الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحياة الآخرة |
ومصيبة كثير منا هي التأثر الوقتي المحدود، بل إن الران على القلوب قد منع التأثر بالمواعظ، فعند القبور وعند اللحد قد تجد الضحك والدخان، والهواتف ومتابعة التجارات، وأحوال السندات والأوراق، وَرُبمَا يكون منا من يَهْتَز عِنْد رُؤْيَة الْجِنَازَة، ويرتاع عِنْد مشاهدتها، ثمَّ لَا يلبث أَن يعود إِلَى حَاله ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الغني الصبور الشكور، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله القائل: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه، الذين صانوا أنفسهم عن فتنة الدنيا وغرورها فأعزهم الله وأعلى ذكرهم في العالمين.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوه، وأحثكم على مراقبته فإنكم ملاقوه، واحذروه كما حذركم نفسه في الكتاب، واذكروه كما أمركم يا أولي الألباب، واستغفروه فإنه غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، واشكروه فكم أفاض عليكم من جزيل نعمه، وإياكم والمعاصي، فإنها مفاتح غضب الله ونقمه، ولا تشغلنكم دنياكم عن أداء المسنون والمفروض، ولا تغرنكم فإنها لا تساوي عند الله جناح بعوض. كيف يغتر بها، ويطمئن إليها من تنصرم أيامه ولياليه؟ أم كيف يطيب فيها عيش من لا يدري متى الموت والله مفاجيه.
عباد الله: قال الله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]، إن الموت كأسٌ لا بد من شربه، وإن طال الزمن لا ديمومة إلا لله وحده.
والابتلاء سنة ملازمة للحياة الدنيا، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يفتن عباده بما به يتميز الخبيث من الطيب، كما قال -سبحانه-: (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آلعمران:179].
عباد الله: يروى عن الحسن البصري -رحمه الله- أنه دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه، وشدة ما نزل به، فرجع إلى أهله، بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له: الطعام- يرحمك الله- فقال: "يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم، فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه".
أيها الإخوة: إن مشاهدة الموتى والنظر إلى شدة الموت ومشاهدة سكراته ونزعاته، وتأمل صورة الميت بعد مماته، وحضور الجنائز والوقوف على القبور ودخولها، ما يقطع عن النفوس لذاتها، ويطرد عن القلوب مسراتها، ويمنع الأجفان من النوم، والأبدان من الراحة، ويبعث على العمل، ويزيد في الاجتهاد والتعب، فينبغي لمن قسا قلبه، وكثر ذنبه أن يستعين بتذكر ذلك ويتأمله ويتفكر في هجوم الموت عليه، لعله يتوب ويحسن الاستعداد للقدوم على الله.
يا عبد الله: اعْلَم -رحمك الله- أَن في الجنائز عبرة للمعتبرين، وفكرة للمتفكرين، وتنبيهًا للغافلين، وإيقاظًا للنائمين، بينما الإنسان في قيام وقعود، ونزول وصعود، وخذ هذا ودع هذا، وابن هذا، واهدم هذا، وقد كان وما كان، وأين ذهب فلان ومن أين جاء فلان، إذ جاءه أَمر إلهي، وحادث سماوي، وحكم رباني، فسكَّن حركته، وأطفأ شعلته، وأذهب نضرته، وتركه كالخشبة الملقاة، والحجر المرمي، إن صِيحَ به لم يسمع، وإن دعِي لم يجب، وإن قطِّع أو أحرق لم يتكلم، إن ربك على ما يشاء قدير.
أيها الإخوة: إن حب الدُّنْيَا والميل إليها والاطمئنان بها حجاب الْهوى الَّذِي غطى الْقُلُوب وأعشى البصائر، يمْنَع الفكرة فِي الْجَنَائِز وَالِاعْتِبَار بهَا، فَصَارَت لَا تزيد رؤيتها إِلَّا غَفلَة، وَلَا مشاهدتها إِلَّا قسوة، حَتَّى كَأَن الْمَيِّت إِنَّمَا هُوَ نَائِم يَسْتَيْقِظ بعد سَاعَة، ويهب عَن قريب، أَو كَأَن الَّذِي يَرَاهَا لَا يكون مثلهَا، وَلَا يدْخل مدخلها، وَكَأن ذَلِك الْمَيِّت نزل بِهِ ملك الْمَوْت وَحده، وإياه قصد خَاصَّة.
