الغفار
كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أعلام الدعاة |
الأنصارِ وَصَفَهُمُ اللهُ بالصِّفاتِ التي تحقَّقوا بها, ثمَّ شَهِدَ لهم بالفلاحِ، فمن صفات الأنصارِ: الحُبُّ لبعضِهِمُ البعضِ, الحُبُّ لإخوانِهِمُ المهاجِرينَ, الحُبُّ الصَّادِقُ, حيثُ أحبُّوا لإخوانِهِم ما أحبُّوهُ لأنفُسِهِم, وبذلكَ كَمُلَ إيمانُهُم؛ لأنَّ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: الصَّادِقُ في محبَّةِ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يُعطِي أجمَلَ صورَةٍ وأنقاهَا عن هذهِ المحبَّةِ.
ولا أظُنُّ أنَّ أحداً كانَ أعظَمَ صِدْقاً في محبَّةِ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- من الصَّحبِ الكِرامِ -رَضِيَ اللهُ تعالى عَنهُم-.
نَعَمْ, لقد ظَهَرتْ صِفاتُ المَحبوبِ في المُحِبِّ, وظَهَرتْ صِفاتُ المَتبوعِ في التَّابِعِ, وظَهَرتْ صِفاتُ وأخلاقُ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- في الصَّحابَةِ الكِرامِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-, حتَّى شَهِدَ اللهُ -تعالى- لهم بذلكَ بقولِهِ تعالى: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29].
يا عبادَ الله: لقد شَهِدَ اللهُ -تعالى- للمُهاجِرينَ بالصِّدقِ في إيمانِهِم, وبالصِّدقِ في نِيَّاتِهِم, وبالصِّدقِ في التِزامِهِم، بقولِهِ تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8] شهادَةٌ من الله -تعالى- لَهُم, شهادَةٌ من الخالِقِ للمَخلوقِ, فهل من شاهِدٍ لنا من الخَلْقِ في صِدقِنَا؟ نحنُ بحاجَةٍ إلى الصِّدقِ الذي كانَ عندَ المُهاجِرينَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُم-.
أمَّا بالنِّسبَةِ للأنصارِ -رَضِيَ اللهُ تعالى عَنهُم-, فقد وَصَفَهُمُ اللهُ -تعالى- لنا بالصِّفاتِ التي تحقَّقوا فيها, ثمَّ شَهِدَ لهم بالفلاحِ, فقال تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
فَصِفاتُ الأنصارِ:
أولاً: الحُبُّ لبعضِهِمُ البعضِ, الحُبُّ لإخوانِهِمُ المهاجِرينَ, الحُبُّ الصَّادِقُ, حيثُ أحبُّوا لإخوانِهِم ما أحبُّوهُ لأنفُسِهِم, وبذلكَ كَمُلَ إيمانُهُم؛ لأنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- يقولُ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" [رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
وعندما كانوا صادِقينَ في هذا الحُبِّ كانوا كالجَسَدِ الواحِدِ الذي أشارَ إليه النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- بقولِهِ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ, إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [رواه الإمام مسلم عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
ثانياً: التَّجَرُّدُ من الحَسَدِ تُجاهَ إخوانِهِمُ المهاجِرينَ مهما أوتوا من شيءٍ مادِّيٍّ أو مَعنَوِيٍّ, فَصُدورُهُم صافِيَةٌ طاهِرَةٌ, لا تنطوي على غِلٍّ ولا على حساسِيَةٍ تُجاهَ إخوانِهِمُ المهاجِرينَ, كما أنَّها واسِعَةٌ لا تضيقُ بتقديمِهِم أو تقَدُّمِهِم.
وكذلكَ هُم قانِعونَ راضونَ بما آتاهُمُ اللهُ -تعالى- ولو كانَ قليلاً؛ لأنَّهُم سَمِعوا حديثَ الحبيبِ المصطفى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- الذي رواه الترمذي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ الله بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ, مُعَافىً فِي جَسَدِهِ, عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ, فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا".
