البحث

عبارات مقترحة:

الودود

كلمة (الودود) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) من الودّ وهو...

المصور

كلمة (المصور) في اللغة اسم فاعل من الفعل صوَّر ومضارعه يُصَوِّر،...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

إلا المجاهرين

العربية

المؤلف صالح بن محمد الجبري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. شناعة المجاهرة بالمعصية .
  2. المقصود بمعافاة الله للعبد في الدنيا والآخرة .
  3. شرح حديث: \"كل أمتي معافى\" .
  4. مفاسد الجناهرة بالمعصية .
  5. بعض صور ومظاهر المجاهرة بالمعاصي .
  6. أسباب المجاهرة بالمعاصي .
  7. وسائل النجاة من المجاهرة بالمعصية .
  8. التعامل الشرعي مع المجاهرين بالمعاصي .

اقتباس

يحميك في دينك؛ فلا يسلبك حلاوة الإيمان، ولا يغلق بوجهك أبواب الإحسان، وييسر بك السبيل إلى جنات عرضها كعرض السموات والأرض. يحميك في دينك؛ فيوفقك إلى سبل الهداية، وينجيك سبل الغواية والضلال. يكشف عنك الكرب، ويكفر عنك السيئات، ويسهل عليك الـ...

الخطبة الأولى:

يقول الله -تعالى-: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[النساء:148].

يقول ابن سعدي: "يخبر -تعالى- إنه: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ)[النساء:148] أي يبغض ذلك ويمقته، ويعاقب عليه.

ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب، ونحو ذلك، فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله.

فانظروا كيف أظهر الله بغضه للمجاهرين بالقول السيء من سب أو شتم أو قذف، فكيف بالمجاهرة بترك شعيرة من أركان الإسلام، أو المجاهرة بارتكاب كبيرة من الكبائر، أو فاحشة من الفواحش؟!

ولنا أن نستمع أيضا لقول الله -تعالى- مؤكدا على تحريم وتشنيع هذا الذنب: "المجاهرة" بالمعصية: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)[الأنعام:151].

يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: "وَلاَ تَقْرَبُوا الظَّاهِرَ مِنَ الأَشْيَاءِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْكُمُ الَّتِي هِيَ عَلاَنِيَةٌ بَيْنَكُمْ، لاَ تَنَاكَرُونَ رُكُوبَهَا، وَالْبَاطِنَ مِنْهَا الَّذِي تَأْتُونَهُ سِرًّا فِي خَفَاءٍ لاَ تَجَاهَرُونَ بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَرَامٌ".

وروى الإمام البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه".

سبحان الله! وعيد شديد، وزجر وتهديد، ترى من هذا الذي لم تسعه عافية الله وعفوه؟ ولماذا استحق كل هذا الغضب والسخط ممن وسعت عافيته السموات والأرض؟!

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل أمتي معافى".

قال العلماء: "معافى" من العافية، وما أدراك ما عافية الله –تعالى-!.

العافية، هي: حماية الله للعبد في دينه ودنياه.

يحميك في دينك، فلا يسلبك حلاوة الإيمان، ولا يغلق بوجهك أبواب الإحسان، وييسر بك السبيل إلى جنات عرضها كعرض السموات والأرض.

يحميك في دينك فيوفقك إلى سبل الهداية، وينجيك سبل الغواية والضلال.

يكشف عنك الكرب، ويكفر عنك السيئات، ويسهل عليك الطريق إلى التوبة.

وحمايته -تعالى- لك في دنياك: أن لا يسلط عليك أسباب الذل والحرمان، ولا يدعك في حاجة إلى أحد من الناس.

يعصمك من الآفات والعيوب، ويبعد عنك الكثير من المصائب والبلايا.

عافية في الدين، وعافية في العرض، وعافية في الجسد، وعافية في الأهل والولد، وعافية في العقل والمال، وعافية في كل أمر وحال؛ لذلك كان يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اسألوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية".

