الرحيم
كلمة (الرحيم) في اللغة صيغة مبالغة من الرحمة على وزن (فعيل) وهي...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - أهل السنة والجماعة |
عندما نتأمل في سيَر السلف -رضي الله عنهم ورحمهم- وما كانوا عليه من هديٍ عظيم وإيمان قويم وحُسن صلة بالله -جلَّ في علاه- نرى في الوقت نفسه خوفًا شديدًا قام في قلوبهم على إيمانهم ودينهم من أن تتبدَّل القلوب أو يتغير الإيمان أو يتحوَّل الحال إلى النفاق. نعم عباد الله! مع كمال إيمانهم وقوة دينهم كانوا يخافون من النفاق خوفًا شديدًا، وقد جاءت نقولٌ متكاثرة في كتب الحديث والسيَر شاهدة لذلك دالة عليه: قال عبد الله بن أبي مليكة -رحمه الله-: «أدركت ثلاثين صحابيًا كلهم كان يخاف النفاق على نفسه».
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله جل في علاه، وراقبوه مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه؛ فإن تقوى الله -عز وجل- فيها سعادة المرء وفلاحه في دنياه وأخراه.
أيها المؤمنون: لقد وصف الله -جل وعلا- المؤمنين الكمَّل من عباده بصفاتٍ عديدة دالةٍ على كمال دينهم وقوة إيمانهم وحُسن معرفتهم بربهم وتمام محافظتهم على الإيمان في سورة من كتاب الله -عز وجل- اسمها «المؤمنون»، قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57- 61].
ألا ما أعظمها من نعوت وما أجلَّها من صفاتٍ نعتهم الله بها، فذكرها حليةً لهم وزينةً وجمالا فأوجبت تمام دينهم وكمال إيمانهم.
ومن هذه الصفات: خشيتهم من الله وذلك لحُسن معرفتهم به -جلَّ في علاه-، ومنها وجَلُهم وخوفهم على إيمانهم لأنه أثمن شيء يملكونه وأغلاه وأعلاه، فكان خوفهم على الإيمان أشد من الخوف على أي شيء آخر لعظم مكانة الإيمان في قلوبهم.
وقد جمع الله لهم حُسن الإيمان والعمل مع الخوف والوجل من أن لا يُقبل الإيمان أو أن يُردَّ العمل؛ وهذه حال المؤمن كامل الإيمان كما قال الحسن البصري رحمه الله: «إن المؤمن جمع بين إحسان ومخافة، وإن المنافق جمع بين إساءة وأمن».
أيها المؤمنون: عندما نتأمل في سيَر السلف -رضي الله عنهم ورحمهم- وما كانوا عليه من هديٍ عظيم وإيمان قويم وحُسن صلة بالله -جلَّ في علاه- نرى في الوقت نفسه خوفًا شديدًا قام في قلوبهم على إيمانهم ودينهم من أن تتبدَّل القلوب أو يتغير الإيمان أو يتحوَّل الحال إلى النفاق.
نعم عباد الله! مع كمال إيمانهم وقوة دينهم كانوا يخافون من النفاق خوفًا شديدًا، وقد جاءت نقولٌ متكاثرة في كتب الحديث والسيَر شاهدة لذلك دالة عليه:
قال عبد الله بن أبي مليكة -رحمه الله-: «أدركت ثلاثين صحابيًا كلهم كان يخاف النفاق على نفسه».
وجاء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وهو من هو في الإيمان والدين- أنه أتى حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- وقال: «أنشدك بالله هل سمَّاني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ -يعني في المنافقين- قال: «لا، ولا أزكي بعدك أحدًا».
وجاء عن جبير بن نُفير وهو من علماء التابعين -رحمه الله تعالى- قال: أتيت أبا الدرداء وكان يصلي، فلما كان في آخر صلاته بعد التشهد وقبل أن يسلِّم سمعته يتعوذ بالله من النفاق ويُكثر من ذلك فقلت له: «وما لك يا أبا الدرداء أنت والنفاق!!» أي مكانتك عظيمة وأنت صحابي جليل، فقال -رضي الله عنه-: «دعنا عنك فوالله إن الرجل ليتقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيُخلع منه إيمانه».
