المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | فيصل بن عبد الرحمن الشدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
كم أسهرت من ليال! وخطرت بصاحبها أخطار الفعالِ! ولكم أودت بحياة إلى الزوالِ! كدرت سرورا، وحملها الإنسان أميراً ومأمورًا، دقائقها ساعات ولياليها شهورا وأعواما، شابت منها رؤوس، وصالت وجالت فيها نفوس، ضيقت واسعا، وصيرت...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، خلق الخلائق وقدر أقواتها، وقسم أرزاقها، وحدد آجالها، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الحق واليقين، إيماناً بحقيقتها، وعملاً بمقتضياتها.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق، باتباعه تبلغ النفوس مناها في آخرتها ودنياها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه خير الأمة وأزكاها، وأبرها وأتقاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد:
فهي حديث نفس، وشغل قلب، وحرقة صدر، كم أسهرت من ليال، وخطرت بصاحبها أخطار الفعالِ، ولكم أودت بحياة إلى الزوالِ.
كدرت سرورا، وحملها الإنسان أميراً ومأمورًا، دقائقها ساعات ولياليها شهورا وأعواما، شابت منها رؤوس، وصالت وجالت فيها نفوس، ضيقت واسعا، وصيرت امرءًا جازعا، يبحث الليال ذوات العدد منها دافعا.
عاشت مع الأمير في قصره، ومع السجين في أسره، ومع الفقير في فقره، ألا إنها الهمُّوم، ألا إنها الهموم.
نعم، الهم الذي هو شعورٌ يعتري المرء فيودِع في نفسه الحزنَ والاضطرابَ واليأس ليزاحم الأنسَ والاستقرار والفأل؛ فلا يهنأ حينَها بنوم ولا يلذّ بطعام ولا يسيغ شرابًا.
نعم، إنّه الهمّ الذي يشعِر المرءَ بأن النهار لن يدركَ الليل، وأنّ الليل لن يعقُبه نهار، ويا للهِ ما أطول الليلَ على من لم ينم!
ومَن منّا يا ترى الذي عاش عمرَه كلَّه بلا همٍّ، أو لم يصبه دخانُ الهمّ وغباره إلا من شاء الله؛ مهموم بمنصبه يخشى فقده، ومهموم برزقه يطلب فيه فلاحا، ومهموم باختباراته يسعى فيها نجاحا، ومهموم بمرضه يرجو شفاءه، ومهموم بماله يبحث نماءه، ومهموم بولده حمله ووضعه وضعفه ومرضه وشبابه ورزقه وزواجه.
جبلت على كدر وكنت تظنها | صفواً من الأقدار والأكدار |
هي الدنيا بطبعها ووقعها، مهما حلت حلاوتها، وزانت زينتها، إلا أن الهم ديدنها والحزن شأنها ولذا كان من أجل محامد أهل الجنة يوم أن يدخلوها أن يقولوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 34 - 35].
إنَّ الكثيرين في الواقِع يتبرَّمون من المهمات التي تغشاهم والمدلهِمّات التي تعترض دنياهم، وربك أعلم، وربك أحكم، وربك أرحم، يوم أن قدرها، وعلى عبده سيّرها، فكم بها من سيئات كفرها، وحسنات أظهرها، يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المؤمن من وَصَب ولا نَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن، حتى الْهَمّ يُهَمَّه إلا كُفِّرَ به من سيئاته" [رواه البخاري ومسلم].
كم هم وغم أنجز عملا، وسد خللا، وأخرج رجلا، ولرُبَّ ضارةٍ نافعة، وربما صحت الأجسامُ بالعلَل، وربَّ محنةٍ في طيّها منحة، وكم بسمَة كانت بعد غصّة، وربّ فرحةٍ بعد ترحة؟
وإنّ الحوادث والخطوبَ وإن شرّقت وغرّبت، فلن ينالك منها -أيها المرء- إلا ما كُتب لك، ولن يُصرف عنك منها إلا ما كتِب أن يصرَف عنك، فعلام الهم إذن أيها المرء؟! ألا تدري أنَّ عواقب الأمور تتشابَه في الغيوب؟! فرُبّ محبوب في مكروه، ورُبّ خير من شرّ: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
قال عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-:
أيّ يوميَّ منَ المرءِ أفِرّ | يومَ لا يُقدَر أو يومَ قُدِر |
يومَ لا يقدرُ لا أحذَرُه | ومِن المقدُورِ لا ينجُو الحذِر |
فعلام الهمّ إذن -عباد الله-؟!
مرَّ إبراهيم بنُ أدهم على رجلٍ مهموم فقال له: إني سائلُك عن ثلاث فأجِبني؟ قال: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟ أوَ ينقص من رزقِك شيءٌ قدَّره الله؟ أوَ ينقص من أجَلك لحظة كتَبها الله؟ فقال الرجل: لا، قال إبراهيم: فعلام الهم إذن؟!
