الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
وتتجلى آية من آيات الله في اختلاف الألسنة والأصوات، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22]، فرغم كثرتكم يا بني آدم، وتباينكم مع أن الأصل واحد، ومخارج الحروف واحدة، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه، ولا لونين متشابهين من كل وجه إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز، وهذا دالّ على كمال قدرته...
الخطبة الأولى:
إِنّ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا , مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِي لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران آية 102]، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [ النساء آية 1]، وقال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب آية 70-71 ].
أيها الأخ الكريم: إذا حلق عقلك في الكائنات، وحلق نظرك في الأرض والسماوات والنجوم والكواكب النيرات، وما خلق من الأفلاك والمجرات، رأيت على صفحاتها قدرة الله الباهرة، وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلق لسانك بالتنزيه، والتعظيم والتسبيح، والتهليل، وخضعت مشاعرك وجوارحك لسلطان الخالق العظيم والمبدع الحكيم، فلا خالق غيره ولا رب سواه، وصدق الله العظيم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].
لقد خلق الله الإنسان وخلق له عقلاً، يدرك به الأمور، ويميز به بين النافع والضار، والصالح والفاسد، والخير والشر، وجعل مناط التكليف على وجود هذا العقل، فإذا اختل العقل ارتفع التكليف.
فتفكر أيها الإنسان: أليس الله جل وعلا هو الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويُنبت فيها من الحبوب والثمار ما يكون فيه معاش الخلائق، وهم يرون ذلك بأمّ أعينهم صباح مساء، وهي مشاهد واقعية تدل على عظمة الخالق -سبحانه-، قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)، [يس: 33- 36].
يا عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- زوَّد كل إنسان بثلاث قوى: قوة البدن، وقوة العقل، وقوة القلب، فقوة البدن يشترك فيها الإنسان مع الحيوان، وقوة العقل يشترك فيها المسلم والكافر، وقوة القلب خاصة بالمسلم، وهي مكان دعوة الرسل, حيث اجتهدوا على قلوب البشر، حتى امتلأت بتوحيده وعظمته ومحبته، والخوف منه، والتلذذ بعبادته وطاعته، والإيمان به.
وعلى المسلم أن يستفيد من هذه الطاقات، ويسخّرها للدين لتصلح حاله وأحوال العالم من حوله، قال الله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16].
إن التفكر هو النظر في عظمة خلق الله والتدبر فيه، والتأمل في عظيم صنعه، والاعتبار منه، وهو من صفات أولي الألباب الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190-191].
أيها الأحباب: عبادة التفكر تعني: التدبر والاعتبار والافتكار، وقيل: هي عبادة تُمَارس بالقلب، وتشترك فيها العين، وقد كانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة مباشرة حياة تفكر في مخلوقاته، وتدبر في ملكوته، وتعبد لله، تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: "ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ" [البخاري (3)]، أي الخلوة في غار حراء للتفرغ لعبادة التأمل، والتفكر في مخلوقات الله، وكانت عبادة إبراهيم -عليه السلام- قال الله -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام: 75].
أيها الإخوة: هناك علاقة مهمة تربط بين التفكر والتأمل وحصول البصيرة الحقة للعبد المسلم، فالمسلم يجب عليه أن يعبد الله على بصيرة، والبصيرة نورٌ يقذفه الله في القلب، يرى به العبد حقيقة ما أخبرت به الرسل، كأنه يشاهده رأي عين، والبصيرة ثلاثة أقسام، من استكملها فقد استكمل البصيرة:
أولاها: بصيرة العبد في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وهي أن يشهد قلبك الرب تعالى مستويًا على عرشه، متكلمًا بأمره ونهيه، بصيرًا بحركات العالم علويه وسفليه، وأشخاصه وذواته، ناطقة وصامتة، ساكنة ومتحركة، سميعًا لأصواتهم، رقيبًا على ضمائرهم، مطلعًا على أسرارهم، ويشهد أمر الممالك والخلائق تحت تدبيره، نازلاً من عنده، صاعدًا إليه، وملائكته بين يديه، تنفّذ أوامره في أقطار السموات والأرض، موصوفًا بصفات الكمال والجلال والجمال، منزهًا عن العيوب والنقائص والمثال، حي لا يموت، قيوم لا ينام، له الخلق والأمر، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وثانيها: بصيرة في أمر الله ونهيه، بألا يقوم بقلبه شبهة تعارض العلم بأمر الله ونهيه، ولا شهوة تمنع من تنفيذه وامتثاله، ولا تقليد يريحه من بذل الجهد في تلقي الأحكام من النصوص.
وثالثها: البصيرة في الوعد والوعيد، وهي أن تشهد قيام الله على كل نفس بما كسبت في الخير والشر، في دار العمل وفي دار الجزاء، قال تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم: 31]، وذلك موجب إلهيته وربوبيته، وعدله وحكمته، فالمعاد معلوم بالعقل، وإنما اهتدي إلى تفاصيله بالوحي، وتشهد أهل الجنة يتنعمون فيها، وأهل النار يعذبون فيها.
ولا يزال نور البصيرة في زيادة، حتى يُـرى على الوجه والجوارح، وعلى الكلام والأعمال، وعلى الأخلاق والصفات، فصاحبه متصل بالله، مستضيء بنور الوحي، مستنير بنور الإيمان، متزين بالسنن والآداب والأخلاق، يميز به بين الحق والباطل، والصادق والكاذب، والطيب والخبيث، ويميز به بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يبغضه ويسخطه من الأقوال، والأعمال، والأخلاق والأعيان.
يا عباد الله: الله خالق كل شيء، وله في كل شيء آية وحكمة، وفكرة وعبرة، فخلق الإنسان من نطفة، وفي ذلك عجائب تدل على عظمة الخالق، وفي خلق الحيوان وأصنافه وأنواعه وألوانه، آيات وعجائب تدل على عظمة المصور، وكمال قدرته، ففي طيور الجو، وحيوانات البر، ودواب الأرض، وأسماك البحر، من العجائب ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وكلها تدل على عظمة خالقها، وقدرة مقدرها، وحكمة مصورها، وفي خلق النمل والنحل وغيرها من صغار الحشرات ما يبهر العقول، سواء كان في تكاثرها، أو بناء بيوتها، أو جمع غذائها، أو طباعها.
وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى، وعجائب البحر كعجائب الأرض وما فيها، بل ما فيه من النبات والحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض.
تأمل في نبات الأرض وانظر | إلى آثار ما صنع المليـكُ |
عيون من لُجَين شاخصات | بأحداقٍ هي الذهبُ السبيكُ |
على كُثُبِ الزَّبَرْجَد شاهداتٌ | بأن الله ليس له شريـكُ |
ففي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يُحصى أجناسه، فضلاً عن أنواعه وأفراده، فانظروا أولاً كم على هذه الأرض من البشر من بني آدم؟! ليسوا بالآلاف ولا حتى بالملايين، بل بالمليارات وآلاف الملايين، ومع ذلك فألسنتهم وألوانهم مختلفة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22].
فمن عجائب قدرته التي تستحق النظر والتأمل، والوقوف والتفكر: خلق السماوات والأرض وما فيهما، وذلك دالّ على عظمة سلطان الله، وكمال اقتداره الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة، وكمال حكمته؛ لما فيها من الإتقان وسعة علمه، لأن الخالق لا بد أن يعلم ما خلقه (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك: 14]، وعموم رحمته وفضله؛ لما في ذلك من المنافع الجليلة، وأنه المريد الذي يخلق ما يشاء ويختار، وأنه وحده الذي يستحق أن يُعبَد؛ لأنه المنفرد بالخلق، فكل هذه أدلة عقلية نبَّه الله العقول إليها، وأمرها بالتفكر واستخراج العبرة منها.
أيها الأحبة في الله: وتتجلى آية من آيات الله في اختلاف الألسنة والأصوات، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22]، فرغم كثرتكم يا بني آدم، وتباينكم مع أن الأصل واحد، ومخارج الحروف واحدة، ومع ذلك لا تجد صوتين متفقين من كل وجه، ولا لونين متشابهين من كل وجه إلا وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصل التمييز، وهذا دالّ على كمال قدرته، ونفوذ مشيئته.
فقد خالف -عز وجل- بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همسٍ واحد، ولا جهارة، ولا حِدة، ولا رخاوة، ولا فصاحة، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور وتخطيطها، والألوان وتنويعها، وللاختلاف وقع التعارف، ولو اتفقت وتشاكلت، وكانت ضربًا واحدًا، لوقع التجاهل والالتباس، ولتعطلت مصالح كثيرة، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون.
