القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عدنان حسن باحارث |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
لم يكن الورع في حياة السلف ترفاً فكرياً يتندَّرون به في المجالس، وإنما كان سلوكاً وواقعاً عملياً يعيشه الصالحون. والمتأمل في واقع المسلمين يجد أن منازل عظيمة من منازل العبودية تكاد تغيب عن واقع المسلمين وتضيع مفاهيمها الصحيحة، وسلوكياتها الشرعية، كمقام الزهد، والتوكل، والرضا، والشكر، والحياء، والصدق، واليقين، والإحسان ونحوها. ولعل مقام الورع ومنزلته من أكثر المقامات التي غابت مفاهيمها، وتكاد تندثر سلوكياتها في حياة غالب المسلمين المعاصرين.
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
لقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أمَّة الإسلام في آخر الزمان يطرأ عليها التفريط والتغيير، وتضيع عند كثير من شعوبها المفاهيم والسلوكيات الصحيحة.
وواقع المسلمين المعاصر يشهد بهذا التغيُّر والتفريط، وغياب كثير من المفاهيم الإسلامية الصحيحة، والسلوكيات الشرعية القويمة.
والمتأمل في واقع المسلمين يجد أن منازل عظيمة من منازل العبودية تكاد تغيب عن واقع المسلمين وتضيع مفاهيمها الصحيحة، وسلوكياتها الشرعية، كمقام الزهد، والتوكل، والرضا، والشكر، والحياء، والصدق، واليقين، والإحسان ونحوها.
ولعل مقام الورع ومنزلته من أكثر المقامات التي غابت مفاهيمها، وتكاد تندثر سلوكياتها في حياة غالب المسلمين المعاصرين.
فالورع: هو حمل النفس على الأوثق من الأمور، وتجنُّب الشبهات في كلِّ الأحوال، واتخاذ ساحة من الحلال بين العبد وبين الوقوع في الحرام.
وفي فضل الورع قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كن ورعاً تكن أعبد الناس"، وقال: "خيرُ دينكُمُ الورع".
وقال أيضاً: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً لما به البأس".
وكان يقول في الورع من أكل الحرام: "لأن يأخذ أحدُكم تراباً فيجعَلَهُ في فيـــه خيرٌ له من أن يجعل في فيه ما حرَّم الله عليه".
وكان يقول عن تعويض الله للورع التقي: "إنك لن تدع شيئاً اتقاءً لله -عز وجل- إلا أعطاك الله خيراً منه".
وقال نبي الله عيسى ابن مريم -عليه السلام-: "لو صليتم حتى تصيروا مثل الحنايا، وصمتم حتى تكونوا أمثال الأوتاد، وجرى من أعينكم الدموع أمثال الأنهار: ما أدركتم ما عند الله إلا بورع صادق".
وقال الحسـن البصــري: "ما عَبَدَ العابــدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهُمُ الله عنه".
جاء رجل إلى العُمَري فقال: "عظني، فأخذ حصاة من الأرض وقال زنةُ هذه من الورع يدخل قلبك خيرٌ لك من صـلاة أهل الأرض".
أيها المسلمون: لم يكن الورع في حياة السلف ترفاً فكرياً يتندَّرون به في المجالس، وإنما كان سلوكاً وواقعاً عملياً يعيشه الصالحون.
فهذا سيِّدُ الخلق وحبيب الحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل بيته فيرى تمرة ساقطة فيرفعها إلى فمه، فيتذكَّر لعلها من تمر الصدقة فيلقي بها.
وربما وجد تمرة من تمر الصدقة في فم الحسن -رضي الله عنه- فينزعها من فم الغلام بلعابها ويقول: "كِخْ كِخْ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة".
وأمَّا ورع الصحابة من تلاميذ مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال أحدهم: "كنا ندع ســــبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في الحرام".
فهذا سيِّدُ الأصحاب، الخليفة أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، أتاه غلام له بطعام اكتسبه من الكهانة، فأكله فلما علم قاءَ ما في بطنه، حتى كاد يهلك.
وأما عمر -رضي الله عنه- فقد كان يعطي المهاجرين أربعة آلاف لكلِّ شخص، ويعطي ولـــده عبد الله ثلاثــــة آلاف وخمسمائة، ويقول: "لم يهاجر بنفسه وإنما هاجر به أبواه".
