العلي
كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...
العربية
المؤلف | عمر بن عبد الله المقبل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المنجيات |
إن مما يَشغل بالَ كثير من الناس -خاصة في هذه الأوقات-: ضيقُ وسائل الرزق، والتي انحصرت في نظر كثيرٍ منهم في طرق محدودة، مما جعل بعضهم –وللأسف- يتنازل عن شيء من دينه؛ لظنه أن التمسك بالدين يُقَلِّل من فُرَصِ الرزق، أو يُضيّق منها! قد يُفسَح للكافر أو الفاجر في رزقه، فيكون ذلك إمهالاً أو لحكمة أخرى اللهُ أعلم بها، وقد يُضيَّق على المؤمن في رزقه، وقد يُبتَلى بالفقر، أو بالديون المرهقة؛ لحِكَم يعلمها اللهُ، ولكن لا يعني هذا أن مَن تمرّد اغتنى، ومن تمسك بالدين افتقر! بل من وراء ذلك حكم عظيمة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله المتفرد بالألوهية والربوبية والأسماء والصفات، المتكفل بأمر المعاش لجميع المخلوقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما من دابة في الأرض إلا عليه رزقها، (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هود: 6]، خلق الخلق لعبادته، لا ليسترزق منهم، فإن الله هو الله الرزاق ذو القوة المتين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس- واشتغلوا بما خُلقتم له عما انشغلتم به مما ضُمِن لكم.
عباد الله: ذكر ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه "التوابين" قصة توبة أحد التائبين، الذي سُئل: "ما قصة توبتك من قطع الطريق وإخافة الناس؟ فقال: كنت في بعض النواحي أقطعُ الطريقَ، وكان فيها ثلاثُ نخلاتٍ: نخلةٌ منهن لا تحمل ولا تُثمر، وإذا بعصفور يأخذ من حِمْلِ النخلة التي تَحْمِلُ رطبةً فيدعها في التي لا تحمل! فلم أزل أرقبه، حتى فعل ذلك عشر مرات.
فقلتُ: ما قصة هذا العصفور؟! فقمتُ فنظرتُ، فإذا في رأس النخلة حيةٌ عمياء، وإذا بالعصفور يضع الرطبات في فمها! فبكيت، وقلت: يا الله! يا سيدي! هذه حية عمياء -أمر نبيُّك بقتلها- أقمتَ لها عصفوراً يقوم لها بالكفاية، وأنا عبدك، أُقِر بوحدانيتك، أقطعُ الطريقَ وأُخيف السبيل؟! فأوقع اللهُ في قلبي التوبة، فكسرتُ سيفي، وتُبت لربي، فانتبه رفاقي فقالوا: ما لك؟! فقلت: قد تبت مما هنالك.. فقالوا: ونحن كذلك" (التوابين لابن قدامة (ص: 134) باختصار).
هذه رحمة الرحمن.. هذه بركة الرزاق الوهاب، فكيف يقلق بعدَ ذلك إنسانٌ على رزقه؟ الذي لم يخرج إلى الدنيا إلا وقد كُتب له، بل أَخذ بعضَه وهو يأكل ويشرب من مشيمة أُمّه، حين كان في رَحِمها!
عباد الله: إن مما يَشغل بالَ كثير من الناس -خاصة في هذه الأوقات-: ضيقُ وسائل الرزق، والتي انحصرت في نظر كثيرٍ منهم في طرق محدودة، مما جعل بعضهم –وللأسف- يتنازل عن شيء من دينه؛ لظنه أن التمسك بالدين يُقَلِّل من فُرَصِ الرزق، أو يُضيّق منها!
عجباً! أيكون ما شرعه الله سبباً في تضييق ما بيده من أرزاق؟ نعم! قد يُفسَح للكافر أو الفاجر في رزقه، فيكون ذلك إمهالاً أو لحكمة أخرى اللهُ أعلم بها، وقد يُضيَّق على المؤمن في رزقه، وقد يُبتَلى بالفقر، أو بالديون المرهقة؛ لحِكَم يعلمها اللهُ، ولكن لا يعني هذا أن مَن تمرّد اغتنى، ومن تمسك بالدين افتقر! بل من وراء ذلك حكم عظيمة.
لقد ظن كثيرٌ من الناس أن أسباب الرزق محصورة في الأسباب الحسية، وغفل كثيرون أن ثمة أسباباً أخرى للرزق لا يدركها إلا الموقنون بوعد الله ورسوله، ومن هذه الأسباب:
1- الاستغفار والتوبة: فالاستغفار والتوبة الصادقين؛ لسانٌ ينطق، وعمل يُصدِّق، فهل تريدون البرهان على ذلك؟! استمعوا إليه في كلام ربكم -عز وجل- في قول نوح لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10، 12]، وقال هود لقومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)[هود: 52].
