البحث

عبارات مقترحة:

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الجبار

الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الهدي النبوي مع رمضان

العربية

المؤلف إبراهيم بن صالح العجلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الصيام
عناصر الخطبة
  1. بركات رمضان وخيراته .
  2. هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- في رمضان .
  3. رمضان شهر القرآن .
  4. كان أجود ما يكون في رمضان .
  5. آثار النبي -صلى الله عليه وسلم- في رمضان وشيء من أخباره. .

اقتباس

غنائم ربِّ العالمين تدَّفق على عباده المقبلين المستجيبين، ذنوبٌ تُغفر، وعيوبٌ تُستر، رحمات من الملك الغفار، وعتق كل يوم من النار، دعاءٌ مُجاب، وإقبال على الخير قد طاب، حسنات وبركات، ومحو للسيئات والخطيئات،.. لنتجاوز بركات رمضان وخيراته، إلى الحديث عن مَنْ لا يُملُّ الحديث عنه. إلى من عرف قيمة رمضان فأحبه، وعلمنا كيف نحب رمضان ونعيشه في هداية وإيمان. نقف مع قبس من حاله، وطرف من آثاره،كيف استقبل شهره الغالي، كيف صامه وقامه، وكيف عاشه وقضى أيامه، فالوقوف على هديه أحد ركني قبول كل عمل.

الخطبة الأولى:

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النِّيرَانِ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجَانِّ، وَنَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ".

وَغَنَائِمُ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَدَفَّقُ عَلَى عِبَادِهِ الْمُقْبِلِينَ الْمُسْتَجِيبِينَ، ذُنُوبٌ تُغْفَرُ، وَعُيُوبٌ تُسْتَرُ، رَحَمَاتٌ مِنَ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، وَعِتْقٌ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ النَّارِ، دُعَاءٌ مُجَابٌ، وَإِقْبَالٌ عَلَى الْخَيْرِ قَدْ طَابَ، حَسَنَاتٌ وَبَرَكَاتٌ، وَمَحْوٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَالْخَطِيئَاتِ، "وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ".

لِنَتَجَاوَزْ بَرَكَاتِ رَمَضَانَ وَخَيْرَاتِهِ، إِلَى الْحَدِيثِ عَنْ مَنْ لَا يُمَلُّ الْحَدِيثُ عَنْهُ.

إِلَى مَنْ عَرَفَ قِيمَةَ رَمَضَانَ فَأَحَبَّهُ، وَعَلَّمَنَا كَيْفَ نُحِبُّ رَمَضَانَ وَنَعِيشُهُ فِي هِدَايَةٍ وَإِيمَانٍ.

نَقِفُ مَعَ قَبَسٍ مِنْ حَالِهِ، وَطَرَفٍ مِنْ آثَارِهِ، كَيْفَ اسْتَقْبَلَ شَهْرَهُ الْغَالِيَ، كَيْفَ صَامَهُ وَقَامَهُ، وَكَيْفَ عَاشَهُ وَقَضَى أَيَّامَهُ، فَالْوُقُوفُ عَلَى هَدْيِهِ أَحَدُ رُكْنَيْ قَبُولِ كُلِّ عَمَلٍ.

يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَمَنَّى وَيَدْعُو اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يُبَلِّغَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ حَتَّى إِذَا مَا حَلَّ ذَلِكُمُ الشَّهْرُ اشْتَدَّ فَرَحُهُ وَازْدَادَ سُرُورُهُ، وَانْطَلَقَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ وَيُهَنِّئُهُمْ بِقُدُومِهِ؛ تَشَوُّقًا لِبَرَكَاتِهِ وَتَشَوُّفًا لِرَحَمَاتِهِ، فَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: "قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" "رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ".

إِذَا أَشْرَقَتْ شَمْسُ أَوَّلِ يَوْمِ رَمَضَانَ فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ رَبِّهِ وَمُنَاجَاتِهِ لَهُ، وَافْتِقَارِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجِدُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأُنْسِ وَاللَّذَّةِ مَا يَجْعَلُهُ يُوَاصِلُ صَوْمَهُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ بِلَا طَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ، وَكَانَ يَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنِ الْوِصَالِ.

يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، مَا أَجْمَلَ الْحَدِيثَ عَنِ الْقُرْآنِ، فَهُوَ مِفْتَاحُ الصِّلَةِ بِاللَّهِ -تَعَالَى- فِي كُلِّ حِينٍ، لَكِنَّهُ فِي رَمَضَانَ لَهُ مِيزَةٌ وَشَأْنٌ وَحَنِينٌ، فَفِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ، وَلِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزِيدُ اعْتِنَاؤُهُ بِالْقُرْآنِ مَعَ رَمَضَانَ، كَانَ يَقْضِي نَهَارَهُ وَيُحْيِي لَيْلَهُ مَعَ كِتَابِ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- تِلَاوَةً وَتَفَكُّرًا وَمُرَاجَعَةً وَتَدَبُّرًا.

كَانَ يَرِقُّ قَلْبُهُ وَيَقْشَعِرُّ جِلْدُهُ وَرُبَّمَا دَمَعَتْ عَيْنُهُ عِنْدَ تِلَاوَةِ أَوْ سَمَاعِ آيَاتِ الرَّحْمَنِ (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزُّمَرِ: 23].

وَكَانَ مَعَ كَثْرَةِ تِلَاوَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْقُرْآنِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ حَرِيصًا عَلَى مُرَاجَعَةِ مَحْفُوظِهِ خَوْفًا مِنَ التَّفَلُّتِ وَالنِّسْيَانِ، فَكَانَ يُدَارِسُ الْقُرْآنَ مَعَ جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي رَمَضَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِي السَّنَةِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا دَارَسَهُ مَرَّتَيْنِ.

يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: قِيَامُ اللَّيْلِ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ وَعِزُّهُ، هَذَا مَا بَلَّغَهُ أَمِينُ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِأَمِينِ الْأَرْضِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ" "رَوَاهُ الطَّيَالِسِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ".

كَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُوصِي أُمَّتَهُ بِقِيَامِ رَمَضَانَ، فَكَانَ يَقُولُ: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَامَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوَّلَ لَيْلَتِهِ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِهِ، فَقَامَ مَعَهُ رِجَالٌ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بِذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عَدَدٌ أَكْثَرُ مِنَ اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّى بِهِمْ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ خَشِيَ أَنْ تُفْرَضَ صَلَاةُ اللَّيْلِ عَلَى أُمَّتِهِ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا.

أَمَّا عَدَدُ رَكَعَاتِهِ، فَكَانَ يُصَلِّي إِحْدَى عَشَرَ رَكْعَةً، وَرُبَّمَا صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، لَكِنْ لَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ، يَعِيشُ مَعَ الْقُرْآنِ، وَيَتَدَبَّرُ مَعَانِيَهُ، يَخْشَعُ وَيَبْكِي، لَا تَمُرُّ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ إِلَّا سَأَلَ، وَلَا آيَةُ عَذَابٍ إِلَّا اسْتَعَاذَ، وَرُبَّمَا قَرَأَ فِي قِيَامِهِ طِوَالَ السُّوَرِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَرْكَعُ طَوِيلًا فَيُعَظِّمُ رَبَّهُ، وَيُسَبِّحُهُ وَيُنَزِّهُهُ وَيُمَجِّدُهُ، ثُمَّ يَسْجُدُ سُجُودًا طَوِيلًا، يَسْأَلُ رَبَّهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَتُصْبِحُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ حَسَنَةً مُتْقَنَةً جِدًّا، وَصَدَقَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ".

عِبَادَ اللَّهِ: الْجُودُ هُوَ سِعَةُ الْعَطَاءِ وَكَثْرَتُهُ، وَالْكَلَامُ عَنْ جُودِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْدَأُ وَلَا يَنْتَهِي، هَذَا الْجُودُ هُوَ مِنْ سَجَايَاهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُهُ أَوْ يُجَاهِدُهُ.