فَصُدورُهُم سليمةٌ من الحِقدِ والحَسَدِ تُجاهَ إخوانِهِمُ المهاجِرينَ إذا أكرَمَهُمُ اللهُ -تعالى- بشيءٍ, وقُلوبُهُم راضِيَةٌ بما قَسَمَ اللهُ -تعالى- لهم ولو كانَ قليلاً.
ثالثاً: الإيثارُ, الذي هوَ رحمةٌ من الله -تعالى- يُسكِنُها قُلوبَ من أحَبَّ من عِبادِهِ, والإيثارُ هوَ تقديمُ الغيرِ على النَّفسِ في حُظوظِها الدُّنيَوِيَّةِ, رَغبةً في الحُظوظِ الدِّينِيَّةِ.
يا عباد الله: الأنصارُ بشهادَةِ الله -تعالى- تجاوزوا مرحلةَ العدْلِ إلى الفضْلِ, تجاوزوا مرحلةَ الإسلامِ إلى الإحسانِ, لم يقتَصِروا على دَفْعِ الزَّكاةِ التي هيَ من صِفاتِ المسلمينَ التي أشارَ اللهُ -تعالى- إليها بقولِهِ: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم) [المعارج: 24 - 15] بل ارْتَقَوا إلى العطاءِ بدونِ حُدودٍ, وهذا من صِفاتِ المحسنينَ الذينَ أشارَ اللهُ -تعالى- إليهم بقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِين * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُون * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات: 19 - 15].
يا عباد الله: إنَّ الإيثارَ خُلُقٌ لا يستطيعُهُ إلا من أيقَنَ بأنَّ اللهَ -تعالى- سوفَ يُخلِفُ عليه, وأنَّ اللهَ -تعالى- سَيُكافيه علىه أضعافاً مُضاعفةً, فمن آمَنَ بالله -تعالى- واليومِ الآخِرِ فإنَّهُ يَبني حياتَهُ على العطاءِ, قال تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ, فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً, وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً" [رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-].
إنَّ الإيثارَ خُلُقٌ لا يستطيعُهُ إلا من عَلِمَ بأنَّ الدُّنيا مزرعةٌ للآخِرَةِ, وعَلِمَ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى الله" [رواه الإمام أحمد عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
وعَلِمَ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "اِغتَنِمْ خَمْساً قَبلَ خَمسٍ: شَبابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِناءَكَ قَبلَ فَقْرِكَ، وَفَراغَكَ قَبلَ شُغْلِكَ، وَحَياتَكَ قَبلَ مَوْتِكَ" [رواه الحاكم عن ابنِ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُما-].
إنَّ الإيثارَ خُلُقٌ لا يستطيعُهُ إلا منِ استَحضَرَ الجنَّةَ ونعيمَها, وامتَثَلَ قولَ الله -تعالى-: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133].
وامتَثَلَ قولَ الله -تعالى-: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92].
إنَّ الإيثارَ خُلُقٌ لا يستطيعُهُ إلا منِ امتلأ قلبُهُ رحمةً على عِيالِ الله -تعالى-, وسَمِعَ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ" [رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
وفي رواية الترمذي وأبي داود: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ".
وسَمِعَ حديثَ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ الله، فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَى الله أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ" [رواه الطبراني في الكبير عَنْ عَبْدِ الله -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-].
يا عباد الله: لِيسألْ كلُّ واحدٍ منَّا نفسَهُ: أينَ أنا من صِفاتِ المهاجرينَ؟ وأهمُّها: الصِّدْقُ. وليسألْ كلُّ واحدٍ منَّا نفسَهُ: أينَ أنا من صِفاتِ الأنصارِ؟ وأهمُّها: الإيثارُ.
يا عباد الله: واللهِ لا خَيْرَ فينا إذا لم نَهتدِ بِهَدْيِ المهاجرينَ والأنصارِ الذينَ اهتَدَوْا بِهَدْيِ سيِّدِنا رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, واحفَظوا قولَ الله -تعالى-: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].