، سعيدون عند الموت بالبشرى، سعيدون في قبورهم بما يلقون من النعيم، سعيدون عند البعث، سعداء بعد الحساب، وهذا هو جزاء المؤمنين الذين قرروا أن يقضوا حياتهم على وفق ما يرضي الله -عز وجل- وإن تعبوا ونصبوا وحرموا أنفسهم من اللذات.
أما الأشقياء فقد شقوا في الدنيا بالتعب في معصية الله، أشقياء في أجسامهم، في قلوبهم، أشقياء عند موتهم، في قبورهم، عند البعث، عند الحساب، وبعد الحساب، (جَزَاءً وِفَاقَاً) [النبأ:26]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) [آل عمران:195].
الله أكبر، الله أكبر...
هكذا هو مصير السعداء في ظل دين الحنيفية السمحاء التي جعلها الله رحمة وهداية، شعارها (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، وعنوانها: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، وخصيصتها: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) [البقرة:143].
إن ديننا دين الوسطية بكل معانيها، الوسطية سمة لو امتثلناها لانتفت كل المظاهر المؤسفة من غلو في الدين، ولجوء إلى العنف، ولتلاشت كل صور التفريط والإخلال، إنها دليل الخيرية الدائمة، وعنوان السعادة الأبدية، إنها الوسطية والاعتدال والقصد والتوازن.
تبتهج النفس برؤية شاب متحرق متدفق، وينشرح الصدر لحديث الهداية حين ينطلق بقوة وهمة، ويرتاح القلب لحماسة الشباب للدعوة والعلم؛ ومقابل كل هذا يغيظ القلب ما نرى من مظاهر الدعة والعجز والكسل والضعف والفتور، أو الانجراف وراء العواطف والحماسة المتهورة، فهل نتفاءل بالانطلاقة المفْرطة أم بالسكينة المفرِّطة؟.
إن الحديث عن الوسطية والاعتدال بات أمراً مهماً في زمن ساد فيه الغلو والجفاء، وأصبح فيه مصطلح الوسطية من المصطلحات المظلومة.
إن فقد التوازن والوسطية في حياة المسلم تنكّب عن الفطرة يؤدي إلى الانقطاع عن الدين كله أو بعضه، "إن المنْبتّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"، وكم من أناس كانوا متحمسين، بل مغالين، في جانب من جوانب هذا الدين، سواء كان في العبادات المحضة أو بعض الأعمال الدعوية، إلى حد التقصير المجحف ببقية الجوانب الأخرى، ثم كانت عاقبتهم الانقطاع، بل والنكوص على الأعقاب؛ نسأل الله السلامة والعافية!.
الحديث عن الوسطية والتوازن بات مطلباً ملحاً لما نشاهده اليوم من مفاسد عظيمة جرت على المسلمين من جراء غلو بعض أبنائها أو تفريطهم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". قال ابن القيم: فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يتأولونه على غير تأويله. وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاث، فلولا أن الله يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء.
أمتنا أمة وسط في التصور والاعتقاد، لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، وسط بين الملاحدة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وبين الذين يؤلهون كل شيء حتى عبدوا الحجر والشجر والبقر، ديننا ينهى عن الغلو في الرجاء الذي يجعل الناس يتكلون، وعن الغلو في الخوف الذي يجعلهم يقنطون.
أمتنا أمة وسط في التفكير والشعور، لا تجمد على ما عملت ولا تغلق منافذ التجربة والمعرفة، ولا تتبع كل ناعق، وإنما شعارها "الحكمة ضالة المؤمن"، أنى وجدها أخذها في تثبت ويقين.
ديننا دين الوسطية في العبادات، فهو يرفض الغلو في الروحية والإسراف في التعلق بالمادية، فلا رهبانية كرهبانية النصارى ولا مادية كمادية اليهود، وإنما نأخذ من هذه لتلك، فالدنيا مزرعة الآخرة.
ومع أهمية التقرب إلى الله -عز وجل- بالنوافل المستحبة إلا أن المسلم ينبغي أن لا يفرط في المستحبات إفراطاً يجعله يخل بالواجبات فيكون كالذي أقام قصراً وهدم مصراً.
وفي الجانب الآخر؛ فإن التفريط بالسنن والمستحبات مذموم، وربما أدى بصاحبه إلى القعود عن الفرائض والواجبات.