كَانَ لَا يَرُدُّ سَائِلًا وَلَا يَمْنَعُ مُحْتَاجًا، كَانَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ، أَعْطَى رَجُلًا غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، وَأَعْطَى رَجُلًا يَتَأَلَّفُ قَلْبَهُ مِئَةً مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ مِئَةً، ثُمَّ مِئَةً، فَأَسْرَعَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: "أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ"، بَلْ حَتَّى الثِّيَابُ الَّتِي عَلَيْهِ، أَعْطَاهَا لِمَنْ سَأَلَهُ إِيَّاهَا.

مَا قَالَ لَا إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ

لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤُهُ نَعَمْ

وَأَنْوَاعُ جُودِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا تَنْحَصِرُ؛ تَارَةً بِمَالِهِ، وَتَارَةً بِطَعَامِهِ، وَتَارَةً بِلِبَاسِهِ، وَكَانَ يُنَوِّعُ فِي أَصْنَافِ عَطَائِهِ، تَارَةً بِالْهِبَةِ، وَتَارَةً بِالصَّدَقَةِ، وَتَارَةً يَقْتَرِضُ الشَّيْءَ فَيَرُدُّ أَكْثَرَ مِنْهُ وَأَفْضَلَ.

كَانَ يَفْرَحُ بِأَنْ يُعْطِيَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا أَخَذَ، حَتَّى لَيَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْقَائِلِ:

تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا

كَأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ

هَذَا الْجُودُ وَذَلِكُمُ السَّخَاءُ كَانَ مِنْ رَجُلٍ يَرْبُطُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَكَانَ تَمُرُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَ فِي بَيْتِهِ نَارٌ، وَكَانَ يَنَامُ عَلَى الْحَصِيرِ حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكُمُ الْحَصِيرُ عَلَى جَنْبِهِ.

لَقَدْ كَانَ هَذَا جُودَهُ وَسَخَاءَهُ فِي أَيَّامِ عَامِهِ، أَمَّا فِي رَمَضَانَ فَهَذَا الْكَرَمُ وَالسَّخَاءُ يَخْتَلِفُ، يَصِفُ ابْنُ عَبَّاسٍ جُودَهُ فِي رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ: "كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ"، فَلَا تَسْأَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَلِكُمُ الْجُودِ كَيْفَ يَكُونُ فَهَذَا مِمَّا يَعْجِزُ اللِّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ وَالْبَنَانُ عَنْ رَسْمِهِ.

عِبَادَ اللَّهِ:

وَكَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الصِّيَامِ أَنَّهُ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ.

وَكَانَ يَقُولُ عِنْدَ فِطْرِهِ: "اللَّهُمَّ لَكَ صَمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ".

وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَعْجِلُ الْإِفْطَارَ، وَكَانَ يَقُولُ: "لَا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرَ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ" "رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ".

وَكَانَ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى تَفْطِيرِ الصَّائِمِينَ، فَكَانَ يَقُولُ: "مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ".

وَكَانَ يُوضَعُ لَهُ الْعَشَاءُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ عَشَاؤُهُ مُتَوَاضِعًا بَسِيطًا، ذَهَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ لِيَسْأَلَهُ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَوَقَفَ بِبَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَدْخَلَهُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوُضِعَ عَشَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَكُفُّ يَدَهُ عَنْهُ مِنْ قِلَّتِهِ.

وَأَمَّا السُّحُورُ: فَلَمْ يَكُنْ يَدَعُهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ يُسَمِّيهِ: "الْغِذَاءَ الْمُبَارَكَ"، وَكَانَ يَقُولُ: "تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً"، وَيَقُولُ أَيْضًا: "إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ"، وَكَانَ يُؤَخِّرُ السُّحُورَ إِلَى قُبَيْلِ الْفَجْرِ، وَكَانَ بَيْنَ سُحُورِهِ وَقِيَامِهِ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً.

وَكَانَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَثِيرًا مَا يُذَكِّرُ النَّاسَ بِحِفْظِ جَوَارِحِهِمْ، وَصَوْنِ صِيَامِهِمْ، فَكَانَ يَقُولُ: "رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ"، وَكَانَ يَقُولُ: "لَيْسَ الصِّيَامُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ".

وَكَانَ يُوصِي أَهْلَ الصِّيَامِ بِالْكَفِّ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ أَهْلِ الْبِذَاءِ وَالسَّفَاهَةِ، "فَإِنَّ سَابَّهُ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ".

وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَنْهَى الصَّائِمَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَتَّى لَا يَصِلَ شَيْءٌ إِلَى جَوْفِهِ.

وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُمَارِسُ حَيَاتَهُ الطَّبِيعِيَّةَ فَيُقَبِّلُ نِسَاءَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ.

وَثَبَتَ أَنَّهُ احْتَجَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَيَلْحَقُ بِالْحِجَامَةِ تَحْلِيلُ الدَّمِ وَالتَّبَرُّعُ بِهِ، وَأَخْذُ الْإِبَرِ غَيْرِ الْمُغَذِّيَةِ.

نَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ نَبِيِّهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِ مَحَبَّتِهِ وَوِلَايَتِهِ، وَرَزَقَنَا صُحْبَتَهُ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعْدُ فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَمِنْ هَدْيِ حَبِيبِكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ اسْتِخْدَامَ السِّوَاكِ وَهُوَ صَائِمٌ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا لَا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وَهُوَ صَائِمٌ".

وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، يُبَرِّدُ مَا بِهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ، أَوْ حَرِّ الْعَطَشِ.

وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يُسَافِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَرُبَّمَا صَامَ وَرُبَّمَا أَفْطَرَ، فَعَلَ هَذَا وَهَذَا.

وَكَانَ فِي صِيَامِهِ أَيْضًا حَرِيصًا عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ، خَرَجَ مَرَّةً مِنْ مُعْتَكَفِهِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "إِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ بِمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، وَلَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ".

وَكَانَ إِذَا رَأَى شُحُوبَ الْجُوعِ، وَذُبُولَ الْجِسْمِ عَلَى صَحَابَتِهِ قَالَ لَهُمْ مُسَلِّيًا: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".

قَدِمَ إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمُوا فِي رَمَضَانَ، وَصَامُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِهِ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- يَأْتِيهِمْ كُلَّ لَيْلَةٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ، يَعِظْهُمْ وَيُفَقِّهُمْ فِي دِينِهِمْ.

وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي رَمَضَانَ يُجِيبُ عَلَى أَسْئِلَةِ الْمُسْتَفْتِينَ، وَيَحُلُّ إِشْكَالَاتِ الصَّائِمِينَ، سَأَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَجِدُ فِيَّ قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ".

بَلْ إِنَّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَمْ يُعَنِّفْ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا نَادِمًا مُسْتَغْفِرًا، كَمَا فَعَلَ مَعَ الرَّجُلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.

أَمَّا الشَّجَاعَةُ وَبَذْلُ النَّفْسِ وَالْفِدَاءُ فَهِيَ مَعَانٍ عَاشَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَهْرِ الصِّيَامِ، فَقَدْ غَزَا تِسْعَ غَزَوَاتٍ فِي رَمَضَانَ.

وَفِي رَمَضَانَ احْتَسَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَهْلِ النِّفَاقِ، فَهَدَمَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ، أَكْبَرَ صَرْحٍ بَنَاهُ الْمُنَافِقُونَ، شَيَّدُوهُ ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ.

تِلْكَ -عِبَادَ اللَّهِ- بَعْضُ آثَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي رَمَضَانَ وَشَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِهِ، فَسِيرُوا عَلَى دَرْبِهِ، وَالْزَمُوا سُنَّتَهُ فَهِيَ الْهِدَايَةُ وَالْفَلَاحُ، وَهِيَ النَّجَاةُ وَالنَّجَاحُ (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النُّورِ: 54].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ...