الآخر
(الآخِر) كلمة تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الصيام |
إنما يعظُم حظ العبد من القرآن إذا عُنِيَ بهداية نفسه بهدايات القرآن، فإذا كان كذلك قرأ الآيات يداوي بها نفسه، ويتفقد أخطاءه وعيوبه، يعرض نفسه على القرآن فما كان في العبد من حَسَنٍ وحميد يحمد الله -عز وجل- على منِّه وفضله وعطائه، وما كان فيه من تقصير في باب الاهتداء بهدايات القرآن يحاسب نفسه ويتوب إلى ربه ويُقبل على الله -عز وجل- تائبًا منيبًا، ليكون من أهل القرآن حقًّا وصدقًا. يقول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"، ليس في كل أحوالك يكون القرآن حجة لك، وإنما القرآن حجة لك إذا اهتديت بهداياته وعملتَ بما فيه وكنت تاليًا له حقًّا وصدقًا...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلِّغ الناس شرعه، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإن في تقواه خلفًا من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف؛ وتقوى الله -جل وعلا-: عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
أيها المؤمنون: هنيئًا لأمة الإسلام أمة محمد -عليه الصلاة والسلام- بموسمها الكريم وشهرها العظيم؛ شهر الخيرات والبركات والعطايا والهبات، غنَّم الله هذه الأمة خيرات هذا الشهر وبركاته، وجعله عزًا ورفعةً لأمة الإسلام.
أيها المؤمنون عباد الله: إنَّ هذا الشهر المبارك شهرٌ عظيم شهرٌ مبارك؛ فيه بركات متنوعة وخيراتٌ متعددة وعطايا لا تحصى ولا تعد.
أيها المؤمنون: وإن من فضائل هذا الشهر وخصائصه العظيمة وميِّزاته الكريمة أنه شهر الله الذي أنزل الله تبارك وتعالى فيه القرآن، يقول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185]؛ وقف أيها المؤمن مع هذه المفردات الثلاث: «رمضان» و«القرآن» و«الهداية».
نعم -أيها المؤمن- إن لشهر رمضان خصوصية بالقرآن؛ فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وله أيضًا خصوصية عظيمة في هداية القلوب إلى الرحمن.
أيها المؤمنون: كم تُقبِل قلوب العباد في هذا الشهر العظيم على الله -سبحانه وتعالى-، فكم من قلوبٍ تائبة ونفوسٍ منيبة، وكم فيه من هداياتٍ وأوبة إلى الله -عز وجل-؛ إن شهر رمضان منأول ليلة يدخل فيها تتوالى خيراته وبركاته، كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ". فكم هي هذه الهدايات وكم هي هذه المنن والعطايا والهبات!!
ولهذا -عباد الله- إن من أعظم الخسران وأشد الحرمان أن يدخل هذا الشهر وينسلخ والمرء باقٍ على حاله لم يتغير هدايةً وإقبالًا على الله -عز وجل-، وفي هذا يقول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ". نعم -عباد الله- إن موسم رمضان موسم هداية، وهداية للقرآن الذي أنزل في رمضان.
أيها العباد: ينبغي علينا في شهرنا العظيم وموسمنا الفضيل أن نُعنى عناية خاصة بالهداية بالقرآن، أن نهتدي بهدايات القرآن العظيمة وآدابه الجليلة ومواعظه المؤثرة وعبره التي تلج القلوب وتؤثر في النفوس، لا يكن حظنا -عباد الله- من كتاب الله -عز وجل- مجرد قراءة لحروفه، بل لتكن همَّة كل واحد منا أن يقرأ القرآن ليهتدي بهدايات القرآن، قال الله تعالى: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) [النمل:92]، وقال الله -جل وعلا-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء:9]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، لكن عباد الله كيف يصل العبد بنفسه إلى نيل هذه الهدايات وتحصيل هذه الخيرات والبركات؟
عباد الله: إنَّ ذلك لن يُحصَّل شيء منه بمجرد قراءةٍ لحروف القرآن دون تدبرٍ للمعاني ووقوفٍ مع الهدايات، ولهذا ينبغي على المؤمن أن تكون همته وهو يقرأ القرآن كيف أنتفع بالقرآن؟ وكيف أهتدي بهدايات القرآن؟ لا يكن همه متى أختم السورة، ولا يكن همه متى أختم القرآن، وليكن همّه متى أكون من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته؛ وذلك إنما هو بالعمل بالقرآن.
