المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | صلاة العيدين - الحكمة وتعليل أفعال الله |
جميع العبادات الدينية التي يتقرب المؤمنون بها إلى الله -جل وعلا- كلها جمالٌ وزينةٌ وبهاء في حياتهم وضياء ونور؛ فالصلاة جمال، والصيام جمال، وحج بيت الله الحرام جمال، وأداء الزكاة جمال، وجميع الطاعات الدينية والقرب كلها من الجمال، بل إنها أصل لابد منه وبناءٌ لا قيام للجمال إلا عليه، فإن الدين كله جمالٌ وبهاءٌ وحُسن، وقد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أحمده تبارك وتعالى بمحامده التي هو لها أهل، وأثني عليه الخير كله لا أحصي ثناءً عليه هو جل وعلا كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، إله الأوّلين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وخالقُ الخلق أجمعين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلّغ الناس شرعه، ما ترك خيرًا إلا دلَّ لأمة عليه، ولا شرًا إلا حذرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون -عباد الله-: اتقوا الله ربكم، وراقبوه في سركم وعلانيتكم مراقبة من يعلم أن ربه يسمعُه ويراه.
ثم أما بعد:
عباد الله: إن يومكم هذا يوم جمال وزينة، وعيدكم هذا عيد فرحة وسعادة؛ فهنأكم الله -عز وجل- بالعيد السعيد، وألبسكم فيه حُلل الإيمان، وزينة التقوى، وجمال المعتقد، وحُسن الإقبال على الله -جل وعلا-، وجعل أيامنا كلها فرحةً وسعادةً بالإيمان وطاعة الرحمن.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون: وإذا كان يومنا هذا يومَ جمال وزينة، فلنقف وقفةً مع الجمال في جوانبه المشرقة، ومجالاته العظيمة في ضوء قواعد الشريعة، وأدلتها المباركة، ولنتأمل في يوم الجمال هذا حديثًا عن الجمال؛ يرويه الإمام مسلم في صحيحه عن نبينا الكريم -عليه الصلاة والسلام- أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" فقَالَ رَجُلٌ: يا رسول الله إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ أي أيكون ذلك من الكبر؟ فقَالَ عليه الصلاة والسلام: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ؛ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ".
عباد الله: لنعش يومنا هذا وعيدنا هذا مع قول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ".
نعم -يا معاشر المؤمنين- إن ربنا -جل في علاه- جميلٌ، وهو جل في علاه يحب الجمال، فلنحب ربنا -جل في علاه- لجلاله وجماله وعظمته سبحانه، ولنعمل بالجمال الذي يحبه ربنا -جل في علاه-.
أيها المؤمنون: إن قول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ" يتضمن أصلين عظيمين وقاعدتين متينتين في هذا الباب العظيم: باب الجمال؛ أما أول الحديث فهو معرفة، وأما آخر الحديث فهو سلوك؛ فانتظم الحديث قاعدتين شريفتين في هذا الباب.
أما القاعدة الأولى: فهي أن نعرف ربنا -سبحانه وتعالى- بالجمال؛ فإن الله -عز وجل- جميلٌ في أسمائه وصفاته وأفعاله وذاته، فله تبارك وتعالى الأسماء الحسنى، وله جل وعلا الصفات العليا العظيمة، وله تبارك وتعالى الأفعال الحكيمة، وأما ذاته جل في علاه ففيها من عظيم الجمال ما لا يعلمه إلا ذو الجلال جل في علاه، وقد تعرَّف إلى عباده بشيء من أوصاف جلاله وجماله في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وكلما ازداد العبد معرفةً بالأسماء الحسنى والصفات العلا؛ ازداد بمعرفة صفات ذي الجلال والجمال جلَّ في علاه، وقد قال الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الأعراف: 180]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ".
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
وأما القاعدة الثانية التي انتظمها هذا الحديث فهي: قاعدةٌ تتعلق بالسلوك؛ وذلك في قول نبينا -عليه الصلاة والسلام- عن ربنا -جل في علاه- أنه يحب الجمال، فإذا كان الله -جل وعلا- يحب الجمال أي من عباده، فعلينا -يا معاشر المؤمنين- أن نتقرب إلى الله -عز وجل- بكل جميلٍ طيب يحبه ربنا -سبحانه-، وذلك في ضوء ما دلت عليه قواعد الشريعة وأدلة الكتاب والسنة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون: إنَّ أصل الجمال وأساسه الذي عليه يُبنى صحة العقيدة وسلامة الإيمان واستقامة القلب على صحة المعرفة بالله -جل وعلا- وإخلاص الدين له جل في علاه، ولهذا قال الله -تبارك وتعالى-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات: 7 - 8].
وفي دعاء نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-: "اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ"؛ فعُلم بذلك أن العقيدة الصحيحة والإيمان القويم هو أكمل الزينة وأتم الجمال، بل هو أساسها الذي عليه تُبنى وقاعدتها التي لا قيام للجمال إلا عليها، فمن عُدم العقيدة الصحيحة القويمة فقد فارق الجمال وباينه وإن تزين بأجمل الحلل وأبهاها.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون -عباد الله-: وجميع العبادات الدينية التي يتقرب المؤمنون بها إلى الله -جل وعلا- كلها جمالٌ وزينةٌ وبهاء في حياتهم وضياء ونور؛ فالصلاة جمال، والصيام جمال، وحج بيت الله الحرام جمال، وأداء الزكاة جمال، وجميع الطاعات الدينية والقرب كلها من الجمال، بل إنها أصل لابد منه وبناءٌ لا قيام للجمال إلا عليه، فإن الدين كله -يا معاشر المؤمنين- جمالٌ وبهاءٌ وحُسن، وقد قال نبينا -صلوات الله وسلامه عليه-: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ".
ولهذا -عباد الله- فإن من يحافظ على الصلاة المفروضة، ويؤدي الزكاة التي أوجب الله عليه، ويصوم شهره الذي افترض عليه ربه -جل في علاه-، فإنه يتقلب في جمال وإلى جمال وزينة، ولهذا قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "وَالصَّلَاةُ نُورٌ"، وقال: "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون: والأخلاق الإسلامية والآداب الدينية التي جاءت في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- كلها زينة للمرء وجمال؛ ولهذا نرى أن من يتحلى بالأخلاق يرى الناسُ فيه جمال خلقه وزينة أدبه، فيحبونه حبًا جما، لأخلاقه العظيمة، وآدابه الكريمة؛ فعُلم بذلك أن آداب الشريعة وأخلاقها كلها جمال وزينة، ومن دعاء نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "اللهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ".
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون -عباد الله-: وإذا كانت طاعة الله -جل في علاه-، وحُسن التقرب إليه بما أمر، جمالًا وزينة، فإن معصية الله -جل وعلا- قُبحٌ وشين وظلمة ووحشة -والعياذ بالله-؛ جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "إن للحسنة نورًا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة ظلمةً في القلب، وغبرة في الوجه، وضعفًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضة في قلوب الخلق"؛ فعُلم بذلك أن المعاصي والآثام كلها تنحى بالمرء إلى ضياع نفسه، وبُعده عن الجمال والزينة، فإنه لا جمال في معصية ذي الجلال والجمال سبحانه وتعالى.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
ولننظر -يا معاشر المؤمنين- إلى جمال الشريعة في هدايتها إلى سنن الفطرة التي تزين المرء وتجمله بأحسن الجمال؛ من نتف الإبط، وحلق العانة، وقص الشارب، وقلم الأظفار، إلى غير ذلك من سنن الفطرة المباركات التي هي جمال للمرء، جمَّل الله -سبحانه وتعالى- بها أمة الإسلام بأن هداهم إلى هذه السنن العظيمة من سنن الفطرة ليزدادوا بها حسنًا وجمالا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون -عباد الله-: ولنعي في هذا الباب باب الجمال والزينة أنه لا جمال مطلقًا فيما هو معصيةٌ لله -جل وعلا-؛ فكل ما دلت الشريعة على تحريمه والمنع منه، وتحذير العباد من فعله، فكله مباين للزينة، مفارق لها، وإن ظنه الإنسان من الجمال والزينة، قال الله -تعالى-: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا) [فاطر: 8]، وقال تعالى عن عدونا الشيطان: (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) [النساء: 119]، فكل تبديلٍ للخلقة، ومفارقةٍ للشريعة، ومباينة للفطرة، وطاعة للشيطان، ليس من الجمال في شيء، وإن ظنه الإنسان ضربًا من ضروب الجمال؛ لأن القاعدة في هذا الباب: "أنه لا جمال فيما هو معصية لله".
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون: وعندما يحافظ العبد على هذا الجمال بمعانيه المشرقة ومجالاته العظيمة من صحةٍ للاعتقاد، وحُسنٍ في العمل وجمال في التقرب والطاعة، ومباعدةٍ للمعصية، ومجانبة لها، يكرمه الله -تبارك وتعالى- في يوم القيامة دار الكرامة بأعظم الجمال، وأبهى الحُلل، وقد ورد في ذلك نصوصٌ متكاثرة، وأدلة متوافرة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) [الإنسان: 11 - 12].