"كل أمتي معافى" قال العلماء: "قوله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي معافى" أي أن الله -سبحانه وتعالى- يغفر ذنب المذنبين، ويكفر سيئات المسيئين، ويقبل توبة التائبين، ما داموا يعصون ويستغفرون، وما داموا يتوبون إلى الله ويتضرعون: "إلا المجاهرين" فهؤلاء لا يعافون، المهاجرين بالمعاصي لا يعافون، الأمة كلها يعفو العفو عن ذنوبها، لكن الفاسق المعلن لا يعافيه الله -عز وجل- حتى يقلع عن جهره بالمعصية، وإعلانه بالفسوق.

وقال بعض العلماء: "إن المقصود بالحديث: "كل أمتي" يتركون في الغيبة، فلا يغتابون؛ لأن الله حمى عرض المسلم، فلا يجوز فضحه ما دام يستر عن نفسه.

"إلا المجاهرين" فلا يسترون؛ لأنه ما ستر هو نفسه، وكشف ستر الله عليه.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: "من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به".

وقد يقول قائل: لماذا كل الأمة معافى إلا المجاهر بالمعصية؟

والجواب: لأن في الجهر بالمعصية مفاسد كبيرة؛ منها:

أولا: أن في الجهر بالمعصية استخفافا بمن عصي، وهو الله -عز وجل-.

نعم، إنه يعصي الله علانية، إنه لم يخش خالقه!.

إنه لم يعظم المنعم عليه ورازقه!.

كيف يجرؤ على ذلك، والله -سبحانه وتعالى- يقول (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[نوح:13]؟

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : "ما لكم لا تعظمون الله حق تعظيمه".

والمجاهر لا يعظم الله، ولا يقدره حق قدره، بل إنه وبمجاهرته كأنه يقول: أعلم أنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، وأنك علي رقيب، ولعملي شهيد، ولكن مع ذلك كله أعصيك، وأعلن ذلك أمامك، وأمام كل من يراني من خلقك.

ثانيا: أن المجاهر قد عري من الحياء، مع أن الحياء من الإيمان، لكن المجاهر بالمعصية لم يخش خالقا، ولم يستح من مخلوق.

لم يراقب رب العالمين، واستخف بأفراد المجتمع المسلم وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة؛ إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت".

ثالثا: أن الجهر بالمعصية؛ فيه دعوة للناس إلى الوقوع في المعاصي، والانغماس فيها، حيث أن المجاهر يدعو بلسان حاله كل من رآه، أو سمع به، للاقتداء به، والسير على طريقه، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا"[مسلم عن أبي هريرة].

رابعا: أن الذي يفعل المعصية جهرا قد يستمر في هذا الفعل، ويصبح عنده أمرا عاديا، فربما أدى به ذلك إلى إباحته، واستحلاله.

ولا شك أن استحلال المعاصي، واستباحتها من أخطر الأمور على عقيدة المسلم، وقد يؤدي به ذلك إلى الخروج من دين الإسلام، وقد قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في مثل هذه المسألة: "هناك قسم ثالث فاسق مارد ماجن يتحدث بالزنى افتخارا -والعياذ بالله- يقول: إنه سافر إلى البلد الفلاني، وإلى البلد الفلاني، وفجر وفعل، وزنى بعدة نساء، وما أشبه ذلك، يفتخر بهذا".

قال الشيخ -رحمه الله- في حكمه: "هذا يجب أن يستتاب وإلا قتل؛ لأن الذي يفتخر بالزنى مقتضى حاله أنه استحل الزنى -والعياذ بالله-، ومن استحل الزنى فهو كافر"[شرح رياض الصالحين "1/116"].

خامساً: أن المجاهرة بالمعاصي؛ سبب في حلول عذاب الله بالناس، وظهور الأمراض والأوبئة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"[أحمد شاكر 3809].

سادسا: المجاهرة بالمعصية فحش وبذاء، والفاحش مبغوض من الله، والبذيء مصيره إلى النار، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يبغض الفاحش المتفحش".