قال ابن حجر: إن الأخذ بالتشدد في العبادات يفضي إلى الملل القاطع لأصلها، وملازمة الاقتصار على الفرائض مثلاً وترك النوافل يفضي إلى إيثار البطالة وعدم النشاط في العبادة، وخير الأمور الوسط. اهـ.
ديننا دين الوسطية في النظرة إلى الدنيا والآخرة، فقد بين لنا ربنا صنفين من الناس: صنف ضيق الأفق مطموس البصيرة، كل همه الدنيا، فلا يلتفت إلا إليها، ولا يحرص إلا عليها؛ وصنف رحب الأفق، نير البصيرة، وسع قلبه الدنيا والآخرة: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة:200-201].
ولم يذكر القرآن القسم الثالث، وهم من لا يطلب إلا الآخرة فقط وما له في الدنيا من أرب، وكأنه يعلمنا أن هذا الصنف لا يكاد يوجد في الناس، ويشعرنا أن إهمال الدنيا وإهدار شأنها في حساب طالب الآخرة إنما هو أمر مذموم خارج عن سنة الفطرة، (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ) [القصص:77].
ديننا دين الوسطية في الأحكام والمعاملات، فإذا أردت أن تمدح فلا تبالغ، وإذا هممت أن تقدح فلا تسف، وفي الحديث الحسن: "أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما". وقال شيخ الإسلام: "والغلو مجاوزة الحد، بأن يزاد من مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق".
ديننا دين الوسطية في الأخلاق والسلوك، فإذا كان يأمر بالحلم والأناة، ويوصي -صلى الله عليه وسلم- من استوصاه قائلاً: "لا تغضب"، فإنه -في الوقت ذاته- يشنع على من لا يتمعر وجهه غضباً لله -عز وجل-.
الوسطية ترفض العنف في معالجة الأخطاء وتغيير المنكرات، وهي -في الوقت ذاته- ترفض السلبية، والتبلد في الإحساس، وعدم الشعور بالمسؤولية.
لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله -عز وجل-. كان -صلى الله عليه وسلم- أصبر الناس وأحلمهم وأحبهم للعفو والتسامح، وأرقهم قلباً وأكثرهم عطفاً، وهو نفسه الذي أمر بقتل فئة من أعداء الدين كانوا شوكة في نحور المسلمين؛ فالتسامح لا يعني الذل والانهزامية.
ديننا دين الوسطية في المباحات، فالمسلم لا يسرف في المباحات إلى حد الإفراط ولا يحرم نفسه مما أحل الله له من الطيبات، والرجال الذين يغرقون في المباحات لا يصلحون لنشر فكرة، ولا تقوم عليهم دعوة.
لقد أعطى الإسلام لأبنائه فرصة للترفيه المباح، واللهو الحلال، ومنحهم فرصة لإعطاء النفس حقها من الفسحة والاستجمام؛ لكنه لم يسمح بالتفلت والفوضى بحيث يتحول الترفيه إلى استهتار بالأخلاق، وانحطاط بالمبادئ، واستخفاف بالعقول، وينتج عنه ضياع للأوقات، وإهدار للأموال، وانتهاك للغيرة، وذهاب للقوامة والرجولة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67].
أمتكم -يا مسلمون- أمة وسط في التعامل مع المخالفين ممن تربطنا بهم عقيدة واحدة، وسبيل واحد، وفي معالجة الأخطاء، فنحن بأمس الحاجة لهذا الأمر ونحن نعاني من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد ومعالجة الأخطاء، والجور مع المخالف، في وقت نحن بأمس الحاجة إلى الائتلاف والوحدة والاجتماع، لا إلى الفرقة والاختلاف، وفي حاجة إلى أن يرحم بعضنا بعضا، وأن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويناصح بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، ويعذر بعضنا بعضا فيما يسع الاجتهاد فيه.
أمة الوسطية لم تقع فيما وقع فيه الغالون والمفرطون المضخمون للأخطاء، المهدرون للحسنات، المتهمون للنيات؛ بل يحفظون لأهل الفضل حقوقهم، ولم ينسوا لهم بلاءهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم. وفي المقابل، لم يذهبوا إلى تقديس الأشخاص وادعاء العصمة لهم بلسان الحال أو المقال، وشعارهم: "نعم للتقدير، لا للتقديس".