أيها الإخوة: وفي حضور الموتى عظة، فكل إِنْسَان يوقن أَنه سيموت كَمَا مَاتَ هذا الميت، وتشيع جنَازَته كَمَا شيعت جَنَازَة هَذَا، وَرُبمَا مَاتَ بِحَيْثُ لَا تُشيع جنَازَته وَلَا توارى لَهُ جثة، وَلَكِن لَا يَظنّ ذَلِك عَن قريب، وَلَا يحْسب أَنه مِنْهُ غير بعيد، قد فسح لنَفسِهِ فِي الْمدَّة، وَمد لَهَا فِي المهلة، وَحكم أَنه لَا يَمُوت إِلَّا بعد سِنِين، وَإِن قَالَ رُبمَا أَمُوت الْيَوْم أَو غَدا فَقَوْل ضَعِيف، لَا يَتَحَرَّك مِنْهُ بِسَبَبِهِ سَاكن، وَلَا يظْهر عَلَيْهِ مِنْهُ أثر نَازل؛ لِأَنَّهُ عِنْد رُؤْيَة الْجِنَازَة كَمَا كَانَ قبل أَن يَرَاهَا، وَرُبمَا يحدث بحَديثه الَّذِي كَانَ يتحدث وَالْمَيِّت يدْفن، أَو هُوَ وَرَاءه يشيعه إِلَى قَبره، وَإِن جَاءَهُ ضحك، وَإِن حَضَره نَادِر من لَغْو الْكَلَام تكلم بِهِ، وأودعه صَحِيفَته، وَبعث بِهِ إِلَى ربه، وقلما يبكى على الْجِنَازَة إِلَّا أَهلهَا، تألمًا لفراقها، لَا لنَفس الْمَوْت؛ كبكاء الصَّبِي وَالْمَرْأَة اللَّذين لَا يعقلان وَلَا يعلمَانِ، وَلَو كَانُوا يعلمُونَ لَكَانَ بكاؤهم على أنفسهم لَا على ميتهم؛ لِأَن ميتهم قد مَاتَ، وهم ينتظرون الْمَوْت.
واعْلموا -رحمني الله وإياكم- أَن طول الأمل دَاء عضال، وَمرض مزمن، وَمَتى تمكن من الْقلب فسد مزاجه، وَاشْتَدَّ سقمه، وَلم يُفَارِقهُ دَاء، وَلَا نجع فِيهِ دَوَاء، بل أعيا الْأَطِبَّاء، ويئس من برئه الْحُكَمَاء وَالْعُلَمَاء. وقد وردت كثير من النصوص الشرعية تحذر من طول الأمل، قَالَ الله تَعَالَى: (ذرهم يَأْكُلُوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فَسَوف يعلمُونَ) [الحجر:3]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل" [البخاري (6420)].
وفي صورة تقريبية بديعة رسم النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على الأرض رسمًا يعلمهم به ويشرح لهم خطورة طول الأمل في صورة محسوسة؛ فعَن عبد الله بن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ- قال: خط لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًّا مربعًا، وخطاً وسط الخط المربع، وخطوطًا إلى جانب الخط الذي وسط الخط المربع، وخطًّا خارجًا من الخط المربع، فقال: "أتدرون ما هذا"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط إلى جنبه الأعراض تنهشه، أو تنهسه من كل مكان، فإن أخطأه هذا أصابه هذا، والخط المربع الأجل المحيط، والخط الخارج الأمل" [ البخاري:6417]، يُرِيد -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام- أَن الْإِنْسَان قد أحَاط بِهِ أَجله، وَأَنه دائر بِهِ فَحَيْثُمَا توجه لقِيه، وَأَن فتن الدُّنْيَا ومحنها تعترضه، وتنهشه، وتتلقاه، وتستقبله، وَهُوَ مَعَ ذَلِك بعيد الأمل، مَصْرُوف النّظر إِلَيْهِ.
وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن طول الأمل سبب لهلاك الأمم؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "صَلاَحُ أَوَّل هَذِهِ الأَمَّةِ باِلزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَيَهلِكُ آخِرُهَا باِلْبُخلِ وَالأَمَلِ" [الطبراني في الأوسط:7650، والزهد لأحمد:1/10 وحسنه الألباني].
وفي صورة عجيبة نبّه النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى قِصَر الأمل، فعَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَنه قَالَ: بَيْنَمَا نَحن نصلح خُصًّا لنا إِذْ مر بِنَا رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "مَا هَذَا؟" فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله قد وهى؛ فَنحْن نصلحه، فَقَالَ: "مَا أرى الْأَمر إِلَّا أعجل من ذَلِك" [رواه أبو داود:5236، وصححه الألباني] وسبحان الله فالخُصّ عبارة عن بَيت من قصب. فيُرِيد -عَلَيْهِ السَّلَام- تَعْجِيل الْأَمر وتقريبه، وَخَوف بغتته، والحذر من فجأته؛ لا أنه يحرّم ذلك.
عباد الله: إن الْجِنَازَة تمر بالإنسان وَلَا يدْرِي حَالهَا، وَلَا يتَبَيَّن حَقِيقَة مصيرها، وَإِنَّمَا يُرْجَى لَهَا بِحَسب مَا ظهر مِنْهَا من الطَّاعَات، وَيخَاف عَلَيْهَا بِحَسب مَا بدا مِنْهَا من المخالفات، وَإِن لَهَا كلَامًا لَو سَمعه الْإِنْسَان لَانصدع لَهُ حجاب قلبه، وشغله عَن بنيه وَأَهله، بل أذهله عَن النّظر فِي خَاصَّة نَفسه.
ويصور لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أحوال الجنائز في صورة حسية، فالجنازة تتكلم، ولكن هيهات من ينتبه لحديثها، فهي مع القبور من أبلغ الدعاة الصامتين؛ فعن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ: رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِذا وُضعت الْجِنَازَة فاحتملها الرِّجَال على أَعْنَاقهم، فَإِن كَانَت صَالِحَة، قَالَت: قدموني قدموني، وَإِن كَانَت غير صَالِحَة، قَالَت: يَا ويلها! أَيْن يذهبون بها؟ يسمع صَوتهَا كل شَيْء إِلَّا الْإِنْسَان، وَلَو سَمعهَا الْإِنْسَان لصعق" [البخاري (1380)].
أيها الإخوة: والمرتحلون من هذه الحياة ميتان؛ فميت يستريح من تَعب هَذِه الدَّار، ويُفضي إِلَى رَاحَة دَار الْقَرار، وميت يستريح مِنْهُ الْبِلَاد والعباد، ويُفضي إِلَى سوء الْمصير وَبئسَ المهاد، ذكر أَبُو قَتَادَة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُرّ عليه بجنازة، فقال: "مستريح ومستراح منه"، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: "العبد المؤمن يستريح من نَصَب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد، والشجر والدواب"، وفي رواية عن يحيى بن سعيد: "يستريح من أذى الدنيا ونصبها إلى رحمة الله" [مسلم:950].
عباد الله: ومصيبة كثير منا هي التأثر الوقتي المحدود، بل إن الران على القلوب قد منع التأثر بالمواعظ، فعند القبور وعند اللحد قد تجد الضحك والدخان، والهواتف ومتابعة التجارات، وأحوال السندات والأوراق، وَرُبمَا يكون منا من يَهْتَز عِنْد رُؤْيَة الْجِنَازَة، ويرتاع عِنْد مشاهدتها، ثمَّ لَا يلبث أَن يعود إِلَى حَاله إِلَّا بِمِقْدَار مَا يكون بَين يَدَيْهِ، أَو سَاعَة تمر عَلَيْهِ، قَالَ أَبُو عَمْرو بن الْعَلَاء : جَلَست إِلَى جرير وَهُوَ يملي على كَاتبه شعرًا، فاطلعت جَنَازَة، فَأمْسك، وَقَالَ: شيبتني وَالله هَذِه الْجَنَائِز، وَأَنْشَأَ يَقُول:
تروعنا الْجَنَائِز مقبلات
كروعة ثلة لمغار ذِئْب
وَكَأن هَذَا البائس الغافل، لم يسمع بِرَجُل قد شيع جَنَازَة ثمَّ مَاتَ المشيع بعد جُمُعَة، وَرُبمَا كَانَ بعد يَوْم وَاحِد، أَو أقل من يَوْم، أَو كَأَنَّهُ لم يعلم أَن هَذَا الْمَيِّت كَانَ طَوِيل الأمل، ممتد الرَّجَاء، يطْمع فِي الْعَيْش، ويحرص على الْبَقَاء، حَتَّى هجم عَلَيْهِ ملك الْمَوْت، فِي الْوَقْت الَّذِي لم يكن يظنّ بِهِ، وَقَامَ مَعَه من الْمَكَان الَّذِي لم يكن يحسبه، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون.
عباد الله: وَقد كَانَ السّلف الصَّالح -رَضِي الله عَنْهُم- بِخِلَاف هَذَا، كَانُوا إِذا رَأَوْا الْجَنَائِز نظرُوا إِلَيْهَا نظر المعتبرين، وَتَكَلَّمُوا عِنْدهَا بِكَلَام الموفقين، وَكَانُوا يَقُولُونَ القَوْل ويعملون بِمُقْتَضَاهُ، وسأذكر لَكم -أيها الإخوة- بعضًا من كَلَامهم، وأحكي لَكم شيئًا من أَقْوَالهم، لَعَلَّه يُحَرك مِنْك سَاكِنًا، ويوقظ مِنْك نَائِمًا، وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه -سُبْحَانَهُ-.
من أروع هذه المواقف مع الجنائز وأعظمها ما ثبت أن سَهْل بْن حُنَيْفٍ وَقَيْس بْن سَعْدٍ كانا قَاعِدَيْنِ بِالْقَادِسِيَّةِ، فَمَرُّوا عَلَيْهِمَا بِجَنَازَةٍ، فَقَامَا، فَقِيلَ لَهُمَا: إِنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَقَالَا: إِنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!" [البخاري:1312، ومسلم:961].
وتأمل موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجنائز وكيف ربى أصحابه على ذلك، من الوقوف للجنائز والاتعاظ بالموت، والاعتبار بالموتى، وهذا موقف آخر يصرح فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن في رؤية الجنائز عظة وتذكرة بشدة الموت؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَامَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: "إِنَّ لِلْمَوْتِ فَزَعًا" [النسائي:1922، وصححه الألباني].
قَالَ أسيد بن حضير: "مَا شهِدت جَنَازَة وَحدثت نَفسِي بِشَيْء، سوى مَا يفعل بِالْمَيتِ، وَمَا هُوَ صائر إِلَيْهِ". وكان أبو هُرَيْرَة -رَضِي الله عَنهُ- إِذا رأى جَنَازَة، قَالَ: "امْضِ وَنحن على أثرك". وَكَانَ مَكْحُول الدِّمَشْقِي-رَحمَه الله- إِذا رأى جَنَازَة قَالَ: "اغْدُ فَإنَّا رائحون، موعظة بليغة، وغفلة سريعة، يذهب الأول، وَالْآخر لَا عقل لَهُ".
وَمَرَّتْ بالْحسنِ الْبَصْرِيّ-رَحمَه الله- جَنَازَة فَقَالَ: "يَا لَهَا موعظة مَا أبلغهَا، وأسرع نسيانها! يَا لَهَا موعظة لَو وَافَقت من الْقُلُوب حَيَاة"، ثمَّ قَالَ: "يَا غَفلَة شَامِلَة للْقَوْم، كَأَنَّهُمْ يرونها فِي النّوم، ميت غَدا يدْفن ميت الْيَوْم".
وَلما مَاتَ أَخُو مَالك بن دِينَار، خرج مَالك فِي جنَازَته، فَوقف على قَبره وَبكى، ثمَّ قَالَ: "وَالله يَا أخي لَا تقر عَيْني بعْدك، حَتَّى أعلم إِلَى مَا صرت إِلَيْهِ، وَلَا وَالله لَا أعلم ذَلِك مَا دُمتُ حَيًّا". وَقَالَ الْأَعْمَش: "كُنَّا نشْهد الْجِنَازَة، وَلَا نَدْرِي مَن المعَزَّى فِيهَا -أي لا يعرف أهل الميت- لِكَثْرَة الباكين، وَإِنَّمَا بكاؤهم على أنفسهم لَا على الْمَيِّت".
وَقَالَ ثَابت الْبنانِيّ: "كُنَّا نشْهد الْجِنَازَة، فَلَا نرى إِلَّا باكيًا". وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: "كَانُوا يشْهدُونَ الْجِنَازَة، فَيُرَى فيهم ذَلِك أَيَّامًا، كَأَن فيهم الفكرة فِي حَال الْمَوْت، وَفِي حَال الْمَيِّت". وَقَالَ مطرف بن عبد الله بن الشخير، عَن أَبِيه: "أَنه كَانَ يلقى الرجل فِي الْجِنَازَة من خَاصَّة إخوانه، قد بعد عَهده بِهِ، فَلَا يزِيدهُ على السَّلَام، حَتَّى يظنّ الرجل أَن فِي صَدره عَلَيْهِ موجدة، كلّ ذَلِك لانشغاله بالجنازة، وتفكره فِيهَا وَفِي مصيرها، حَتَّى إِذا فرغ من الْجِنَازَة لقِيه، وَسَأَلَهُ، ولاطفه، وَكَانَ مِنْهُ أحسن مَا عهد".
وَلما مَاتَ ذَر بن عمر، وَوضع فِي قَبره، قَالَ أَبوهُ: "يَا ذَر لقد شغلنا الْحزنُ لَك عَن الْحزنِ عَلَيْك، فليت شعري! مَاذَا قلتَ وماذا قيل لَك؟" ثمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إِن هَذَا وَلَدي ذَر، متعتني بِهِ مَا متعتني، ووفيته أَجله ورزقه، وَلم تنقصه حَقه، اللَّهُمَّ وَقد كنت ألزمته طَاعَتك وطاعتي، وَإِنِّي قد وهبت لَهُ مَا فرط فِيهِ من طَاعَتي، فَهَب لَهُ مَا فرط فِيهِ من طَاعَتك، اللَّهُمَّ وَمَا وَعَدتنِي عَلَيْهِ من الْأجر فِي مصيبتي، فقد وهبت ذَلِك لَهُ، فَهَب لي عَذَابه وَلَا تعذبه، وَأَنت أَجود الأجودين، وَأكْرم الأكرمين"، قَالَ: فأبكى النَّاس، ثمَّ قَالَ عِنْد انْصِرَافه: "يَا ذَر مَا علينا بعْدك من خصَاصَة، وَمَا بِنَا مَعَ الله إِلَى إِنْسَان من حَاجَة، يا ذر مضينا وتركناك، وَلَو أَقَمْنَا عنْدك مَا نفعناك".
وتأمل -يا عبد الله- أَلا ترى إِلَى هَذَا؟ لم يشْغلهُ الْحزن على وَلَده وَثَمَرَة كبده عَن الْحزن بِمَا قَالَ وَبِمَا قيل لَهُ؛ لأَنهم إِنَّمَا كَانُوا يقدمُونَ الأهم فالأهم، ويبدؤون بالأعظم فالأعظم.
ويرْوى عَن الْأَصْمَعِي قَالَ: "حجت امْرَأَة من الْعَرَب وَمَعَهَا ابْن لَهَا، فأُصيبت بِهِ، فَلَمَّا دُفن قَامَت على قَبره وَهِي موجعة، فَقَالَت: "يَا بني: وَالله لقد غذوتك رضيعًا، وفقدتك سَرِيعًا، وَكَأن لم يكن بَين الْحَالَتَيْنِ مُدَّة ألتذ فِيهَا بعيشك، وأتمتع فِيهَا بِالنّظرِ إِلَى وَجهك، وَبقيت مُدَّة أتذكرك فِيهَا، وأذوب فِيهَا بالحزن عَلَيْك"، ثمَّ قَالَت: "اللَّهُمَّ مِنْك الْعدْل، وَمن خلقك الْجُود، اللَّهُمَّ وهبتني قُرَّة عَيْني فَلم تمتعني بِهِ كثيرًا، بل سلبتنيه وشيكًا، ثمَّ أَمرتنِي بِالصبرِ عَلَيْهِ، ووعدتني الْأجر، فصدّقت وَعدك، ورضيت قضاءك، اللَّهُمَّ ارْحَمْ غربته، واستر عَوْرَته يَوْم تنكشف العورات، وَتظهر السوآت، فرحم الله من ترحم على من استودعته الرَّدْم، ووسدته الثرى"، فَلَمَّا أَرَادَت الْخُرُوج إِلَى أَهلهَا، وقفت على قَبره وَقَالَت: "أَي بني قد تزودت لسفري من الدُّنْيَا، فليت شعري مَا زادك لسفرك وَيَوْم معادك، اللَّهُمَّ أَسأَلك الرضا لَهُ برضاي عَنهُ"، ثمَّ قَالَت: "أستودعك من استودعنيك جَنِينًا فِي الأحشاء، وأذاقني عَلَيْهِ غُصَّة الثكلى، واثكل الوالدات! مَا أقل أنسهن، وَأَشد وحشتهن".
أيها الإخوة: ومن غفلة بعض الناس عن الموت، فضلاً عن الاتعاظ به: تزيين الجنائز، فتراه يُلبس النعش الثِّيَاب الملونة، وَيجْعَل عَلَيْهِ الأردية المصبغة، ويحليه الْحِلْية المبيضة، ويخرجه كالفتاة المحلاة، والعروس المجلاة، وَلَا يتفكر فِي ميته، هَل كُسي أَثوَاب الْحَرِير؟ أَو قطران السعير؟ وَإنَّهُ موْضِع الفكرة، وإرسال الْعبْرَة، وإطالة العويل وَالْحَسْرَة.
نسأل الله حسن الاتعاظ، وجميل التفكر، ونسأله -سبحانه- أن يحسن لنا الخاتمة وأن يجعل أسعد أيامنا يوم نلقاه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: فأوصيكم بتقوى الله وطاعته وأحذركم من معصيته ومخالفته، واعلموا أن كل شَيْء يشغل عَن الله وعن عبادته فَهُوَ مشئوم، وإن أهل الْقُبُور إِنَّمَا يندمون على مَا يتركون، ويفرحون بِمَا يقدمُونَ، فَمَا عَلَيْهِ أهل الْقُبُور يندمون أهل الدُّنْيَا عَلَيْهِ يقتتلون، وَفِيه يتنافسون، وَعَلِيهِ يتزاحمون!.
عباد الله: تفكروا في أنفسكم: ماذا بعد الصحة إلا السقم؟! ماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! ماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! ماذا بعد الحياة إلا الممات؟!.
أخي الفاضل: يا حاضر الجسم والقلب غائب، اجتماع العيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب، كفى زاجرًا واعظًا تشيب منه الذوائب.
يا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب أين الزمان الذي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البكاء دمًا على أوقات قتلت عند التلفزيون والمذياع والكرة والسينما والفيديو والخمر والدخان والملاعب.
كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب؟! من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قيل لك: ما صنعت في كل واجب؟! كيف ترجو النجاة وأنت تلهو بأسر الملاعب، لقد ضيعتك الأماني بالظن الكاذب؟! أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب؟! فانظر لنفسك واتق الله أن تبقى سليمًا من النوائب فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا.
أين الذين علوا فوق السفن والمراكب؟! أين الذين علو على متون النجائب؟! هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب وأنت في أثرهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عنه حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.
عباد الله: وسبحان الرؤوف الرحيم، لا يعاجل عباده بالعقوبة، بل يحلم عليهم ويمهلهم لعلهم يتوبون ويرجعون؛ فكم كشف ضرًّا وستر عاصيًا، وقد بارزه بأنواع الفساد، ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد؛ فاستعدوا للقاء هذا الرب الجليل، وأعدوا للقدوم عليه من صالح العمل كل جميل، وفكروا في أنفسكم، وما اشتملت عليه من العيوب، وحاسبوها على ما اكتسبته من الذنوب؛ فأي نفس منكم لم تحمل ظلمًا؟! وأي جارحة من جوارحكم لم تقترف إثمًا؟! وأي عمل من أعمالكم يليق بذلك المقام؟! وأي وقت من أوقاتكم تمحض للطاعة وخلا عن الآثام؟!
لقد جنيتم على أنفسكم بالذنوب جناية عظمى، وهضمتم بالمعاصي قدرها عند الله هضمًا؛ فلينوا قلوبكم بذكر الموت عساها أن تلين، وعظوها بذكر القبر وفتنته فإنهما لحق اليقين، وذكروها يوم القيامة يقوم الناس لرب العالمين، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا، والأمر يومئذ لله.
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟ وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟ وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟ وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟ واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟ فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، الله ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.