وقال صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- : "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار"[صحيح النسائي "5061"].

البذاء: الفحش في الكلام.

سابعا: أن المجاهر يحرم نفسه من ستر الله عليه يوم القيامة، ذلك اليوم العظيم يخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يدنوا أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: نعم، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره حتى يقول: "إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم"[البخاري].

أيها الإخوة: إن لستر الله علينا نعمتان:

إحداهما: ظهورنا بالصورة الحسنة دائما أمام الخلق في الدنيا.

والأخرى: مغفرة الله -تعالى- لذنوبنا يوم القيامة عند الحساب.

لكن المجاهر الذي كشف ستر الله عليه في الدنيا؛ يحرم من ستر الله عليه في الآخرة عقوبة له، قال ابن بطال -رحمه الله-: "في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله، وبصالحي المؤمنين، وفيه ضرب من العناد لهم، وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها، ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد ومن التعزير إن لم يوجب حدا، وإذا تمخض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه؛ فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة، والذي يجاهر يفوته جميع ذلك".

نعم، لذلك قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حي ستير يحب الحياء والتستر".

قال ابن حجر: "من قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربه، فلم يستره، ومن قصد التستر بها حياء من ربه، ومن الناس، منَّ الله عليه بستره إياه".

"أغضب ربه!" ومع ذلك فما أكثر الذين يجاهرون بمعاصيهم اليوم، ويتعرضون لغضب ربهم وسخطه ليلا ونهارا!.

وظهرت في المجتمع صور للمجاهرة، لا حصر ولا عد لها؛ فمن صورها: الدعوة إلى الحكم بالعلمانية والليبرالية، كبديل عن الإسلام.

ومنها: الدعوة إلى وحدة الأديان، وتصحيح عقائد الكفر.

ومنها: الاحتفال بأعياد الكفار، وإعلان ذلك في الصحف والمجلات والقنوات، كالاحتفال بالكريسمس، وعيد الحب، وغيرهما.

ومن صور المجاهرة: خروج المرأة متعطرة متزينة، حاسرة عن وجهها، أو واضعة اللثام، أو النقاب، أو البرقع، بشكل ملفت للأنظار، أو مرتدية للعباءات الضيقة، أو الشفافة، أو المزركشة، إضافة إلى ظهور النساء؛ كممثلات ومغنيات، وراقصات ومذيعات، في وسائل الإعلام، وفي أوضاع لا يرضى بها دين ولا شرف، ولا عرف ولا فطرة سليمة.

ومن صور المجاهرة بالمعاصي: المعاكسات بأنواعها المختلفة من الجنسين.

ومنها: تصوير المعاصي والترويج لها بين الأصدقاء، أو عامة الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، وعن طريق أجهزة النقال، أو الإنترنت.

ومنها: الوسائل الهابطة التي يرسلها الشباب من الجنسين إلى الفضائيات، ومواقع الانترنت.

ومنها: المطالبة والمشاركة في التصويت في برامج الواقع، أو التصويت للمطرب المفضل، أو الأغنية المفضلة، أو المثل والممثلة المفضلة، أو الفيلم المفضل، وهكذا.

ومنها: تأليف القصص والروايات التي تتحدث عن الجنس الصريح، و‍‍طباعتها ونشرها.

ومنها: المقالات التي تهاجم الدين وأهله في بعض الصحف والمجلات، ووسائل التواصل الاجتماعي.

من صور المجاهرة: تشبه بعض الشباب بالغرب، وتقليدهم في الكلام والغناء واللباس والمركب وقصات الشعر، والحركات والافتخار بذلك.

ومن صور المجاهرة: تشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، وإعلان ذلك على الملأ.

ومنها: التفحيط بالسيارات في الشوارع العامة، ورفع مسجلات السيارات بالغناء.

ومنها: ترك الصلاة، والجلوس على أرصفة الشوارع، والتسكع في الطرقات، وقت الصلاة.

ومنها: لبس بعض الشباب للشورت الذي يظهر الفخذين، والسير به في الشوارع.

وكذلك: لبس السلاسل والفانيلات التي عليها صور خليعة، ولبس بعض الرجال للذهب والحديد.

ومن صور المجاهرة: السباب واللعن عمدا أمام الملأ.

ومنها: مزاولة أنشطة تجارية محرمة، كالبنوك الربوية، وتركيب القنوات الإباحية، وبيع المخدرات والشيشة والجراك.

ومنها: الغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء بالناس.

ومنها: تحدث الرجل أو المرأة بما يقع بينهما من الأمور الخاصة، رغم وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن يفعل ذلك بشيطان أتى شيطانة في الطريق، والناس ينظرون.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النــور:19].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

قد يقول قائل: ما الذي يجعل بعض الناس يتجرؤون على المجاهرة بمعاصيهم، وفضح أنفسهم أمام الله، وأمام الخلق؟

والجواب:

أولا: الجهل بعظمة الله -سبحانه-، وعدم معرفته حق المعرفة: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الزمر:67].

قال ابن القيم: "ولو تمكن وقار الله وعظمته في قلب العبد لما تجرأ على معاصيه، فإن عظمة الله -تعالى- وجلاله في قلب العبد، وتعظيم حرماته، تحول بينه وبين الذنوب"[الداء والدواء].

ثانيا: الغفلة عن الله، عن الدين، عن المصير، عن الجنة، عن النار، مما يسبب الطبع والختم على القلوب: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[النحل:108].

وأخبر الله عن أصحاب الغفلة؛ أنهم أصحاب قلوب قاسية، لا ترق ولا تلين، ولا تنتفع بشيء من الموعظة: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[البقرة:74].

ولهم أعين يشاهدون بها ظواهر الأشياء، ولكنهم لا يبصرون بها حقائق الأمور، ولا يميزون بها بين المنافع والمضار.

ولهم آذان يسمعون بها الباطل، كالكذب والفحش والغيبة، ولا ينتفعون بها في سماع الحق من كتاب الله، وسنة نبيه، فأنى لهؤلاء الفوز بالجنة وتلك حالهم؟ وأنى لهم الهدى والاستقامة وتلك طريقهم؟

يقول سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الأعراف: 179].

ثالثا: أصدقاء السوء؛ فالإنسان الذي يعيش في وسط يعج بالمعاصي والمنكرات، ويجالس أناسا أكثر حديثهم عن اللذات المحرمة، والنساء والشهوات، ولا يذكرون بصلاة أو عبادة، فالنتيجة أن الإنسان يتأثر بهؤلاء الرفقاء السيئين، ويأخذ من طبعهم، فيقسو قلبه ويغلظ، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".

رابعا: فعل المعاصي، وأمثال هؤلاء يرتبكون المعاصي بشكل مستمر ومتتابع، حتى تعمى قلوبهم، ويتحول المعروف عندهم إلى منكر، والمنكر إلى معروف، وهذا كله بسبب فعل المعاصي: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين:14].

الران: الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب.

خامسا: الفضائيات التي ثبت الأفلام والمسلسلات التي تجعل الشباب والشابات يتجرؤون على الانحراف بكل أنواعه، تقليدا ومحاكاة للنموذج الغربي، والتي تقدم ما يسمى: "برامج الواقع" وغيرها.

والتي تعلم الإنسان الرضا بالمنكر، والتعايش معه، واعتباره شيئا مألوفا.

وهذا الأمر هو أخطر ما يواجه شبابنا اليوم، وصدق الله: (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا)[النساء:27].

كيف ننجو بأنفسنا من المجاهرة بالمعاصي؟ وكيف نتعامل مع المجاهرين؟.