وهذا التابعي عبد الله بن المبارك، استعار من رجل بالشام قلماً على أن يردَّه، فنسيَ حتى سافر إلى (مَرُو) فلما وصل وجد القلم معه، فعاد إلى الشام وأعطاه صاحبه.
وهذا عمر بن عبد العزيز دخلوا عليه بغنائم فيها طيب من مسْك، فأخذ بأنفه ولم يرض أن يشمَّ الطيب، وقال: "إنما يُنتفع من هذا بريحه، فأكره أن أجد ريحه دون المسلمين".
وقال مرة لعامله: "أدِقْ قلمك، وقارب بين أسطُرك فإني أكره أن أُخرج من أموال المســــــلمين ما لا ينتفعون به"، وكانت خطاباته لا تتجاوز الشبر.
ودخل الإمام أحمد بن حنبل على إسماعيل البخاري أبي الإمام محمد صاحب الصحيـح يزوره في مرض موته فقال إسماعيل: "لا أعلم من مالي درهماً حراماً، ولا درهماً من شبهة، قال أحمد: فتصاغرت إلى نفسي عند ذلك".
وهذا تواضع من الإمام أحمد؛ فلم يكن ورعــه بأقلَّ من هذا، فقد مكث أياماً لا يأكل في السجن من طعامهم حتى جاءه طعامُهُ من بغداد، وقد كاد يهلك.
وأرسل مرَّة شخصاً يشتري له، فأتاه بالمطلوب في ورق فقال: "من أين هذا الورق؟ فقال: من البقَّال، فقال: استأذنـته؟ فقال: لا، قال: ردَّه ".
وقال عنه أحمد بن محمد المروزي: "سألت أحمد بن حنبل ما لا أُحصي عن أشياء فيقول فيها: لا أدري؛ ورعاً منه أن يتكلم بغير علم.
وقد ثبت عن جمع من السلف أنهم تركوا إرثهم من آبائهم أو أبنائهم لاختلاط أموالهم بالشُّبهة.
وهذا الأمير نور الدين زنكي المجاهد كان رغم الإمارة والجاه والسلطان لا يأكل إلا من حلال، وكانت له نساء يصنعن بعض الملابس على حسابه، ويبعْنها له سراً، ثم هو يأكل من هذا المال.
وهذا عمرو بن مُرَّة العابد، وكان أعمى يقول: "ما أُحب أني بصير وكنت نظرت نظرة وأنا شاب"، يعني يفضِّل العمى على أن ينظر نظرة حرامٍ واحدة.
وهذه امرأة من الصالحات أتاها خبر وفاة زوجها وهي تعجن عجيناً لها، فرفعت يدها عن العجينة ورعاً، وقالت: "هذا طعام قد صار لنا فيه شريك"، يعني ورثة.
وهذا أحد السلف سقط له دينار ففتَّش عنه فلم يجده، ثم وجده بعد ذلك فتركه وقال: لعله ليس ديناري الذي سقط.
ولعل من أعجب ما يُروى في ورع أهل هذا الزمان رجلاً يُدعى كمال الدين السنانيري، أُخذ وسُجن مع بعض أصحابه، وكان ممن مات في سجنه بسبب التعذيب، في يوم جاءه أصحابه في السجن ومعهم شاي فدعوه ليشربَ معهم، فقال: "من أين هذا الشاي؟ قالوا: أخذنا وَقُوداً من السراج وأوقدنا على الشاي وصنعناه، فقال: لا أشرب شاياً صُنع من وقود مسروق"، إنه الورع في أعلى صوره.
أيها المسلمون: إن هذه الأخبار كأنها أخبار الكذَّابين، وهذه الأفعال كأنها أفعال المجانين عند من لم يفهم هذا الدين، فإن الإسلام شجرة أصلها لا إله إلا الله وثمرها الورع، ولا خير في شـجرة لا ثمر لها، ولا خير في دين لا ورع فيه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أيها المسلمون: إن مقام الورع ثمرة من ثمار الخوف من الله تعالى، وبقدر خوف العبد من ربه: يعظُم في قلبه وسلوكه مقام الورع، فكم هو نصيبنا منه؟ وكم هو نصيب شبابنا وطلابنا منه؟ وكم هو نصيب أساتذتنا ومشايخنا منه؟ وكم نصيب تجارنا وعمَّالنا منه؟!
نسأل الله أن يحيي قلوبنا...