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: «أنزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملاً»؛ يصف حال كثير من الناس مع القرآن أن نصيبهم منه وحظهم من آياته وهداياته مجرد التلاوة لحروفه دون الوقوف مع المعاني وتدبر للدلالات وعمل بالهدايات.
ولهذا - عباد الله- إنما يعظم حظ العبد من القرآن إذا عني بهداية نفسه بهدايات القرآن، فإذا كان كذلك قرأ الآيات يداوي بها نفسه، ويتفقد أخطاءه وعيوبه، يعرض نفسه على القرآن فما كان في العبد من حَسَنٍ وحميد يحمد الله -عز وجل- على منِّه وفضله وعطائه، وما كان فيه من تقصير في باب الاهتداء بهدايات القرآن يحاسب نفسه ويتوب إلى ربه ويُقبل على الله -عز وجل- تائبًا منيبًا، ليكون من أهل القرآن حقًّا وصدقًا.
يقول نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ"، ليس في كل أحوالك يكون القرآن حجة لك، وإنما القرآن حجة لك إذا اهتديت بهداياته وعملتَ بما فيه وكنت تاليًا له حقًّا وصدقًا، ولهذا يقول الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة:121]، قال غير واحد من السلف منهم ابن عباس وابن عمر وغيرهما: «أي يتبعون القرآن»، (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ): أي: يتَّبعون القرآن ائتمارًا بأمره وانتهاءً عن نهيه وطاعةً لله -عز وجل- فيما أمر عباده فيه. ولهذا يقول ابن مسعود -رضي الله عنهما-: «إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ؛ فَإِنَّهُ إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه».
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يغنِّمنا أجمعين خيرات رمضان وبركاته، وأن يجعلنا أجمعين من أهل القرآن أهل الله وخاصته، وأن يهدينا أجمعين إليه صراطا مستقيما.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
أيها المؤمنون: إن القرآن مأدبة وهو خير مأدبة؛ فيها من أطايب الخيرات ولذائذ المنافع وجميل الفوائد وعظيم العبَر وكبير الخيرات وعموم الفضائل والعطايا والهبات، ولكن يا عباد الله هذه المأدبة العظيمة الكريمة لا يُنال شيءٌ من خيراتها وبركاتها بمجرد نظرٍ دون أن ينهل العبد من عذب زلاله وكريم معينه وطيب خيراته، ودون أن يغترف من بركاته وهداياته.
ولهذا -أيها العباد- لا بد مع القراءة للقرآن من تدبرٍ لكلام الرحمن وحرصٍ على نيل هدايات القرآن، قال الله -عز وجل-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء:82]، وقال الله -عز وجل-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].
وأخبر -جل في علاه- أن التدبر للقرآن هو أس الهداية وسبيل السعادة ووسيلة النجاة من الانحراف، قال الله -عز وجل-: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون:66-68]، أي: لو أنهم تدبروا القول لسلِموا من النكوص على الأعقاب ولهُدوا إلى صراط الله المستقيم، وأخبر الله -عز وجل- أنه إنما أنزل هذا القرآن العظيم المبارك من أجل أن يتدبر العباد دلالاته ويهتدوا بهداياته: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[ص:29].
أسأل الله العظيم أن يوفقنا أجمعين للاهتداء بهدايات القرآن والانتفاع ببركاته العظام إنه -جل وعلا- سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهمَّ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعِينا، وحافظًا ومؤيِّدا، اللهم وفِّق جنودنا في حدود البلاد بتوفيقك وأيدهم بتأييدك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنَّا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لهداك وأعنه على طاعتك وسدِّده في أقواله وأعماله يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى.
اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا وسدِّدنا. اللهم أعنَّا ولا تُعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا. اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، إليك أواهين منيبين، لك مخبتين لك مطيعين، اللهم تقبَّل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبِّت حُجَّتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة صدورنا.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.