وجاء عن الحسن البصري -رحمه الله تعالى- أنه قيل له: إن ناسًا يقولون "لا نفاق"، فقال -رحمه الله تعالى-: «لأن أعلم أني بريء من النفاق أحبّ إلي من طلائع الأرض ذهبا».
وقال -رحمه الله تعالى-: «والله ما أصبحَ ولا أمسى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه».
وقال -رحمه الله تعالى-: «ما خافه -أي النفاق- إلا مؤمن ولا أمِنَه إلا منافق».
وقيل له -رحمه الله تعالى- أتخاف النفاق؟ فقال رحمه الله: «وما يؤمنني وقد خافه عمر بن الخطاب رضي الله عنه».
وقال معاوية بن قرة -رحمه الله تعالى-: «لأن أكون ليس فيَّ شيء من النفاق أحب إليَّ من الدنيا وما فيها، كان عمر يخشاه ولا أخشاه أنا!!».
فهذه نَبَذٌ يسيرة من سيرة القوم -رحمهم الله ورضي عنهم-، فهم مع كمال إيمانهم وتمام عبادتهم وحُسن صلتهم بالله -جل في علاه- يخافون من النفاق خوفًا شديدا، بخلاف -عباد الله- من كان مضيعًا مفرطا متهاونا متكاسلا غير مبالٍ بأمور الإيمان وأعماله وخصاله ثم هو في الوقت نفسه يرى أنه في سلامة تامةٍ من النفاق وأن إيمانه لم يحصل له ما يثلُمه أو يُنقصه.
وعندما نتأمل في النصوص الواردة في علامات النفاق وصفات المنافقين؛ كقول الله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ)[النساء:142-143].
وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ؛ وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ".
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ؛ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا"؛ فذكر من صفته تأخير الصلاة عن وقتها، والإتيان بها نقرا، وقلة ذكر الله له فيها.
وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ".
وعن بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَكِرُّ فِي هَذِهِ مَرَّةً وَفِي هَذِهِ مَرَّةً". روى هذه الأحاديث الأربعة مسلم في صحيحه.
عباد الله: ومن يطالع هذه النصوص المشتملة على صفات المنافقين وغيرها مما ورد في هذا الباب يجد أن في الناس من يكون متصفًا بهذه الصفات أو ببعضها أو بكثيرٍ منها أو بها وبزيادةٍ عليها وهو في الوقت نفسه يرى أنه في سلامةٍ تامةٍ من النفاق وأن إيمانه لا نقص فيه ولا ثلْم.
أيها المؤمنون: شتَّان بين حال المؤمنين الكمَّل وبين من ضيَّعوا إيمانهم؛ إن المؤمن جمع بين إحسانٍ ومخافة والمنافق جمع بين إساءة وأمن.
نسأل الله العلي العظيم أن يعيذنا من النفاق، نسأل الله العلي العظيم أن يعيذنا من النفاق، نسأل الله العلي العظيم أن يعيذنا من النفاق.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد عباد الله: اتقوا الله تعالى وتزودوا لِلقائه بتقواه؛ فإنها خير زادٍ يبلِّغ إلى رضوانه -جل في علاه-.
أيها المؤمنون: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"، وينبغي أن يُعلم أن ليلة النصف من شعبان لم يثبت عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- حديث صحيح في تخصيص ليلتها بعبادة أو يومها بصيام، ومن شرط قبول العمل موافقة هدي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. ونسأل الله -عز وجل- أن يجعل أعمالنا كلها له خالصة، ولسنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- موافقة.
واعلموا - رعاكم الله - أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هُدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة.
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنـِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيدا، اللهم انصر واحفظ جنودنا في حدود البلاد، أيِّدهم بتأييدك يا حي يا قيوم.
اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نعوذ بك من النفاق والشقاق وسيء الأخلاق. ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.