فانظروا -يا معاشر المؤمنين- إلى هذه الأنواع الثلاثة من الجمال التي يكرمهم الله -تبارك وتعالى- بها في دار الكرامة؛ جمال في قلوبهم وهو السرور، وجمال في ظاهرهم وهو النضرة والحسن والبهاء، وجمال في لباسهم بإلباسهم الحرير، وقد كان محرما عليهم في الدنيا.
وقد جاء في الحديث في صحيح البخاري وغيره أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً".
فانظروا هذا الجمال لأهل الجنة وهم يدخلون الجنة وقد منَّ الله -عز وجل- عليهم في الحياة الدنيا بالمحافظة على الجمال، فكانوا في الجنة يدخلونها بالجمال ويترقَّون في درجاتها ورُتبها بالجمال، فلا يزالون في الجنة يزدادون حُسنا وجمالا.
وانظروا في هذا الباب إلى ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا".
فيا معاشر المؤمنين -يا عباد الله-: لنتقي الله -عز وجل-، ولنحافظ على الجمال بمعانيه الجميلة، وصوره المشرقة، ومجالاته الفسيحة، ولنبتعد عن طاعة الشيطان حيث حصر مفهوم الجمال لدى بعض الناس في التزين بالملابس الفاخرة، والحلل الباهية التي فيها مخالفة لشرع الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مع ترك في الوقت نفسه لمعاني الجمال العظيمة، وصوره المشرقة المتعددة.
جمَّلنا الله أجمعين بالجمال والحسن والبهاء، وزادنا في هذه الحياة الدنيا حُسنا وجمالا، وأكرمنا في دار كرامته بتمام الجمال وكماله وحسنه بمنه وكرمه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيها المؤمنون -عباد الله-: ولنتذكر دوما أن هذه الحياة دار معبر للآخرة، وأن الجزاء والحساب يوم القيامة؛ ففي ذلك اليوم يوفى العامل عمله؛ فمن أحسن في جماله وحسنه وبهائه طاعةً لله أحسن الله إليه، ومن أساء فإن عقاب الله شديد: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم: 31].
اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم جمِّل قلوبنا بالتقوى وسرائرنا بالإيمان وأعمالنا بالطاعة، وجمِّلنا يا ربنا بحسن الأخلاق والآداب، وأعِذنا من المعاصي التي لا تزيد المرء إلا قبحا وشينا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-؛ فإن في تقوى الله -جل وعلا- خَلفًا من كل شيء وليس من تقوى الله خلَف.
عباد الله: وإذا كنا في هذه المناسبة وفي هذا الموقف الكريم حديثنا عن الجمال في مجالاته العظيمة، وجوانبه المشرقة، فلنقف وقفة -عباد الله- مع الجمال الذي كنا نراه ونشاهده في أيام رمضان المباركات وفي لياليه العظيمات من حُسن إقبال على الله وطاعة وتقرب، فوالله ثم والله إنك إذا نظرت إلى أهل الإيمان في دور الإيمان ذكرًا لله وتلاوةً للقرآن، وأداءً للصلاة، ومحافظةً على طاعة الله، وأداءً للواجبات والسنن والمستحبات، فإنك -والله- ترى الجمال بأبهى صوره، وأتم حُلله، وإنك لتحمد الله أن منَّ الله -جل وعلا- على عباده المؤمنين بهذا الجمال المشرق والبهاء العظيم، والزينة العظيمة زينة الإيمان.
نسأل الله -عز وجل- أن يحفظ علينا إيماننا وزينتنا وجمالنا وأمننا وإيماننا، وأن يوفقنا لكل خير إنه سميع قريب مجيب.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله: ولابد من وقفة هنا مع حادثةٍ مفجعة وواقعةٍ عظيمة حصلت قبل يومين في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فبينما أهل الإيمان في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك الجمال العظيم والزينة المشرقة طاعةً لله، وبينما هم على مائدة الإفطار، فإذا بهم يسمعون دويًّا عظيمًا مفجعا، حتى إن كل مفطِر كان في مسجد رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه- أهاله ذلك الأمر، وعظُم في قلبه هذا الخطب، وأفزعه هذا الحادث الجلل، فماذا كان -عباد الله-؟! إنه واحد من أولئك الذين فُتنوا -والعياذ بالله- بفكر الخوارج الذي لا نعلم في الأفكار المنتمية للإسلام فكرًا أقبح منه، ولا أشين منه، ولا أجرأ منه، على الدماء المسلمة المعصومة، فإن شأنهم كما وصف نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ".
ألم يقم في قلب هؤلاء المجرمين العتاة المعتدين؟ ألم يقم في قلوبهم حرمة بلد رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه-؟! ألم يقم في قلوبهم حرمة الزمان زمن رمضان الشريف المبارك؟! ألم يقم في نفوسهم حرمة الصيام ومكانة الصائمين وحسن طاعتهم وإقبالهم على الله -جل في علاه-؟! وللصائم عند فطره دعوة مستجابة؛ فيقومون بهذا العمل الإجرامي الشنيع في تلك اللحظات وفي ذلك الوقت وفي ذلك المكان إلى قرب مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-! وقد صح في مسند الإمام أحمد عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا" وأي إخافة أعظم من تلك الجريمة البشعة الشنيعة التي قام بها ذلك المجرم الباغ.
وجاء في الصحيح عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ" وأتلمَّح في هذا الحديث بشارةً عظيمة ألا وهي: أن هذه الحادثة بإذن الله -جل وعلا- هي قطعٌ لدابرهم ونهايةٌ لأمرهم، وأنهم بإذن الله -عز وجل- لا يبقى لهم باقية؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ"؛ فإن شاء الله -تعالى- أن هذه الحادثة تكون نهايةً لهؤلاء المجرمين.
نسأل الله -عز وجل- أن يقطع دابرهم، نسأل الله -جل وعلا- أن يقطع دابرهم، وأن يعيذ المسلمين شرهم، وأن يكفينا إياهم بما يشاء، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء، وأن يجعل تدبيرهم تدميرًا عليهم بمنِّه وحوله وكرمه.
ولا ننس إخواننا الجنود الذين أكرمهم الله -عز وجل- في تلك الساعات بالشهادة في سبيله -نحسبهم كذلك والله حسيبهم- فهم جنود في خدمة الإسلام وخدمة المسلمين ورعاية شؤون الحرمين، والوقوف إلى جنب مسجد رسول الله، حفظًا للأمن، ومراعاة لترتيب الحجاج والزوار والمعتمرين وتنظيمهم، فهم في مهنةٍ شريفة، وعملٍ عظيم فاضل، وفي ساعات إفطار وتقرب إلى الله -عز وجل-؛ فنسأل الله -عز وجل- أن يتقبل موتاهم شهداء عنده، وأن يُعلي قدرهم، وأن يُعظم أجرهم، وأن يخلُفنا وأهلهم بخير خلف بمنِّه وكرمه سبحانه وتعالى، وأن يشفي المرضى والمصابين بمنِّه وكرمه، وأن يقطع دابر المفسدين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أيتها المرأة المسلمة يا من جمَّلكِ الله بالإيمان وزينك بالتقوى وحلاك بالصلاة والصيام: حافظي على هذا الجمال والزينة، واتقي الله -تعالى- واحذري من جمال مدَّعى، وزينة متوهمة؛ فيها مخالفة لشرع الله -تبارك وتعالى-، فإن كل مخالفة لشرع الله فإنها مفارِقة للجمال والزينة، واحذري رعاكِ الله من دعاة الشر والرذيلة ودعاة الفتنة أن يحرفوك عن سواء السبيل وعن صراط الله المستقيم، فللمرأة أن تتزين وتتجمل ولكن في حدود الشريعة وفي ضوء قواعدها المعلومة، وفي كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- نصوص محكمة وأدلة بيِّنة يجب على المرأة أن تقف عليها وأن تكون حالها في تجملها وزينتها في ضوء تلك النصوص وعلى ضوء قواعد الشريعة وضوابطها المعلومة؛ ليبقى جمالها عن دين، وزينتها عن طاعة، وحِليتها عن حُسن تقرب لله -جل في علاه-.
نسأل الله -عز وجل- أن يحفظ نساءنا وبناتنا، وأن يجمِّلهن بالتقوى، وأن يزينهن بالإيمان، وأن يحليهن بطاعة الرحمن، وأن يعيذهن من الشرور، وأن يباعد بينهن وبين الفساد، وأن يرزقهن العفة والحشمة بمنِّه وكرمه، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء وهو أهل الرجاء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
أعاد الله علينا أجمعين هذا العيد السعيد أعوامًا عديدة، وأزمنة مديدة، على حسن طاعة وعمل، وحُسن تقرب إلى الله -جل وعلا-، وحفظ علينا في أوطاننا وجميع أوطان المسلمين أمننا وإيماننا وإسلامنا وسلامنا، وهدانا إليه صراطا مستقيما.
وصلُّوا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكر وعمر وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصراً ومُعينا وحافظاً ومؤيدا، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، وأعِنه على طاعتك ورضاك، اللهم وفقه ونائبيه لما فيه عز الإسلام والمسلمين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا وسدّدنا، اللهم أعنا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا.
اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين، اللهم تقبَّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.