عبادَ الله: إنَّ الهمَّ جندٌ من جنودِ الله يبتلي به عباده لينظر ما يعمَلون، وهو وإن كان شعورًا وليس مادّة إلا أنه أشدّ أثرًا من المؤذِيات المادية، ويؤكّد ذلك ما ذكره علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حينما سئل: من أشدّ جند الله؟ فقال: الجبال، والجبال يقطعها الحديد فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد فالنار أقوى، والماء يطفئ النار فالماء أقوى، والسّحاب يحمِل الماء فالسحاب أقوى، والريح تعبَث بالسحاب فالريح أقوى، والإنسان يتكفَّأ الريح بيدِه وثوبه فالإنسان أقوى، والنومُ يغلِب الإنسان فالنوم أقوى، والهمّ يغلِب النومَ، فأقوى جندِ الله هو الهمّ يسلِّطه الله على من يشاء من عباده، ولقد صدق الله: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) [الأنعام: 125].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلامُ على من لا نبيَّ بعده.
وبعد:
الراحم الكريم قدر الهموم وقدر أفراجها، وقدر المغاليق وقدر خراجها، وربك غني عن هم به يهمك، أو غم به يغمك، وإنما هي حكمة الحكيم -سبحانه- لتعود النفوس، وتتبدد الذنوب، وتتعلق به القلوب.
يا صاحب الهم إن الهم منفرج | أبشر بخير فإن الفارِج الله |
اليأس يَقْطَع أحيانا بصاحِبِه | لا تيأسَنّ فإن الكافي الله |
الله يحدث بعد العُسْر مَيسرة | لا تجزعنّ فإن الصَّانِع الله |
وإذا بُلِيتَ فَثِقْ بالله وارضَ به | إن الذي يَكْشِف البلوى هو الله |
والله ما لَك غير اللهِ مِن أحَدٍ | فَحَسْبُك الله في كلٍّ لكَ الله |
وما للمهموم -والله- إلا دعاء واضطرار، وتذلل وافتقار، وبراءة من الحول والطول إلى الواحد القهار، وربي إنه يحب منك ذلك، ولربما أخر تفريج الهم، لمزيد تضرع وتخشع منك يريده ليجزيك فرج الدنيا وفوز الآخرة.
دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجدَ ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!" قال: همومٌ لزِمتني، وديون يا رسولَ الله؟ قال: "أفلا أعلِّمك كلامًا إذا قلتَه أذهبَ الله همَّك وقضى عنك دينك؟" قال: بلى يا رسولَ الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العَجز والكسَل، وأعوذ بك من الجبن والبُخل، وأعوذ بك من غلَبةِ الدين وقهرِ الرجال" قال أبو أمامة: "ففعلتُ ذلك، فأذهب الله همّي وقضى عني ديني" [رواه أبو داود].
حبيبكم صلى الله عليه وسلم ما ترك الدعاء والرجاء في الصباح والمساء، كان يقول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قال إذا أصبحَ وإذا أمْسى: حَسبِي الله لا إلَه إلا هو عليه توكلتُ وهو ربُّ العرشِ العظيم" سبع مرات كفاه الله ما أهمّه [رواه أبو داود].
وعليك -أيّها المهموم- أن ترطِّب لسانَك بذكرِ الله؛ لتخرجَ من عنق الزجاجة إلى الفضاءِ والسّعة، وإنّ زوال الهمّ مرهون بكثرةِ الاستغفار ولزومِه كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ ضيقٍ مخرجَا، ومنْ كلِّ همٍّ فرَجا، ورزقَه من حيث لا يحتسب" [رواه أبو داود والنسائي].
شكا الناس كثيرا للبشر، وذلّوا للبشر، وبثوا همومهم للبشر، وأملوا آمالهم في البشر، وعلقوا قلوبهم بالبشر، ونسوا رب البشر، فما ازداد الهم إلا هما، ولا الغم إلا غما، أغلق البشر أبوابهم، وباب رب البشر مفتوح، وبخل البشر بعطائهم البخس، وعطاء واسع العطايا يغدو ويروح، ألا فأين المهمومون عن بابه؟ واللوذ بجنابه؟ والوقوف على أعتابه؟
عبادَ الله: ذاك دعاؤه، وذلك ذكره -سبحانه-، فإليك ذكر أحب خلقه إليه صلى الله عليه وسلم فيه -والله- كفاية الهمّ؛ وذهاب الغم، جاء رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن جعلتُ صلاتي كلّها عليك -أي: أصرف بصلاتي عليك جميعَ الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي-، قال صلى الله عليه وسلم: "إذن يكفيك الله -تبارك وتعالى- ما أهمّك من دنياك وآخرتك" [رواه أحمد وحسنه الألباني].
بأبي وأمي أنت يا خير الورى | وصلاةُ ربي والسلامُ معطرا |
يا خاتمَ الرسل الكرام محمدٌ | بالوحي والقرآن كنتَ مطهرا |
صلى عليه اللهُ في ملكوته | ما قام عبدٌ في الصلاة وكبّرا |
بدد همومك -يا مهموم- بآياته، بعظاته، هي مفزع إمامك صلى الله عليه وسلم، فلا تَغْفَل عن القرآن، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أصاب أحداً قط هَمٌّ ولا حُزن، فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمَتِك، ناصيتي بِيَدِك، ماضٍ فيّ حُكمك، عَدْلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله هَمّه وحزنه، وأبدله مكانه فرجا، فقيل: يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" [رواه الإمام أحمد وصححه الألباني].
قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه -سبحانه- حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه، حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره، فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته، بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته، قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف: 36].
هذا، وصلّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية، محمّد بن عبد الله.