القاهر
كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
الصوم يدرِّبُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختيارِه عن كثيرٍ من الأخلاقِ السيئة.. ويضعُ له منهجاً للتغييرِ ويُعطيه فترةً تدريبية هي عُمر شهرِ رمضان المبارك.. فأيُ قانونٍ من قوانين البشر يحقق ذلك؟! وأيُ أمةٍ من الأمم تجدُ فرصةً تستطيع من خلالِها فرضَ نمطٍ من أنماطِ التربية لشعبِها بمزاولةِ فكرةٍ نفسيةٍ واحدةٍ كلَ سنة وخلالَ ثلاثين يومًا لترتقي بأخلاقها؟! ألا ما أعظمَ الإسلام، وما أروعَ الصيام.. دعونا نقف مع حديث عظيم تضمن النهي عن عددٍ من الصفات السيئة والخلال الذميمية في رمضان...
الخطبة الأولى:
أيها الأحبة: رمضانُ فرصةٌ لتربيةِ النفوسِ، وتقويةِ الإرادةِ فيها، والارتفاعِ بها في سُلم الأخلاقِ الفاضلة، والنأيُ بها عن السيئ من الأخلاق.. إن رؤيةَ هلالِ الصيام في السماء هو إشارةٌ لبدءِ معركةِ الإرادة وقوةِ العزيمة للتخلصِ من الأخلاقِ السيئة والتحلي بالحلم وحسن الخلق..
فالصوم يدرِّبُ المسلمَ على أن يمتنعَ باختيارِه عن كثيرٍ من الأخلاقِ السيئة.. ويضعُ له منهجاً للتغييرِ ويُعطيه فترةً تدريبية هي عُمر شهرِ رمضان المبارك.. فأيُ قانونٍ من قوانين البشر يحقق ذلك؟!
وأيُ أمةٍ من الأمم تجدُ فرصةً تستطيع من خلالِها فرضَ نمطٍ من أنماطِ التربية لشعبِها بمزاولةِ فكرةٍ نفسيةٍ واحدةٍ كلَ سنة وخلالَ ثلاثين يومًا لترتقي بأخلاقها؟! ألا ما أعظمَ الإسلام، وما أروعَ الصيام...
أحبتي: دعونا نقف مع حديث عظيم تضمن النهي عن عددٍ من الصفات السيئة والخلال الذميمية في رمضان فعن أبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "قَالَ اللَّهُ -تعالى- كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ". وفي رواية قال: "فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ" (رواه البخاري).
وعند مسلم: "فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ".
وعند ابن خزيمة: "وَلَا يَجْهَلْ فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ". ولفظه عند أحمد: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَجْهَلْ، وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا، فَإِنْ جَهِلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أَوْ آذَاهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ" (رواه أحمد وصححه الألباني).
وفي الموطأ "فَإِنِ امْرُؤ قَاتَلَهُ أو شَاتَمَهُ فليقل: إِنِّي صَائِمٌ". وعند سعيد بن منصور: "فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يُجَادِلْ".
أخي الحبيب: تأمل معي ما نهى عنه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نهياً صريحاً في هذه الروايات الصحيحة من الأخلاق السيئة حيث قال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ.. وَلَا يَصْخَبْ.. وَلَا يَجْهَلْ.. وَلَا يُؤْذِي أَحَدًا.. وَلَا يُجَادِلْ". وقبل أن نتأمل ما فيها من أحكام ودروس لا بد أن نتعرف على معانيها..
قوله: "فَلَا يَرْفُثْ": قال ابن عبد البر الرفث هنا: الكلام القبيح، والتشاتم، والتلاعن، ونحو ذلك من قبيح الكلام الذي هو سلاح اللئام. ومنه اللغو كلُه، والباطل، والزور.. وقال في اللسان الرفث: أَصله قول الفُحْش. وقال ابن حجر: "الرفث الكلام الفاحش"، وقيل غير ذلك..
