الوتر
كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ما حُفظت النعم بمثل رعاية حق الله فيها، ومن ذلك: عدم الإسراف والتبذير فيها, وما ترحلت النعم ولا استُجلبت النقم بمثل الإسراف والتبذير فيها، جرِّب أن تجلس مع رجلِ من شيوخنا وآبائنا, سله عن الحال هنا قبل عقود, سيحدثك عن الجوع والشدة, سيحدثك بأحوالٍ لا يكاد يصدقها أبناء اليوم, سيحدثك أنه في عام 1327هـ تبرع أهل الصومال لأهل هذه البلاد لسدّ مجاعتهم. سيحدثك أنهم رأوا جوعاً كان البعض يسقط معه في الطرقات مغشياً عليه, سيحدثك أنهم رأوا جوعاً أُكلت معه الميتات, بل وأُكل معه بعضُ الأطفال الصغار من الجوع, ليست هذه من نسج الخيال ولا من ضروب المبالغات, بل إنه حديث ليس بالأغاليط, لكننا اليوم لا نتصوره.
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
المعتمد بن عبّاد أمير إشبيلية في الأندلس كان يعيش حياة مترفَة غاية في التنعم واللذة، طيبات الدنيا تُجلَب له، جلس ذات يوم هو وزوجته وبناته على شرفة القصر، فرأت زوجته أناسًا يمشون في الطين, فاشتهت أن تخوض في الطين كما يفعلون، فنُثِرَ الطينُ والزعفران في ساحة القصر، ثم عجنوه بماء الورد والمسك والكافور لتخوض به هي وبناته، لتحقق رغبتها.
ثم دارت الأيام وحصل عليه ما حصل, وزال ملكه, وسُجن بسجن أغمات في المغرب، واستذلت بناته، وعاد مرحومًا بعد أن كان محسودًا، بينما هو مسجون دخلت عليه بناته يوم العيد في ملابس رثة, معهن المغازل يغزلن الثياب للناس، فقال متحسرًا:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورًا | فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا |
ترى بناتك في الأطمارِ جائعة | يغزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرًا |
برزْن نحوَك للتسليمِ خاشعةً | أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرًا |
يطأْنَ في الطين والأقدام حافية | كأنها لم تطأْ مسكًا وكافورًا |
من بات بعدك في ملك يسرّ به | فإنما بات بالأحلام مغرورًا |
تذكرت قصة المعتمد في هذه الأيام, وأنا أرى صوراً من الترف وأشكالاً من التباهي وعجائب من التبذير.
نعم, نحن أمةٌ نذم الإسراف, كلنا كذلك, نحن قوم على لساننا قول الله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 27].
لكنّ الحقيقة أن أكثرنا واقع في الإسراف, مستقل ومستكثر, كلٌ في مجاله..
ولتعلم ذلك فاسمع إلى كلام الراغب الأصفهاني حيث يقول: "السّرف تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر".
بيد أنني اليوم لست أتكلم عن أي إسراف, لن أتكلم عن الإسراف الكلام, ولا عن الإسراف في الدماء, ولا عن الإسراف في المدح, أو غير ذلك, وهي صور من الإسراف, لكنني أتحدث عن الإسراف في المآكل والمشارب والمستهلكات والمقتنيات والحفلات والسفرات.
وقبل الخوض في صور الإسراف الواقعة, فالموضوع خداج إن لم يقدم بين يديه آي القرآن الذامة للإسراف، قال ربنا -سبحانه-: (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31].
وتأمل كيف جمع ربنا في آية جملاً من الآداب, وحذر من الإسراف وأخبر أنه لا يحب أهله, حينما ذكر قضيتين يقع الإسراف فيهما غالباً: الزينة, والأكل والشرب، وقال ربنا سبحانه: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء: 26- 27].
وقال في تقرير التوسط المطلوب من المؤمن (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء: 29].
وقال ذاكراً صفات عباد الرحمن (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان: 64]، قال ابن القيم: " في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا): أي ليسوا بمبذّرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصّرون في حقّهم، فلا يكفونهم، بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا".
عباد الله: ونظرة إلى واقعنا تجلي لك صوراً من الإسراف كبيرة, ونماذجَ خطيرة.
إسرافٌ في المآكل والمشارب, باتت معه كثير من الأسر تلقي من الأطعمة كل يوم ما يعيّش أسراً, وأُحوج المجتمع معها إلى مشاريع كمشاريع حفظ النعمة ونحوه.
تقول الإحصائيات: إن دول الخليج في مقدمة الدول الأكثر استهلاكًا للأغذية، ففي بلادنا هنا 35% من الغذاء يُلقَى في النفايات المنزلية، أي حوالي ثلاثة عشر مليون طنّ من المواد الغذائية وبقايا الأطعمة في مكبات النفايات.
وذكر مدير جمعية البر: أن الوجباتِ التي تم حفظها في الجمعية عام 2014م؛ تجاوزت 7 ملايين وجبةً في منطقة الرياض والشرقية فقط.
وصورة أخرى من الإسراف: وهي الإسراف فيما الناسُ شركاء فيه وهو الماء, وهدر له بشكل مخيف, وإسراف في الكهرباء بلا حاجة, وأصبح المرء حين يتخفف من هذا ليس داعيه إلا تخوف التغريم, والحق أن المسلم يقتصد خوفاً من الله, ونأياً عن الخطيئة, وإذا كان العلماء يكرهون الإسراف حتى في الطهارة والوضوء ففي غيره أشد كراهة وأسوأ فعلاً.
وتأتي الإجازة فيظهر الإسراف في السفر والرحلات, والمتتبع لهذا تهوله الأرقام الفلكية المنفقة في هذا الباب, تقول الإحصائيات: إن السعوديين ينفقون في عطل الصيف مليارات الريالات, وقدَّر مركز ماس التابع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، حجم الإنفاق في الرحلات السياحية المغادرة لخارج البلاد العام الماضي بنحو 96 مليار ريال، بزيادة 26 مليار ريال, أي نسبة (39 في المائة) عن عام 2014م.
ولك أن تعلم أن عدداً ليس بالقليل من السفرات هي إلى بلاد الكفار, فيجمع صاحبها بين الإسراف المذموم, والسفر المحرم.
وتأتي حفلات الزواج ونحن بين يدي موسمها, لترى الهدر المالي, والإسراف بأجلى صوره, ابتداءً ببطاقات الدعوة والمغالاة فيها شكلاً ومضمونًا وعددًا وطباعةً، وانتهاءً بقصور الأفراح أو الفنادق والمباهاة فيها، والإسراف في المطاعم والمشارب فيها, وغير ذلك من قائمة يخرج بعدها أصحاب الزواج وهم راضون عن أنفسهم أن كان فرحهم يبيض الوجه كما يقال, وخرج الناس وهم معجبون من فرحهم, ثم ماذا, ثم هم يبوؤون بإثم الإسراف, وإن كانوا غير مقتدرين يكبِّلون أنفسهم بديون وتضييق في الحال.
وعلى مشارف نهاية العام الدراسي صورة أخرى من الإسراف, فيما يسمى بحفلات التخرج والنجاح, ولا نختلف أن التخرج مناسبة سعيدة يَفرَح, أو لِنقُل تفرح بها الفتاة-لأن جلّ هذه الحفلات هي من النساء- نعم هي مناسبة سعيدة, ولكن، ما صرنا نراه ونسمعه أمر مختلف حقيقة.
تباهي في الدعوات وتحديد مكان الاحتفال, ثم بذخ في جلب المآكل والمشارب لهذه الحفلات المصغرة, وبعد هذا لا تخلو كثير من هذه الحفلات من صور محرمة من الغناء والموسيقى, والتصوير وغير ذلك, فكيف تشكر نعمة الله بمثل هذا.
ليس هذا فحسب, بل صرنا نسمع في البيت الواحد عدة حفلات، حفلات نجاح، وحفلات تخرج، وحفلات عقد قران، وحفلات ولادة، وحفلات بيت جديد، وحفلات طلاق, نعم, وغيرِ ذلك، من أعراف وحفلات أثقلت كاهل الآباء وأوغلت في الإسراف والتبذير, وتساوى فيها الغني والفقير, كلٌّ يقول لست أقل من غيري, ولن أكسر خاطر أهل بيتي.
معشر الكرام: كل هذا الهدر المالي يتم, وذلك الرجل مغلوب على أمره, ولربما رأيت نفقته تضيق عليه, ولربما ركبته الديون ليرضخ لضغط أهل بيته, وليبذل لا للضروريات والحاجيات, وإنما للكماليات ولمجاراة الأغنياء والمترفين، فيقلد بعضهم بعضًا، ويسرفون كما يسرفون، ويركضون خلف التقليد ويلهثون، حتى يسقطوا في حمأة الديون، وقد قال الله -جل علا-: (وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ) [الشعراء: 151].
ومع كل ذلك فإن الجهول يعمى عن هذه العواقب، وصدق الله (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [يونس:12].
أنت أيها الرجل بيدك الأمر, وضبط الإنفاق يبدأ من حزمك والاقتصاد وعدم الإسراف ينشأ من عندك, وحين جَعل الشرعُ الأمر بيد الرجل فلأنه أكمل عقلاً, وأكثر تروياً, لذا على العاقل أن لا ينهزم أمام رغبات ضعاف العقول والأهواء من أهل بيته وممن حوله؛ فإنه المسئول عنهم وعن تدبيرهم، وقد قال الله (وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوَهُمْ فِيهَا وَاكْسُوَهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً) [النساء: 3]، قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير وما تصدقت فهو لك، وما أنفقت رياءً وسمعة فذلك حظ الشيطان".
ووفرة المال ليست عذرًا ولا مسوغًا للإسراف، حتى وإن كان المنفق مقتدرًا، فالإسراف ذنب من الواجد ومن المعسر, والشأن كله أن صاحب المال مسئول عنه يوم القيامة، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامةِ حتى يسأل عن أربع..."، ومنها: "عن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟!" (رواه الترمذي بإسناد صحيح).
وقال الله -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي ما تنعمتم به في الدنيا، فهل أعددنا للسؤال جوابًا؟! وهل أعددنا للجواب صوابًا؟!
عفواً: فليست هذه دعوة للبخل والتقتير، وليست اعتذارًا للشحيح المضيق على أهله المقتر عليهم، ولكن يجب أن يعاد النظر في كثير من العادات، في الصرف والإنفاق، على ضوء الصفة الكريمة: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 64] إنه القصد والعدل، والتوازن والاعتدال في الإنفاق، وقد قيل: "لا عقل كالتدبير".
أقول قولي هذا..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده..
نظرة للعالم من حولنا تنبيك عن قدرة المولى –سبحانه- على تغيير النعم وتبديل الأحوال.
أحسنتَ ظنك بالأيام إذ حسُنت | ولم تخف سوء ما يأتي به القدَر |
وسالمتك الليالي فاغتررت بها | وعند صفو الليالي يحدث الكدر |
العراق الذي كان مأوى التجار قبل عقود بلغت فيه نسبة الفقر إلى أرقام كبيرة, الشام كذلك, اليمن كذلك, مصر كذلك, وهي الديار التي كانت النعم فيها وافرة, وأهل هذه البلاد يطلبون لقمة العيش عندهم.
أعداد الجياع في العالم حوالي مليار جائع، ألف مليون جائع في العالم، أكثرهم في البلاد الإسلامية.
جماع القول يا كرام: أنه ما حفظت النعم بمثل رعاية حق الله فيها، ومن ذلك عدم الإسراف والتبذير فيها, وما ترحلت النعم ولا استجلبت النقم بمثل الإسراف والتبذير فيها
جرّب أن تجلس مع رجلِ من شيوخنا وآبائنا, سله عن الحال هنا قبل عقود, سيحدثك عن الجوع والشدة, سيحدثك بأحوالٍ لا يكاد يصدقها أبناء اليوم, سيحدثك أنه في عام 1327هـ تبرع أهل الصومال لأهل هذه البلاد لسدّ مجاعتهم.
سيحدثك أنهم رأوا جوعاً كان البعض يسقط معه في الطرقات مغشياً عليه, سيحدثك أنهم رأوا جوعاً أُكلت معه الميتات, بل وأُكل معه بعضُ الأطفال الصغار من الجوع, ليست هذه من نسج الخيال ولا من ضروب المبالغات, بل إنه حديث ليس بالأغاليط, لكننا اليوم لا نتصوره.
والذي بدّل الشدة رخاءً والضراء سراءً قادر على أن يقلب الأحوال, وليس بينه وبين العباد نسب, وليس لأهل هذه البلاد عقد مع الله ألا يفتقروا ولا تمر بهم الشدائد.
قال أحد كبار السن لأولاده: "لقد حدثناكم بجوع مرّ بنا، وأخشى أن يأتي زمان تحدثون أولادكم بنعمة مرت بكم ثم فقدت".
فلا نكن يا مؤمن, لا نكن يا أخي بإسرافنا سبباً في أن تحل بنا المثلات, وأن تترحل النعم ونحرم البركات.
أنفق وكل واشرب وسافر واصنع ما شئت من غير سرف ولا مخيلة, ومن غير تبذير ولا معصية.
وعلى العقلاء دور كبير, في الترشيد وضبط الأمر, حين يكونوا خير قدوات للمجتمع في نبذ البذخ, والنأي عن السرف, وعلى الجميع دور في توعية الجيل, وتذكيرهم بالنعم التي يخشى أن ترحل إذا شاع السرف, ففي الإسراف غضب الرب, وإضاعة المال, والنّدم والحسرة.
كل هذا ليس بخلاً, ولا فقراً ولا عجزاً, بل تدينا لله, وشكراً له على ما أعطاه.
اللهم ارزقنا شكر نعمك, وقنا شح أنفسنا ولا تجعلنا من المسرفين.