شكا رجلٌ إلى الحسن البصري -رحمه الله- الجدوبةَ؛ فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رجلٌ آخر الفقر؛ فقال له: استغفر الله، وشكا إليه رجلٌ آخر جفاف بستانه؛ فقال له: استغفر الله، وقال له رجلٌ: ادع الله أن يرزقني ولداً! فقال له: استغفر الله! فقيل له: يا أبا سعيد! أوَ كلما شكا إليك رجل من هؤلاء قلت: استغفر الله؟! قال: ما قلت ذلك من عندي، فإن الله تعالى يقول: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10، 12] (تفسير القرطبي: 18/ 302).
2- ومما تستجلب به الأرزاق: تقوى الله -عز وجل-: بأن يفعل العبد ما أُمِر به، وأن يجتنب ما نُهي عنه، استمع -إن كنتَ تحب زيادة رزقك- إلى قول الرزاق -جل وعلا-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3] "أي مِن جهة لا تَخطُر بِبَاله"(تفسير ابن كثير: 8/ 146)، ويقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
3- ومما تُستَجلب به الأرزاق: التوكل على الله –تعالى-؛ بتفويض الأمر كله لله -عز وجل-، والاعتماد التام عليه، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً" (سنن الترمذي ح: 2344، صحيح ابن حبان ح: 730).
الله أكبر! طيور تتوكل فتُرزَق، تذهب صباحاً أول النهار جائعة، فلا تغرب الشمسُ عنها إلا وقد شبعت! أفتظن أنها خيرٌ منك أيها الموحّد إن توكّلتَ وعملتَ بالأسباب؟
وإذا ذُكِر التوكلُ فإن من تمام تحقيقه: فعل الأسباب، والحديثُ الذي ذكرته آنفاً دليل على هذا، فإن الطير لم تجلس في أعشاشها تنتظر رزقها، بل خرجت تبحث عن رزقها.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ما اتصلت عين بنَظَر، أو أُذُنٌ بخبر، وصلى الله وسلم وبارك على سيد البشر، الشافعِ المشفّعِ في المحشر، وعلى آله وصحبه خير صحبٍ ومعشر، أما بعد:
4- ومن أسباب الرزق التي حدّثنا بها الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: صلةُ الرحم.
بزيارتهم، والإحسان إليهم، والتعطف عليهم، ورعاية أحوالهم، قال -صلى الله عليه وسلم- -كما في الصحيحين من حديث أنس -رضي الله عنه-: "مَن سرَّه أن يُبسَط له في رزقه، وأن يُنسَأ له في أَثَره؛ فليَصِل رَحِمَه" (صحيح البخاري ح:2067، صحيح مسلم ح:2557).
وهذا شيء مُشاهَد ومُدرَك، وأعظم الرَّحِم التي تُوصَل: هما الوالدان، ثم الأدنى فالأدنى.
5- أيها الناس: والإنفاق في سبيل الله من أسباب السَّعة والبركة في الرزق، عجيب!
كيف يكون بذلُ المال سبباً في زيادة الرزق؟ مع أن المتوقَّع أن المالَ سيَنقص ولا يزيد! وحتى لا يَطُلْ عجبُك استمع لقول ربك: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[سبأ: 39].
إنه وعدٌ من الله لا يُخلَف، ولكن القلوبَ المريضةَ أو ضعيفةَ الإيمانِ لا تُوقن بهذا، بل بالعكس، فهي ترى أن إمساكَ المال، وحبسَه عن النفقة في سبيل الله -مع القدرة على ذلك- هو السبيلُ الوحيد لتنمية الأموال وزيادتها! وصدق الله إذ يقول: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268].
فالعِبرة ليست بكثرة المال والله، بل بما يَطرحه اللهُ فيه مِن البركة، وإن كنتم في شك من ذلك فاسألوا أهل الربا، كيف يَمحق اللهُ بركةَ أموالهم! واسألوا أهل التقوى كيف يُبارك اللهُ في أموالهم مع قِلِّتها!
وختاماً أُحِب أن أؤكد على مسألتين مهمتين:
الأولى: أن أسباب الرزق الشرعية التي ذَكرتُ بعضَها، إنما تتحقق لمن أيقنوا بها، وصدَّقوا بموعود الله ورسوله فيها، وبذلوا الأسباب الأخرى.
الثانية: أن الإنسان قد يَفعل هذه الأسباب أحياناً ولا يتحقق له المسبَّب، كمن يتزوج ولا يُرزق بولد، وكالمريض قد يشرب الدواء ولا يُشفَى، يقال هذا حتى لا يَدخل الشيطانُ إلى قلبِ أَحدِنا فيقول له: ها أنت تبتَ إلى الله، أو توكلتَ على الله، أو وصلتَ رحمَك، ومع ذلك لم يَزدد رزقُك؛ فاترك هذه الأشياء! فهذا من كيد الشيطان وتلبيسه، وإلا فما ذكرناه كلَّه واجب أو مستحب قد أمر الله به ورسوله، ولو لم يكن من أسباب الرزق، ولكننا ذكرناه ترغيباً في فعله، فإن النفوسَ تتطلع إلى زيادة الأرزاق، وكثرة المال.
اللهم إنا نسألك رزقاً واسعًا، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وفك أسرانا، وفك أسرانا، وفك أسرانا.
عباد الله! مَن صلى على النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً...