السميع
كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - السيرة النبوية |
إنها منحة ربانية أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ، في وقت هو في أشد الحاجة إليها ؛ إذ سدت طرق الدعوة في وجهه ، واشتد تعذيب المؤمنين به ، ومات المحامي عنه ، ومع بلوغ الكرب مداه جاءت هذه الكرامة مزيلة للكرب، مثبتة للقلب.
ولا أدل على ثبات قلبه عليه الصلاة والسلام وشجاعته عقب هذه الرحلة المباركة من إخباره غيره بتفاصيلها ، إنها رحلة في غاية الغرابة عند البشر ، وفيها من خوارق ما اعتادوه شيء كثير
الحمد لله؛ خص رسله بالرسالات، وأيدهم بالمعجزات، وأكرمهم بالآيات، أحمده كما ينبغي أن يحمد ، وأشكره كما يجب أن يشكر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ دلت أسماؤه وصفاته على عظمته ، وبرهنت آياته في خلقه على قدرته ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ أسرى به ربه إلى المسجد الأقصى ، وعرج به إلى السموات العلى ، فأبصر ما أبصر من آياته الكبرى ، ما كذب الفؤاد ما رأى ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ؛ أهل البر والتقى ، والتابعين لهم ، ومن سار على طريقهم واهتدى.
أما بعد:
فاتقوا الله -أيها الناس- وأطيعوه ؛ فإن تقوى الله عز وجل مخرج من الضوائق ، وهي منجاة في الشدائد (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطَّلاق:3].
أيها الناس: من سنة الله تعالى في عباده المؤمنين ابتلاؤهم وتمحيصهم ؛ ليميز صادقهم من كاذبهم ، ويظهر مؤمنهم من منافقهم ، ويتبين خبيثهم من طيبهم (مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران:179].
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) [العنكبوت:3].
ولكن الله تعالى برحمته وحكمته يثبت المؤمن الصادق على إيمانه ، ويربط على قلبه ، فلا يحيد عن دين الله تعالى الذي ارتضاه له مهما اشتد به الأذى ، ومهما عظمت المحنة ، ثم يكون الفرج بعد الشدة ، واليسر عقب العسر ، وتكون المنحة في إثر المحنة ، وهكذا كان مع أفضل الخلق:رسل الله عليهم الصلاة والسلام ؛ إذ ابتلاهم الله تعالى ، فلما آمنوا وصبروا ؛ أراهم الله تعالى من آياته الكبرى ما يزيدهم إيمانا إلى إيمانهم ، وثباتا على ثباتهم ، وجعل العاقبة لهم على من عاداهم.
هذا نبي الله موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، أوذي من قبل فرعون وجنده ، وهاجر في سبيل الله تعالى، فلما أذن الله تعالى له بالرسالة ، وأراد تكليفه بالدعوة ؛ كلمه من وراء حجاب ، وأطلعه على شيء من قدرته ؛ ليعلم أن قوة فرعون وجنده مهما بلغت فهي تحت قدرة الله تعالى ، فلا يتقاعس عما كلف به رهبة من فرعون وجنده (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الكُبْرَى) [طه:17-23].
نعم ، إنها آيات كبرى يؤيد الله تعالى بها من شاء من عباده، وتكون سببا في ثباتهم ويقينهم.
ورسولنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام أوذي أشد الأذى ، وثبت أعظم الثبات ، وصبر أجمل الصبر ؛ ممتثلا أمر ربه سبحانه حين قال له (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) [الأحقاف:35] .
وحين تتابع عليه البلاء بموت عمه وزوجه ، واشتد به أذى المشركين في عام سمي: عام الحزن لأجل ذلك ؛ أيده الرب جل جلاله بالآية الكبرى ، وأكرمه بالمنحة العظمى؛ جزاء صبره ويقينه ، فأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم عرج به إلى السموات العلى ، وكلمه العلي الأعلى بلا واسطه ، في حادثة عظيمة، أجمل الله تعالى ذكرها في سورتي النجم والإسراء ، وفصل النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ما رأى ، ووصف الله عز وجل ذلك بالآيات الكبرى ؛ فقال في سورة الإسراء (لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا) [الإسراء:1] وقال في سورة النجم (لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى) [النَّجم:18].
إنها منحة ربانية أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ، في وقت هو في أشد الحاجة إليها ؛ إذ سدت طرق الدعوة في وجهه ، واشتد تعذيب المؤمنين به ، ومات المحامي عنه ، ومع بلوغ الكرب مداه جاءت هذه الكرامة مزيلة للكرب، مثبتة للقلب.
ولا أدل على ثبات قلبه عليه الصلاة والسلام وشجاعته عقب هذه الرحلة المباركة من إخباره غيره بتفاصيلها ، إنها رحلة في غاية الغرابة عند البشر ، وفيها من خوارق ما اعتادوه شيء كثير ، والعادة أن الإنسان إذا وقع له ما يستغرب أخفاه ؛ لئلا يكون عرضة للتكذيب ، ولا سيما إذا لم يملك دليلا على إثباته ، وإن أبت نفسه إلا الإخبار به قصره على أقرب الناس إليه ، وهو على وجل من تكذيبهم له ؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ من ثباته وشجاعته عقب هذه الرحلة المباركة: "أنْ أخبر عن رحلة أرضية يستحيل وقوع مثلها في وقته ، وأعظم من ذلك يتحدث عن رحلة سماوية فيها من العجائب ما فيها ، ويحدث بها من ؟ إنه يرمي بها في نحور أعدائه بكل ثقة واطمئنان ، حتى إن أم هانئ رضي الله عنها لما أخبرها بها ، حاولت منعه من إخبار الناس ؛ لئلا يكذبه المؤمنون به ، فتعلقت بردائه وقالت: أنشدك الله يا ابن عمي أن تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك فضرب بيده على ردائه فانتزعه من يديها"
ومضى عليه الصلاة والسلام فمر به عدو الله أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ:هل كان من شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ، قال: ما هو؟ قال: إنه أسرى به الليلة؟ قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه، قال أبو جهل: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:نعم، فقال أبو جهل: هيا معشر بني كعب بن لؤي0حتى قال: فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك بما حدثتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إني أسري بي الليلة، قالوا: إلى أين؟ قلت:إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال: نعم، قال: فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب زعم".
وفي رواية: "فضجوا وأعظموا ذلك ، وصار بعضهم يصفق ، وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا واستنكارا ، فقال المطعم بن عدي: كل أمرك قبل اليوم كان أَمَمَا-أي:يسيرا قريبا- غير قولك اليوم ، أنا أشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس نصعد شهرا، وننحدر شهرا ، تزعم أنك أتيته في ليلة ، واللات والعزى لا أصدقك ، وما كان هذا الذي تقول قط…"
قالوا: "وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت، قال:فجيء بالمسجد وأنا أنظر، حتى وضع دون دار عقال أو عقيل، فنعته وأنا أنظر إليه قال:وكان مع هذا نعت لم أحفظه ،قال: فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب"
وفي حديث آخر :قال صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به" رواه الشيخان.
لقد ظهرت حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبان صدقه ، ولكن المصدود عن الحق لن يؤمن ولو جاءته كل آية ، فانتقلوا إلى نوع آخر من البينات يريدونه "قالوا: يا مطعم ، دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس ، يا محمد، أخبرنا عن عيرنا ؟ فقال: أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد أضلوا ناقة لهم ، فانطلقوا في طلبها ، فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد ، وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك ؟ فقالوا: هذه و الإله آية، ثم انتهيت إلى عير بني فلان فنفرت مني الإبل ، وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخيط ببياض لا أدري أكسر البعير أم لا فاسألوهم عن ذلك ؟ قالوا:هذه والإله آية ، ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم يقدمها جمل أورق، وها هي ذه تطلع عليكم من الثنية0 فقال الوليد بن المغيرة ساحر ، وانطلقوا فنظروا فوجدوا الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام فرموه بالسحر وقالوا صدق الوليد بن المغيرة فيما قال"
وهكذا حال المكذبين ، يطلبون الأدلة والبراهين ؛ حتى إذا رأوها رأي العين ؛ انصرفوا عن التصديق ، وصدوا عن الحق بحجج واهية.
شأنهم في ذلك شأن من أخبر الله تعالى عنهم بقوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام:111] ووصفهم في الآية الأخرى فقال سبحانه: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأعراف:146] وفي سورة يونس: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ) [يونس:97].
وأما طلاب الحق ، أهل الإيمان واليقين ، فلا يردهم عن إيمانهم تكذيب مكذب ، ولا استهزاء مستهزئ ، ولا حرب محارب، حالهم حال المستجيبين لنداء الله تعالى حين أمرهم بالإيمان ، فأخبر عز وجل عنهم بأنهم قالوا (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا) [آل عمران:193].
"كان منهم الصديق الأول في هذه الأمة أبوبكر رضي الله عنه، حين أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بخبر الإسراء ، وأن بعض من آمن به من قبل قد ارتدوا ، وأن كبار قريش جعلوا حديثه موضعا للسخرية والاستهزاء ، فبادر رضي الله عنه إلى تصديقه وبيان حجته في ذلك ؛ كما روت عائشة رضي الله عنها فقالت لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال أو قال ذلك قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح فقال نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبا بكر الصديق رضي الله عنه" رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الزُّمر:35].
بارك الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين،والعاقبة للمتقين،ولا عدوان إلا على الظالمين،ولا أمن إلا للمؤمنين،وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أما بعد:
فاتقوا الله-عباد الله- وأطيعوه،واشكروه على نعمه ولا تكفروه ؛فإن في الشكر دوام النعم وزيادتها ،وفي كفرها زوالها وتبديلها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
أيها المسلمون: يحتاج المسلمون إلى مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بين حين وآخر ؛ لاستلهام الدروس والعبر، والاقتداء بخير البشر ، في إيمانه ويقينه ، وصبره وثباته ، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه الطاعنون في دين الله تعالى ، المشككون في وعده ووعيده ، من الكفار والزنادقة والمنافقون.
وفي حادثة الإسراء والمعراج أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها المشركين كما أخبرهم بتفاصيلها ، وما جرى له وما رأى غير هياب ولا وجل من تكذيبهم أو استهزائهم، وأثبت لهم حقيقة هذه الرحلة المباركة بالآيات والبينات ، ولم يخف شيئا خوفا من تكذيبهم ، أو حذرا من استهزائهم ؛ فسخروا منه وكذبوه وقالوا ما قالوا ، وتلك سنة الكافرين في كل زمان ومكان.
وفي عصرنا هذا كثرت طعون الكافرين والمنافقين في شريعة ربنا ، تكذيبا وتحريفا ، يعينهم في إفكهم وضلالهم أقوام من بني جلدتنا ، ينطقون بألسنتنا ، ومع كثرت تشكيكهم في شريعة ربنا ، وتحريفهم لكلامه عز وجل ، ورده لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أصاب بعض النفوس الضعيفة ما أصابها من الوهن والضعف والزعزعة ، فراحت تلتمس المعاذير الواهية تزعم أنها بها تدرأ عن الشريعة ، وتقربها من عقول الكافرين والمنافقين كيما يرضوا عنها ، ولو اقتضى ذلك تبديل كلام الله تعالى ، وتحريف الكلم عن مواضعه ، وتأويله على غير وجهه ، ومخالفة إجماع الأمة .
لقد فتن كثير من الناس بالحضارة المادية التي لا تؤمن بعالم الغيب، ولا تعترف إلا بالعالم المشاهد، وكثير من نصوص الكتاب والسنة تتحدث عن الغيب الذي لا يؤمن به الماديون أرباب الحضارة المعاصرة، فانبرى المنهزمون فكريا وأخلاقيا للتقليل من أهمية الإيمان بهذا الغيب، ودعوا الناس إلى الإقبال على الحياة الدنيا لنواكب من سبقونا في التقدم المادي!! يفعلون ذلك بالمسلمين وهم يعلمون أن أركان الإيمان الستة التي لا يكون العبد مؤمنا إلا بها كلها غيب!!
بل راح فريق ممن زاغت قلوبهم، ومرجت عهودهم، وفسدت ديانتهم إلى إنكار كثير من هذا الغيب بعد إخضاعه لعقولهم القاصرة المنحرفة، ويرى من يمارسون هذه الجريمة النكراء في حق المسلمين أنهم يسدون خدمة للإسلام بتقريبه من الحضارة المادية الإلحادية، ولو أدى ذلك إلى تحريف الإسلام وإلغاء نصوصه المحكمة.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم لما جاء قريشا بحادثة الإسراء وهي من الغرابة بما لا يخفى ما هاب تكذيب المشركين ولا سخريتهم به، ولا اتهامهم له، ولا أخفى شيئا مما رأى بحجة أن المصلحة تقضي بإخفائه، بل أعلن ذلك في جموع الناس بكل ثقة وطمأنينة، فواجب على كل من يريد الاقتداء به عليه الصلاة والسلام، وامتثال سنته أن يفاخر بدينه، ويعتز بشريعته، بعيدا عن الاعتذار عنها، أو تحريفها ومسخها، أو الخجل من أحكامها، وليرض بذلك من يرضى، ويرفضه من يأبى، فمن رضي بشريعة الله تعالى فله من الله تعالى الرضى، وبهذا الرضى ينقذ نفسه من النار، ومن سخطها وسخر منها فإنه يضر نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئا (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزُّمر:7].
ومع أهمية هذه الدروس والعبر فإن كثيرا من المسلمين في أقطار شتى لم يعرفوا من حادثة الإسراء والمعراج إلا أن جعلوها مناسبة لإحياء البدعة ، وإماتة السنة ، باحتفالات ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا فعلها صدر هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام رضي الله عنهم مع توفر الداعي لذلك ، وعدم المانع منه، مما يدل على أن تركهم لذلك كان مقصودا ، وهل يمكن لأحد أن يزعم أن هذه الاحتفالات فاتتهم ، وهدي إليها من جاء بعدهم في القرون المتأخرة ،كيف يزعم مسلم أن ذلك فات أفاضل هذه الأمة وهم أهل الهدى ، وعنهم يؤخذ الدين ،أوليس هذا طعنا في الرسالة ، واستدراكا على الشارع الحكيم .
وكل هذا الإثم المبين الذي يعبر عنه بتلك الاحتفالات مبني على أساس لا يثبت، وخبر لا يصح؛ إذ مبناه على أن الإسراء والمعراج كان في آخر رجب ، وذلك ما لا يثبت من جهة التاريخ ، وإذا كان الاختلاف في معرفة العام الذي وقع فيه الإسراء كبيرا بين المؤرخين وأهل السير فكيف السبيل إلى معرفة الشهر والليلة التي وقع فيها، ولو علم ذلك لم يكن حجة صحيحة لمن يحتفلون به، فالزموا - رحمكم الله تعالى - سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واحذروا البدع فإنها تردي أصحابها، ومحبة الله تعالى تثبت بالتمسك بالشريعة، والتزام السنة، والبعد عن البدعة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ) [آل عمران:32 ].
وصلوا وسلموا على نبيكم |