أمتكم -يا مسلمون- وسط في أفراحها وأعراسها، فدينكم يسمح باللهو المباح وإظهار الفرح والسرور، لكنه يرفض أن تتحول الأعراس إلى معرض للغناء والمعازف، وإلى مشهد للتعري والإسفاف وقلة الحياء في اللباس، وما أجمل الأفراح عندما تكون محفوفة بالأدب والذوق الرفيع!.
دينكم -يا مسلمون- يحث على الغيرة، ويعدها من سمات الرجولة والقوامة والعزة والأصالة، ولا تفقد إلا عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة والدياثة، وقد قال رسولكم -صلى الله عليه وسلم-: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه! والله أغير مني!".
لكنها غيرة وسطية بين من غلوا فتحولت غيرتهم إلى وساوس وشكوك وخواطر رديئة فأتعبوا أنفسهم وأتعبوا محارمهم عبر الظن السيئ والتجسس والتحسس، وبين من فرطوا في الأمانة والقوامة فلم يبالوا بما تفعله نساؤهم مما يخدش الحياء ويعرضهن لسهام المفسدين، ويجرئ أهل الشهوات والقلوب المريضة عليهن، من ذهاب للأسواق بلا حشمة، وخلوة بأصحاب المحلات والسائقين، وظهورهن في الأعراس والمناسبات بلباس فاضح يغضب الله، وجلب قنوات العهر والخنا إلى البيوت دون رقابة ولا متابعة ولا محاسبة، متجاهلين قول رسولهم: "والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته".
دينكم -يا أمة الوسطية- وسط في الموقف من الأحزان والمصائب، فإن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب؛ لكنه يمنع صور التسخط والجزع من لطم للخدود، وشق للجيوب، ونعي، ونياحة.
ودينكم يعترف بوجود الأمراض المعدية، ويأمر بالحيطة والحذر وتجنب أماكن العدوى، "فر من المجذوم فرارك من الأسد"، "إذا سمعتم بوباء في بلد فلا تدخلوها، وإذا دخلتم فلا تخرجوا منها"؛ لكنه يرفض أن يتحول الحذر إلى فزع وتشاؤم، وتعلق بالأسباب، وقلق من الواقع: "لا عدوى ولا طيرة".
دينكم -يا مسلمون- وسط في الأخذ بالرخص بين قوم يتمادون بالأخذ بها والاسترسال معها حتى خرجوا بها عن المقصود الشرعي، وبين قوم تشددوا في الورع حتى تركوا الرخص الشرعية وشددوا على أنفسهم، والوسط هو من يعظم أمر الله -عز وجل- فلا يعارضه بترخص جافٍ، ولا يعارضه لتشديد غالٍ، ويزهد في رخص الله -عز وجل-، كما قال ابن القيم: "فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعارضا لتشديد غال، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله -عز وجل-"، وقال: "ومن علامات تعظيم الأمر والنهي أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد أن يكون صاحبه جافيا غير مستقيم على المنهج الوسط".
دينكم -يا مسلمون- وسط في التعامل مع الزوجة والأولاد بين قوم انجرفوا وراء عواطفهم وسيطرت عليهم مشاعر الحب فتساهلوا في تقويم أهليهم، وتهاونوا في متابعتهم وإنكار أخطائهم وتجاوزاتهم في حق الله، وآخرين غلوا في التأديب والمتابعة فاستخدموا العنف والقسوة، ولجؤوا إلى التقريع وهدر الحقوق، وتجردوا من كل عاطفة.
ومنهج الإسلام يعلن "إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ ذلك أم ضيع"، ويقرر: "إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه"، ويسطر نبينا -صلى الله عليه وسلم- بسلوكه المنهج الرائع في تعامله، فهو القائل: "أحبّ الناس إليّ عائشة"، وهو الذي قال لها حينما اغتابت صفية: "لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته".
أيها المسلمون: إن معرفة الوسطية لا تخضع للأهواء أو التقديرات الذاتية، وإنما تعرف بالشرع، وقد تعرف بالعادة، وما يشهد به معظم العقلاء، فالوسطية أن يكون الإنسان في دائرة المشروع، وهي الخير والعدل، فإذا وقف المرء دون هذه الدائرة ولم يعمل فيها كان مقصراً مفرِّطاً، وإذا تجاوزها كان مُفرِطاً غالياً متطرفاً إلى الجهة الأخرى المذمومة.
لقد برزت في حياتنا المعاصرة بعض ظواهر الانحراف في العقيدة والفكر والسلوك، وانطلقت الأصوات تدعو للوقوف في وجه تلك الانحرافات ومعالجتها، وتوسلت إلى ذلك من جملة ما توسلت به بالدعوة إلى الوسطية وعدم التطرف، وفي أثناء ذلك جمح الحماس ببعضهم فوصموا كل ملتزم بدينه -وبخاصة في الأمور المظهرية- بالتطرف والتنطع ومجانبة الوسطية، فالذي يحافظ على السنن والآداب في عباداته ومعاملاته متشدد، والذي يبتعد عن الخنا والفجور متزمت متحجر، والذي يجتهد في الطاعة والعبادة غالٍ في الدين، والذي يدعو إلى تصحيح المفاهيم ووضع الأمور في نصابها متنطع متحذلق، والذي يرتفع إلى مستوى عال وأفق مضيء خياليٌ مثالي.
لقد رأينا وسمعنا ممن قل زاده من التدين علماً وعملاً، أو عاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، من يعتبر الحد الأدنى من الدين ضرباً من التعصب والتشدد، وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين زاد استغرابه، بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو عليه: حلال هو أم حرام!.
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطان المسلمين بأسماء إسلامية وعقول غربية يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينياً.
لقد رأينا من يعد إعفاء اللحية من الرجل أو التزام الحجاب من المرأة تطرفاً في الدين، ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته والأمر بالمعروف إذا ضيع والنهي عن المنكر إذا وقع تطرفاً في الدين، وتدخلاً في الحرية الشخصية للآخرين.
أما التفريط في الدين بحيث لا يتعرف المرء على دينه ولا يفهمه كما هو في مصادره الأساسية الموحى بها، أو لا يحمل نفسه على الالتزام بآدابه وسلوكه، ولا يأخذ نفسه بالطاعة والعبادة، ولا يبالي بما يرتكب من آثام وموبقات، حيث يطلق العنان لشهواته وأهوائه، فهذا وأمثاله ليس تطرفاً في الجهة المقابلة؛ بل هو عندهم سعة في الأفق، وواقعية في السلوك، وإدراك لحق النفس ومطالبها، وانفتاح على الحياة والمدنية المعاصرة.
وبين هذا الفهم وذاك ضاعت معاني الوسطية الصحيحة، والتبست بمفاهيم أخرى، وغدت حلاً وسطاً أو انحلالاً وانخلاعاً من أحكام الدين؛ بل غدت الوسطية منتدى عنكبوتياً يَكتب فيه كل ساقط ومارق من دعاة الشهوات والنفاق من شهوانية وعلمانية، يكتب فيه كل منكر من القول وزور وبهتان تحت مسمى الحرية والوسطية.
أصبحت الوسطية تعني التساهل، فيمارس المنكر ويستعلن به، فإذا أنكرته قالوا: ديننا دين الوسطية واليسر والسماحة!.
ومن هنا يتأكد على كل مسلم يخشى الله ويتقيه أن يفهم الوسطية ويطبقها كما فهمها وطبقها الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "إني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء"، وحينما قال لعبد الله بن عمرو: "صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزَورك عليك حقاً".
الوسطية التي طبقها أسلافنا، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، وإنما هو موازنة بين الحقوق وسير على المحجة البيضاء. قال الفاروق عمر -رضي الله عنه-: "قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يميناً أو شمالاً".
وقال علي -رضي الله عنه-: "اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة، هلك من ادعى وخاب من افترى".
ما أحوجنا اليوم إلى بناء جيل يترسم هدي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في التعامل مع أحكام الدين ومعاملاته! جيلٍ ينأى عن الغلو ويبتعد عن الجفاء، جيلٍ يعبد ربه ويتعامل مع الناس وفق المنهج الوسطي الذي يرفض الإفراط وينبذ التفريط، جيلٍ يدرك معنى الوسطية وأنها الأليق بطبيعة النفس وقدراتها، جيلٍ يكون كما كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يداعب أهله ويمازح زوجته فإذا حضرت الصلاة قام إليها، جيلٍ يكون كما كان الصحابة الكرام يتمازحون فيما بينهم فإذا جد الأمر كانوا هم الرجال.