"وَلَا يَصْخَبْ" وعند مسلم "وَلَا يَسْخَبْ"، قال في لسان العرب: والسَّخَب والصَّخَب بمعنى الصياح، والصادُ والسينُ يجوزُ استخدامها في كُلِّ كَلِمَة فيها خاءٌ. والمقصود: بالصَّخَب والسَّخَب: الضَّجّة واختلاط الأَصوات للخِصام.
"وَلَا يَجْهَلْ": أي لا يفعلْ شيئاً من أفعال أهل الجهل كالصياحِ والسفهِ، وأذيةِ مشاعرِ الآخرين بكلمة أو أن يجرحهم بإشارة ونحو ذلك.
"وَلَا يُجَادِلْ": الجَدَلُ، هو شدّة الخصومة.
أيها الإخوة: المتأمل لهذا الحديث: يرى أن كل هذه الصفات تتعلق بعمل اللسان.. وهي إشارة بالغة الأهميةِ لأهميةِ التخلص من آفاتِ اللسانِ وأثرِها الفَتَّاكِ بالأمة، لذلك جعل الله –سبحانه- هذا الشهر دورة تدريبية للتخلص من هذه الآفات.
وفيه: أن محافظةَ المسلم على الامتناع من هذه الصفات الذميمة، وصيانةَ اللسان منها وتوطينِه على الخلاص منها طيلة شهر رمضان يكون دافعاً لاعتياده في سائر الأيام، وكافة الأحوال.. قال القرطبي: "لا يفهم من هذا أن غير الصوم يباح فيه ما ذكر، وإنما المراد أن المنع من ذلك يتأكد بالصوم.. للمعنى الجليل الذي ذكرنا".
قال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "ومما يؤكده هذا الحديث: الحكمة من فرض الصوم حيث قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ"، يعني: لا يقول قولاً يأثم به ولا يصخب فيتكلم بكلامِ صخبٍ بل يكون وقوراً مطمئناً متأنياً، فإن سابَّه أحدٌ أو شاتَمه فلا يرفع صوته عليه بل يقول: إني صائم.
يقول ذلك لئلا يتعالى عليه الذي سابَّه كأنه يقول: أنا لست عاجزاً عن أن أقابلك بما سببتني؛ ولكني صائمٌ يَمْنَعُنِي صومي من الرد عليك، وعلى هذا فيقوله جهراً.. فإذا قال: إني صائم ارتدعت نفسه عن مقابلة هذا الذي سابَّه؛ كأنه يقول لنفسه مذكراً لها: "إني صائم فلا تَرُدْي على هذا الذي سبَّ"، وهذا المعنى جليل عظيم..
وفيه حث للصائم على لزوم الحلم، وكظم الغيظ، ومقابلة الإساءة بالإحسان..
ومن الدروس المستفادة: أنه إذا تهيأ أحدٌ لمقاتلة الصائم أو مشاتمته فليقل إني صائم؛ فإنه إذا قال ذلك أمكن أن يكفّ عنه الخصم.. فإن أصر دفعه بالأخف فالأخف كالصائل الذي يروم مقاتلةً حقيقة..
أسأل الله بمنَّه وكرمه أن يحفظ علينا صيامنا من المفسدات، وأن يعيننا على التخلص من كل خلق ذميم إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
أيها الأحبة: دخل رمضان ففرحنا به وهنَّأ بعضنا بعضاً بمقدمه الميمون، ومن حرارة تهانينا تُصاب شبكات الاتصالات بالشلل ويقف نظامها لكثرة طالبي الاتصال والكمّ الضخم من رسائل التهنئة الجوالية، وفيها حمدٌ على البلاغ وحثّ على استثمار الأوقات الفاضلة.. ويقوم كثير من الناس بالتزاور للتهنئة بالقادم العزيز..
وهذا أعظم مظهر من مظاهر فرحنا بشهر رمضان.. وربما عبر غيرنا بوضع الزينات وإشعال المصابيح وإطلاق المدافع فرحا بهذا الشهر الجليل..
أحبتي: كم نسعد بهذه الفرحة وهذا السرور بدخول هذا الشهر الكريم، وهو دليل لا يقبل الجدل أننا بخير وإلى خير إن شاء الله، فالحمد لله رب العالمين.
أيها الإخوة: ما فرحنا به وتبادلنا فيه التهاني وحث بعضُنا بعضاً على استثماره اقترب انتصافه. وهنا سؤال مهم يجب أن يجيب عليه كل واحد منا.
هل دخل رمضان إلى قلوبنا...؟ وهل تغير في حياتِنا شيء عدا مواعيد الأكل والشرب والنوم...؟ لنسأل أنفسنا هذه الأسئلة الآن ونُسمعها الجواب..
فإن كان الجواب بنعم، وهذا هو المتوقع إن شاء الله.. اجلس مع نفسك جلسة مفتوحة تستعرض فيها الجوانب التي تغيرت، وأثرها عليك.. وجميل أن نجعلها في الساعة الأخيرة من هذا اليوم المبارك.. اخترتها لأنها ساعة إجابة ومن صائم مجاب الدعوة.. فإن وجدت خيراً فاسأله الثبات والمزيد من فضله..
وإن وجدت تقصيراً فاسأله العون على العزم على التغيير للأفضل والأحسن، ومتى ما علم الله -تعالى- منك حسن النية وطلب التغيير للأفضل سيعينك، قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69]، قال الشيخ السعدي: "دلت الآية على أن من أحسن فيما أُمرَ به أعانه اللّهُ، ويَسَّرَ له أسبابَ الهدايةِ، وعلى أن مَن جَدَ واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصلُ له من الهداية والمعونة على تحصيلِ مطلوبِهِ أمورٌ إلهيةٌ، خارجةٌ عن مدركِ اجتهادِهِ، وتيسَّر له أمر العلم".
ومما يتوقع من الإجابات: نعم تغيرت بفضل الله، فلم تفتني صلاة الجماعة.. وقمت بزيارة يومية لوالدي.. زرت جميع إخواني وأخواتي وأعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي أو هاتفتهم مهنئاً لهم بهذا الشهر..
حافظت يومياً على الرواتب والأذكار وقراءة جزء من كتاب الله.. حافظت على صلاة التراويح والوتر كل ليلة.. أخرجت زكاة مالي وساهمت في تفطير الصائمين وتصدقت بصدقة تطوع.. أزلت الشحناء من قلبي والحقد والحسد.. عدلت مفاهيم في عقيدتي.. فقد زادت قوة ارتباطي بربي من خلال الذكر والدعاء والتوسل له بأسمائه الحسنى وصفاته العليا فقط.. لم أجعل بيني وبين ربي وسيطاً..
وزادت مراقبتي لربي بترك نواهيه في خلوتي لعلمي بعظم ذنب الخلوة هذا الذنب الذي حذر منه رسول الله فَعَنْ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَوْلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا, فَيَجْعَلُهَا اللهُ -عز وجل- هَبَاءً مَنْثُورًا" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُمْ لَنَا, جَلِّهِمْ لَنَا, أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ.. قَالَ: "أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ, وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ, وَيَأخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا" (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
وربما أجاب بعضنا بـ(لا) عن هذه الأسئلة أو بعضها! ويسأل هل يمكن أن ألحق بهذا الركب المبارك..؟ نقول له: نعم اركب معهم وعجِّل.. فها هو المنادي ينادي؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ" (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني).
أجل يا باغي الخير أقبل، وتذوق طعم الإيمانِ والطاعةِ فليس لهما مثيل.. ويا باغي الشر أقصر... فهذا زمن فاضل والذنب فيه كبير.