الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | صالح بن فوزان الفوزان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
وحرم الاعتداء على العرض بقذف أوزنا، فشرع حد الزنا وحد القذف صيانة لأعراض بني آدم، وحرم الاعتداء على أموال الناس فشرع حد السرقة، وحد قطاع الطريق، وحرم الاعتداء على العقل فشرع حد المسكر- كل ذلك تكريماً لهذا الإنسان وحماية لمقوماته في الحياة ليعيش كريماً آمناً مطمئناً وأوجب عليه عبادته وحده لا شريك له ليواصل تكريمه في الدنيا والآخرة حين ينعم بجنّته وينجو من ناره
الحمد لله رب العالمين، خلق الإنسان في أحسن تقويم، ومنحه العقل والتفكير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله واذكروا نعمة الله عليكم، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء :70] ، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [غافر :64] (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان: 20]
أيها المسلمون: لقد كرم الله هذا الإنسان وفضله على كثير من مخلوقاته، وسخر له ما في السموات وما في الأرض، وحرم الاعتداء على حياته، أو على بدنه أو على عرضه أو على ماله بغير حق، فشرع القصاص لمن اعتدى على حياته بالقتل، أو اعتدى على جسمه بجرح أو قطع طرف: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [المائدة: 45]
وحرم الاعتداء على العرض بقذف أوزنا، فشرع حد الزنا وحد القذف صيانة لأعراض بني آدم، وحرم الاعتداء على أموال الناس فشرع حد السرقة، وحد قطاع الطريق، وحرم الاعتداء على العقل فشرع حد المسكر- كل ذلك تكريماً لهذا الإنسان وحماية لمقوماته في الحياة ليعيش كريماً آمناً مطمئناً وأوجب عليه عبادته وحده لا شريك له ليواصل تكريمه في الدنيا والآخرة حين ينعم بجنّته وينجو من ناره.
أيها المسلمون: وكما حمى الله الإنسان من عدوان غيره عليه، كذلك حماه من عدوانه على نفسه؛ فحرم على الإنسان أن يقتل نفسه أو يتسبب في قتلها؛ قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، وقال تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جنهم تردى فيها خالداً مخلداً أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوج أبها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار" رواه البخاري.
ويدخل في هذا الوعيد من تسبب في قتل نفسه بتناول مادة تضر بصحته وتسبب له الأمراض القاتلة؛ كالذي يشرب الدخان فإن الدخان ثبت ضرره بالتواتر والتجربة وبشهادات المختصين في الطب، وأنه يورث أمراضاً قاتلة، فمن تعاطاه فهو آثم، ومن مات بسببه فهو قاتل لنفسه، فيجب على ابتلي به أن يتوب ويستنقذ نفسه من خطره.
وكذلك حرم الله على الإنسان أن يعتدي على عقله بتعاطي شيء من المسكرات والمخدرات؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه" رواه أبو داود وابن ماجة وزاد: "وآكل ثمنها".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر" رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
والخمر: اسم لكل مسكر من أي مادة كان؛ سواء سمي خمراً، أو كحولاً، أو شراباً روحياً، أو كلونيا، أو غير ذلك فالأسماء لا تغير الحقائق؛ فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم: يقول: "يشرب ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها يضرب على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض، ويجعل الله منهم القردة والخنازير". رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
فيحرم على المسلم تعاطي المسكر بأي اسم سمي، وعلى أي شكل كان؛ مائعاً أو جامداً، خالصاً أو مخلوطاً مع غيره، وسواء تعاطاه للشهوة أو للذة، أو تعاطاه للتداوي؛ فعن وائل بن حجر أن طارق ابن سويد الجعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: "إنه ليس بدواء ولكنه داء"، رواه أحمد ومسلم وأبو داود، والترمذي وصححه.
وفي السنن: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء فقال: "إنها داء وليست بشفاء" رواه أبو داود والترمذي.
ومن الاعتداء على العقل تعاطي المخدرات التي تفسد العقل وتورث الخبال وتسهل فعل الفواحش والتعدي على الناس، وسواء كانت المخدرات من الحشيش والأفيون، أو على شكل حبوب؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والحشيشة المصنوعة من روق العنب، حرام أيضاً، يجلد صاحبها كما يجلد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج حتى يصير في الرجل تخنث ودياثة وغير ذلك من الفساد.
أيها المسلمون: كيف يليق بإنسان أنعم الله عليه بالعقل وفضله به على كثير من الخلق، أن يهبط إلى درجة الحيوانات وتعاطى ما يفسد عقله من المسكرات والمخدرات ويتعرض لسخط الله وعقوبته؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بيان مفاسد الخمر: وهي كريهة المذاق، وهي رجس من عمل الشيطان، توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة وتورث الخزي والندامة والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان وهم المجانين، تسهل قتل نفس وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته أو هلاكه؛ كم أهاجت من حرب وأفقرت من غني وأذلت من عزيز ووضعت من شريف، وسلبت من نعمة وجلبت من نقمة، وكم فرقت بين رجل وزوجته، كم أغلقت في وجه شاربها باباً من أبواب الخير وفتحت له باباً من الشر، فهي جماع الإثم ومفتاح الشر، وسلاّبة النعم وجلابة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد لكفى كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة" .
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، واكفنا بفضلك عن من سواك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة:90]