ونقول اليوم ما قاله قديماً معاوية بن قرن -رحمه الله-: "من يدلني على رجل بكاء بالليل، بسام بالنهار؟!".
وقال الحسن: "السنة، والذي لا إله إلا هو، بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا".
أسأل الله أن يهدينا طريقه القويم، وصراطه المستقيم، وأن يرزقنا الثبات عليه إلى يوم الدين.
والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فتأسيا بنبي الهدى والرحمة -صلى الله عليه وسلم- أنقل الحديث لصانعات الرجال ومربيات الأجيال ووالدات الأبطال، إلى من رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا، إلى من وقر في قلبها حب الله والشوق إلى لقائه والرجاء بوعده والخوف من وعيده، إلى من تجاوزت بنظرتها حدود الدنيا الحقيرة الفانية وتطلعت إلى الحياة الآخرة حيث الحياة الدائمة والمستقبل الحقيقي.
إليك يا أختي المسلمة أوجه كلماتي، وأسطر عباراتي، ممزوجة بعبراتي! إليك يا من جعلوا منك قضية، وافتعلوا عليك حقوقا من نسج خيالهم وما تمليه عليه شهواتهم.
أختي المسلمة: إن الدين الوسطي هو الدين الوحيد الذي يحفظ حقوقك ويحقق كرامتك ويمنحك الأمن النفسي والدنيوي والأخروي، إنه الدين الذي يرفع شعار (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:228]، و"إنما النساء شقائق الرجال"، وفي ظله تعيش المرأة مكفولة الحقوق، مصانة الكرامة، (لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ) [النساء:32].
دين يمثله بالقول والفعل رسول الهدى والمرحمة -صلى الله عليه وسلم- الذي سطر بمواقفه أروع الأمثلة في التعامل الكريم مع المرأة بنتا حيث تتجلى الأبوة الحانية في تعامله مع ابنته فاطمة -رضي الله عنها- عندما كان يقوم لها ويقبل بين عينيها قائلا: "مرحبا بابنتي"، وفي تعامله مع زوجاته حيث يراعي مشاعرهن ويتحمل غيرتهن ويعدل في القسم بينهن، ويعبر عن حبه لهن بكل شفافية ووضوح، وهو القائل: "استوصوا بالنساء خيرا"، ويقول: "ما أكرمهن إلا كريم".
في ظل دين الوسطية تظل المرأة كريمة بين قوم لا يرون لها قدرا ولا يسمعون لها نهيا ولا أمرا، لا ترث ولا تملك ولا تشير ولا تستشار، إنما هي من سقط المتاع؛ وبين قوم غلوا في تحريرها حتى تحولت إلى دمية للمتعة، وسلعة للبغاء، ودعاية للبيع والشراء. و
سنة الإسلام فيها وسطٌ | شاء من يبغي التعدي أم أبى |
يا أمة الله: لقد ألزم الإسلام الرجل والمرأة بالعبودية لله وحده في صورة الخضوع لمنهجه ودينه، وهذه العبودية هي أرقى مراتب الحرية، فالإنسان من خلال توجهه لله وحده يتحرر من كل سلطان، فلا يوجه قلبه ولا يطأطئ رأسه إلا لخالق السموات والأرض.
إن الحرية في غير الإسلام تصبح حرية جوفاء لا معنى لها؛ بل هي العبودية المذلة المهينة، وإن بدت في صورة الحرية.
يا أمة الله: ندرك أن المؤامرة لإفسادك كبيرة، وأن الجهود لإضلالك متواصلة، تدعوك للتمرد على القيم، والخروج عن الصراط القويم، رافعة شعارات براقة تخفي وراءها كيدا ومكرا، متسترة بالخلاف، ومتذرعة بالعادات والتقاليد، (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء:27].
لقد رأوا في الحجاب والحشمة حصنا دون شهواتهم فسعوا عبر سياسة تكسير الموجة إلى توهين تمسكك بالحجاب، وإضعاف التزامك بالستر والفضيلة، فدعوا بالقول والفعل إلى كشف الوجه بحجة الخلاف، وهم يرمون إلى ما بعد ذلك من خطوات ماكرة، كما قالت إحداهن في مقابلة تلفازية حينما سئلت: هل ترغبين أن تشاهدي المرأة السعودية تلبس الجنز وتحسر عن شعرها؟ فأجابت: أهم شيء أن تكشف عن وجهها، وبعدها سيكون شأن آخر!.
إنك -يا أمة الله- يوم أن تتنازلي عن شيء من حجابك، وتظهري زينتك، وتخضعي في قولك، وتتساهلي في الحشمة، وتتهاوني بالاختلاط، وتطالبي بما فيه الفتنة والضياع؛ فإنما بذلك تفتحي الثغور للأعداء ليفسدوا الأمة، ويخربوا أخلاقها، وتخسر الأمة عوامل عزتها وبقائها.
إنك بذلك تعلنين الولاء لأعداء دينك، (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة:51]، وما أظنك -وأنت الخائفة من ربها، والراغبة في جنته- أن تكوني كذلك، فاتقي الله واحذري أن يؤتى الإسلام من قبلك.
لقد استغل الأعداء صور الظلم الواقع على المرأة في مجتمعنا، فهناك من يكلفها فوق طاقتها ولا يرحم ضعفها، هناك الآباء القساة والأزواج الجهلة، هناك من يهملون المرأة ويهدرون حقوقها ويعضلونها ويستحلون مالها، وتلك الصور لا تمثل الإسلام وتعاليمه؛ وإنما هي نتاج للجهل بالدين، والبعد عن تشريعاته، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، والذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
يا أيتها الأخت المسلمة: تذكري أن التبرج والعري والتهتك وتجاوز حدود الله نتاجه مر وثماره مريرة: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [النساء:14]، "ونساء كاسيات عاريات... لا يدخلن الجنة"، فتذكري أن أجسامنا على النار لا تقوى، ومن يطيق -يا أختاه- الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والصراط وزلاته، ويوم القيامة وروعاته؛ إذا نحن تجاوزنا حدود الله؟!.
فورب السماء والأرض! إن من يدعونك اليوم للخروج عن شريعة ربك باسم الحرية ونيل الحقوق المهضومة وتحريك النصف المعطل، هم من يتبرأ منك يوم التغابن! (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) [البقرة:166].
إن أولئك الأدعياء لن يغنوا عنك من الله شيئا يوم الهول العظيم، فهل آن الأوان للمرأة المسلمة اليوم أن تتنبه لهذه المواقف فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق باسم الحرية والتمدن؛ حتى لا تحق عليها الحسرة الكبرى عندما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن؟.
يا نساء المسلمين: لن أجد لكن خيرا من وصية الله للنساء الأطهار زوجات النبي المختار، وهن من أذهب الله عنهن الرجس وطهرهن تطهيرا، فغيرهن بالخطاب أحرى وبالتوجيه أولى؛ فيا نساء المسلمين اتقين الله، فإن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما.
الله أكبر! الله أكبر!...
وبعد هذا يا مسلمون، ونحن نتفيأ ظلال هذا العيد المبارك فلنتذكر أن الله جعل لنا عيدين نحتفل بهما ونظهر الفرح والسرور ونمارس فيهما الترفيه المباح وفق ضوابط الشريعة وآدابها، وأنه لا يجوز للأمة استحداث أعياد أخرى مهما كانت مبرراتها وتنوعت أسماؤها، فلا عيد للأم ولا عيد لنهاية العام ولا عيد لمولد ولا عيد لوطن، "ومَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
ولنتذكر ونحن ننعم بالبهجة والسرور من حرموا منها ممن يعانون من الأمراض أو يقاسون الجوع ويصارعون الخوف، أو ممن يتوسدون الثرى في بطون الألحاد، فلنذكرهم بدعائنا ومشاعرنا.
ولنتذكر وقد ودعنا شهر المكارم والمغانم أن العبادة لا يحدها حد، ولا تقف عند زمان أو مكان، (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر:99]، و"اتق الله حيثما كنت"، واجعل الله عليك رقيبا.