ولهذا تجد هذا يتكلم بالعربية، وآخر بالفارسية، وثالث بالرومية، إلى غير ذلك مما لا يعلم عدده من اللغات، بل إن الأمة الواحدة تجد فيها عشرات اللغات التي يتكلم بها أفرادها، ومئات اللهجات.
والاختلاف في اللسان هو ما ينشأ عنه من آلات الكلام من أصوات مختلفة، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أنْ يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر، كبصمة الأصابع، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد، ورأينا لذلك خزائن تُضْبط على بصمة صوت صاحبها، فساعة يُصدر لها صوتًا تفتح له، فاختلاف الألسنة والألوان ينتج التميُّز بين الناس.
ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوِّتات كثيرة، منها: الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء، ومنها: الحيوان، نقول: نقيق الضفادع، وصهيل الخيل، ونهيق الحمار، وثُغَاء الشاة، ورُغَاء الإبل، لكن لو سمعت صوت حمار ينهق، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان؟ لا؛ لأن كل الأصوات من كُلِّ الأجناس -خلا الإنسان- صوتها واحد لا يميزه شيء.
بينما يختلف هذا في الإنسان، فلكُلٍّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته، واستعلائه أو استفالته، أو في رقته أو في تضخيمه...إلخ. فلماذا إذن تميَّز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات؟ قالوا: لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسؤوليات ينبغي أنْ تُضبط، وأنْ تُحدَّد كما للإنسان، وإلا كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته، ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف شيئًا من أوصافه؟ وحتى لو عرفنا أوصافه، فإنها لا تدلُّنا عليه دلالة قاطعة تُحدِّد المسؤولية، ويترتب عليها الجزاء.
وفي اختلاف (َأَلْوانِكُمْ) أيضًا دعوة للتفكر وهو من آياته كذلك، فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أصفر، وهذا أشقر، مع أن الجميع من أبٍ واحد وأم واحدة، وهما آدم وحواء، بل إنك لا تجد شخصين يتطابقان تطابقًا تامًّا في خلقتهما وشكلهما. قال ابن كثير - رحمه الله: "فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ أن خلق الله آدم إلى قيام الساعة: كل له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وفم وخدان، وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ظاهرًا كان أو خفيًا، يظهر بالتأمل، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح فلا بد من فارق بين كل منهم وبين الآخر" ا.هـ.
أيها الأحبة: العالمون فقط هم الذين يبحثون في الأشياء، ولا يقفون عند ظواهرها، إنما يتغلغلون في بطونها، ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها، ولذلك يلوم علينا ربنا -عَزَّ وَجَلّ- الغفلة عن النظر والتأمل، فيقول -جل وعلا-: (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 105]، فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمتْ البشرية.
فسبحان الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا، وكل ما ذُكر عجيب، إلا أن أعجب من ذلك كله، وأظهر من كل ظاهر، هو: قطرة الماء، هذا الجسم الرقيق السيال، متصل الأجزاء، كأنه شيء واحد، لطيف التركيب، سريع الاتصال والانفصال، به حياة كل ما على وجه الأرض من نبات وحيوان، كما قال -سبحانه-: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30]، فسبحان من فتق السماء بالماء، وفتق الأرض بالنبات.
أيها الأحبة في الله: إن الله -عزَّ وجلَّ- كما ينزل من السماء ماء، فينبت به زرعًا مختلفًا ألوانه، كذلك أنزل من السماء ذِكْرًا تتلقاه القلوب الحية، فتنفتح له، وتنشرح به، وتتحرك حركة الحياة بالحسن والجميل من الأقوال والأعمال، والأخلاق والآداب، وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقى الماء الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة، قال -سبحانه-: (هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد: 3].
وهكذا التأمل والنظر في المخلوقات، فكل ما في الوجود من خلق الله وصنعه، والنظر والفكر فيه لا يتناهى، وإنما لكل عبدٍ منه بقدر ما رزق، قال الله: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].
فكل من عوّد نفسه التفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته، والتأمل في خلقه وملكه، صار ذلك عنده ألذ من كل نعيم؛ لأن ذلك غذاء قلبه وروحه، لا مانع عنه، ولا مزاحم فيه، والعاقل من يطلب نعيمًا لا زحمة فيه، ولذة لا تتكدر، ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله تعالى، وعجائب مخلوقاته، والإيمان به، ولذة مناجاته، وإنما يحصل الشوق بعد الذوق، فمن لم يذق طعم الإيمان لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك فهو من المحرومين.
يا عباد الله: ومن آيات الله الدالة على عظمته، هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض، يُدْرَك حسّه ولا يُرَى شخصه، وجملته مثل البحر الواحد، والطيور محلقة فيه في جو السماء، سابحة بأجنحتها في الهواء، كما يسبح حيوان البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه، كما تضطرب أمواج البحر.
ومن آياته -سبحانه- ملكوت السموات، وما فيها من النجوم والكواكب، ومن عرف عجائب الأشياء، وفاتته عجائب السموات، فقد فاته الكل، فالأرض وما فيها من النبات والحيوان، والبحار والجبال، وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر أو أصغر، كما قال -سبحانه-: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا) [النازعات: 27 - 28].
ولعلنا عبر مشاهد حية ندعو أنفسنا للتفكر، وما أكثر ما يلفت العبد في حياته من عجائب الخالق وقدرة الصانع في رحاب الكون الواسع، ومنها على سبيل المثال ما نرى من تشكيلات رائعة للغيوم في السماء، إنها معجزة من معجزات الله تعالى في تشكل الغيوم، وبسطها في السماء بتراكيب بديعة تدل على عظمة الخالق -عز وجل-، يقول -تبارك وتعالى-: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [الروم: 48].
كما اكتشف العلماء حديثًا ظاهرة تآكل الأرض من أطرافها؛ حيث التقطت وكالة ناسا صورة من الفضاء ظهر فيها أن أطراف القارة المتجمدة تذوب وتنحسر ويتناقص حجمها، وعلماء الجيولوجيا يقولون: إن القشرة الأرضية عند نهاياتها أو أطرافها تتآكل أيضًا، وتترسب هذه المواد في قاع المحيطات، وصدق الله الذي حدثنا عن هذا الأمر قبل أربعة عشر قرنًا بقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41]، فسبحان الله الصانع، وما أغفل العباد عنه وعن أفعاله!.
أقول ما سمعتم وأستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيها الناس: كلما استكثر الإنسان من معرفة أسماء الله وصفاته، وعجيب صنع الله، كانت معرفته بجلاله وعظمته أتم، وتوقيره أعظم، وعبادته أكمل، وذلك كما يعظم الناس عالمًا ما، بسبب معرفتهم بعلمه ومؤلفاته، فيزدادون بمعرفته توقيرًا له، وتعظيمًا واحترامًا.
لقد كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه يطيل التفكر، فلما سئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن أعجب شيء رأته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: لما كانت ليلة من الليالي قال: "يَا عَائِشَةُ! ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي"، قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَكَ، وَأُحِبُّ مَا سَرَّكَ، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ...) " الْآيَةَ كُلَّهَا [آل عمران: 190]" [صحيح ابن حبان(620) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1468)].
وقد ذكر الغزالي -رحمه الله- في الإحياء: أن لقمان كان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان! إنك تديم الجلوس وحدك، فلو جلست مع الناس كان آنس لك. فيقول لقمان: "إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة".
وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب". وكتب الحسن -رحمه الله تعالى- إلى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: "اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما فني وإن كان كثيرًا يعدل ما بقي وإن كان طلبه عزيزًا، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية".
وقال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور، والعزم في الرأي سلامة من التفريط والندم، والرؤية والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة، ومشاورة الحكماء ثبات في النفس، وقوة في البصيرة، ففكّر قبل أن تعزم، وتدبّر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تقدم".
ولكي يبلغ المؤمن هذه النظرة المباركة، والفكر الصافي، والتأمل النافع، يحتاج إلى مجموعة من الشروط، أهمها: التقوى، وترك الفضول والقول، والمداومة على تدبر القرآن الكريم، والمداومة على الاعتبار، وتذكر منازل الآخرة، والمداومة على إعمال العقل والتأمل، وطلب العلم، وإعمال النظر فيه، وتعليمه للناس.
أيها الأحبة: إن أكثر عباد الله وأفضلهم توفيقًا، وأكملهم توحيدًا، وأحسنهم تقوى، من قرأ وعلم، وسمع وأبصر، وتفكر وتدبر، وتذكر وتعقل، ونظر وتأمل في آيات ربه المشهودة والمسموعة، واستقام على دينه وشرعه.