أولا: يجب على الإنسان منا إذا وقع في معصية، أو هفوة، أو زلة، وستره الله، يجب عليه: أن يستر نفسه، وأن يتوب بينه وبين الله، ولا يتحدث بشيء لأحد، عما فعله، حتى يكون من المعافين، لذا يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اجتنبوا هذه القاذورات، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته؛ نقم عليه حدود الله".

ثانيا: ليس المطلوب هو ترك المجاهرة بالمعاصي فقط، ولكن المطلوب هو ترك المعاصي كلها، وبالكلية؛ لأنها قبيحة العواقب، سيئة المنتهى.

وإذا وقع الإنسان في معصية، فليبادر إلى التوبة والاستغفار، عملا بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)[آل عمران: 135].

ثالثا: لا بد أن نربي أنفسنا وأولادنا وبناتنا على تذكر الموت، واليوم الآخر، والخوف من لقاء الله -تعالى-، ومن الوقوف بين يديه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات:40- 41].

وأن الذين يدخلون الجنة، هم الذين يقضون حياتهم في الدنيا مع القرآن؛ كما حكى الله عنهم: (قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)[الطور: 26- 27].

والخوف، لا يعني السلبية والجمود، كما أنه لا يمنع التمتع بالحلال من متع الحياة.

ولكنه يضبط سلوك الإنسان في الدنيا على منهج الله.

رابعا: نقول لأبنائنا وبناتنا: احذروا من أن تقتدوا بالمجاهرين بمعاصيهم، وفواحشهم، جهارا نهارا، باسم الفن والأدب، فهؤلاء أعدى الأعداء؛ لأنهم هم سلاح أعداء الإسلام في إفساد أبناء وبنات المسلمين.

واقتدوا بمن يستحق الاقتداء به.

اقتدوا برسولكم العظيم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإخوانه الأنبياء، وبأجدادكم العظماء من الصحابة والتابعين: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)[الأنعام: 90].

خامسا: يجب على أفراد المجتمع هجر المجاهرين بالمعاصي، إن كانوا أفرادا أو جماعات، سلوكا كان أم أفكارا، حتى لا يستفحل المنكر، عملا بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقله، وذلك أضعف الإيمان".

قال ابن تيميه: إن المظهر للمنكر يجب الإنكار عليه علانية، ولم يبق له غيبة، ويجب أن يعاقب علانية بما يردعه، وينبغي لأهل الخير أن يهجروه ميتاً كما هجروه حيا؛ إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين.

كما ذكر أهل العلم: أن المجاهر إذا دعاك إلى وليمة، فلا يجاب، وإذا مرض فلا يعاد، وإذا مات لا يصلى عليه أهل الفضل، ولا يتبعون جنازته، ردعا لأمثاله.

سادسا: تفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".

وأخيرا: لا زال مجتمعنا -ولله الحمد- مجتمع خير، لا يرضى بما يغضب الله، ولا يرضى ما يخالف الأخلاق والقيم.

وهذا لا يعني عدم وجود عصاة أو مذنبين فيه، لكن وجود المعصية شيء، والمجاهرة بها شيء آخر.

يجب الوقوف أمامه بالطرق الشرعية والنظامية المعتمدة في مثل هذه الحالات، حتى يفكر كل عاصي ألف مرة، قبل أن يجرؤ على إظهار معصيته، أو الإعلان بها.

ونسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يتجاوز عن الجميع ويغفر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

اللهم صل على من بلغ البلاغ المبين.

اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.

يا من أظهر الجميل، وستر القبيح، ويا من لا يؤاخذ بالجريرة، ولا يهتك الستر، يا عظيم العفو، يا حسن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، يا منتهى كل شكوى، يا كريم الصفح، يا عظيم المن، يا مبتدئ النعم، يا ربنا وسيدنا ويا مولانا؛ نسألك يا الله أن تستر علينا في الدنيا والآخرة، وأن لا تفضحنا في الدنيا ولا في الآخرة.

اللهم ارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أبقيتنا، وارحمنا أن نتكلف ما لا يعنيننا، وارزقنا حسن النظر فيما يرضيك عنا.