البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

غلام يقود أمة

العربية

المؤلف عمر بن عبد الله المقبل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. حاجة المسلم إلى الموعظة .
  2. تخوُّل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالموعظة .
  3. تأملات في قصة الغلام والراهب والملك .
  4. أهم الدروس والعبر المستفادة من القصة .
  5. كيف تكون سببًا في نصرة أمتك؟ .

اقتباس

الله أكبر! يموت فردٌ وتحيى أُمة, يموت شابٌ صغيرٌ وتحيى به بلدة كاملة, فيا شبابنا! من منكم كذلك؟ ليس بالضرورة أن يُصلَب ويُقتل -عافنا الله وإياكم من الفتن- ولكن حياة الأمة يمكن أن تكون بأن تهيئ نفسك لأن تكون رقمًا مؤثرًا، وأن يكون لك بصمة في مجتمعك تبدأ من بيتك، ثم من حولك، ثم بلدك، ثم أمتك كلها، تستطيع أن تكون رقمًا مؤثرًا كما كان هذا الغلام, وكما كان ابن عباس رضي الله عنه وغيرهم من الأكابر والعظماء المؤثرين في أُممهم وبلدانهم...

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين... أما بعد:

فيا أيها المؤمنون .. أيها المحبون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-! لقد كان نبيكم يتخوّل أصحابَه بالموعظة بين الفينة والأخرى, ويقصَّ عليكم القصص ليعتبر أصحابه، ولتكون القصص زادًا لهم في الطريق؛ الطريقِ الذي -من طبيعته أنه- لا يخلو من مكدرات منغصات، فيحتاج الإنسان وهو سائرٌ إلى الله -جل وعلا- إلى ما يثبّته, ويحتاج إلى ما يزيد يقينَه, ويحتاج إلى أن يتأسى بقدوات ساروا على هذا الطريق فصبروا ثم ظفروا.

ومما حدّث به نبينا -صلى الله عليه وسلم-: أنه كان ملِكٌ فيمن كان قبلنا, وكان له ساحر, فلما كبُر هذا الساحر قال للملِك: "إني قد كبرت فابعث إليّ بغلامٍ أُعلمه السحر, فبعث إليه غلامًا يُعلمه، فكان في طريقه راهب, فقعد إليه هذا الغلام فسمع منه فأعجبه كلامه". (هو حديث رواه مسلم عن صهيب الرومي رضي الله عنه (3005).

وهنا وقفة:

فإن من نعمة الله -عز وجل- على الشاب في مقتبل عمره أن يُهيأ اللهُ له بيئةً إيمانية, وأن يُهيأ الله له من يُعلّمه الخير, ويقوده إليه, ويحذّره من الشر، كما سخر الله -تعالى- هذا الراهب لهذا الغلام الصغير.

فكان هذا الغلام إذا أتى الساحر مرّ في طريقه بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحرَ ضربه لتأخّره! فشكا ذلك إلى الراهب؛ فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي, وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر, فبينما هو كذلك -لا يدري أدين الساحر أصح، أم دين الراهب أقوم وأحب إلى الله؟- إذ أتى على دابةٍ عظيمة قد حبست الناس في طريقهم, فقال  الغلام: اليوم أعلم ألساحر على الحق أم الراهب؟

وهنا عبرة ووقفة:

فإن من رحمة الله -تعالى- بعبده -خصوصًا إذا كان في بداية طريق الهداية- أن يُقيم الله له من الأدلة ما يُعينه على معرفة الحق بيقين؛ ليكون ذلك سببًا للثبات.

فأخذ هذا الغلام حجرًا فقال: "اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس", فرماها هذا الغلام بحجرٍ صغير فقتلها! فسار الناس ومضوا.

وفي هذا دروس، منها: أن الإنسان عليه أن يفعل السبب، ولا يتكل فقط على مجرد الدعاء، كما أمر الله مريم عليها السلام -حينما جاءها المخاض- بهز جذع النخلة, وهي امرأة ماخضٌ ضعيفةٌ وتهز جذع نخلةٍ طويلة! كما في قوله سبحانه: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ)[مريم:25]، فماذا كانت الثمرة؟ (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) فبمجرد هزها سقط عليها تمرٌ كثير ورُطَب كثير,كما تدلّ عليه القراءة الأخرى: (تَسَّاقَطُ)، فالمقصود: أن على الإنسان أن يفعل ما استطاع من الأسباب، كما فعل هذا الغلام حيث رمى هذه الدابة فأزاحها الله من طريق الناس.

ومن الدروس في هذا: أن الإنسان إذا اشتبه عليه أمرٌ فله أن يستثني في الدعاء، كما قال هذا الغلام: "اللهم إن كان..."، ويُشبه هذا قول سعد - رضي الله عنه - لما عيب في دِينه من قِبل بعض ظلمة زمانه, رجل يقال له أبو سعدة وقد ناشدوه بالله! فقال: أما إذ نشدتمونا بالله؛ فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالتسوية، ولا يسير بالسرية! فقال سعد: "اللهم إن كان كاذبًا فأطل عمره, وأعمِ بصره, وعرّضه للفتن"، قال الراوي: فلقد رأيت هذا الرجل شيخًا كبيرًا قد سقط حاجباه على عينه يتعرض للجواري في السوق ويقول: شيخٌ كبيرٌ مفتون، أصابتني دعوة سعد!(البخاري: 755).

فأتى هذا الغلامُ الراهبَ فأخبره بما وقع له من قصته مع الدابة, فقال له الراهب: أَي بُني! أنت اليوم أفضل منيّ، وقد بلغ من أمرك ما أرى, وإنك ستُبتلى فإذا اُبتليت فلا تدل عليّ.

وفي هذا فوائد، منها: التحفيز والتشجيع للابن وللشاب ولطالب الهداية والحق إذا وُفق لصواب، أن يسمع كلمات تشجيعية من أبيه, أو من أستاذه ومربيه.

وفيها أيضًا: أن يُبلَّغ ويُبصَّر المهتدي والسالك لطريق الحق أن هذا طريقٌ ليس مفروشًا بالورود والرياحين, بل هو طريقٌ محفوفٌ بالمكاره، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «حُفت الجنة بالمكاره» (مسلم: 2822).

وفي صحيح ابن حبان: «يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه، اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس ما عليه خطيئة» (صحيح ابن حبان ح: 2920).

لقد كان هذا الغلام المؤمن يُبرأ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء بإذن الله، وهذا في عُرف ذلك المجتمع نوعٌ من السحر! فهم لا يؤمنون بكرامات الله لأوليائه, فسمع جليسٌ من جلساء الملك -كان قد عمي- بهذا الغلام، فأتى إليه بهدايا كثيرة فقال له: "يا غلام! كل ما هاهنا لك إن أنت شفيتني", فقال له الغلام بكل وضوح: "أنا لا أشفي أحدًا! إنما يشفي اللهُ -عز وجل-, فإن أنت آمنت بالله دعوتُ الله -عز وجل- فشفاك, فآمنَ هذا الرجل الأعمى؛ فدعا له الله فشُفي وبرأ وأبصر الطريق, فرجع الجليسُ إلى مجلسه المعتاد مع الملك، فجلس إليه كما كان يجلس, فقال له الملك بتعجب: من رد إليك بصرك؟ فقال: ربيّ, فقال هذا الملك الطاغية: وهل لك ربٌ غيري؟!".

إنها لغة الطغيان يا عباد الله، هي تمامًا كلغة فرعون الذي كان يقول لقومه: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)[القصص:38].

فقال ذلك الجليس بكل ثبات: ربيّ وربك الله!

فأخذه ذاك الملك الطاغية فلم يزل يُعذبه حتى دل على الغلام, فجيء بالغلام, فقال له الملك: أَيْ بني! قد بلغ من سحرك ما تُبرأ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟! فقال له الغلام: إنيّ لا أشفي أحدًا! إنما يشفي الله -عز وجل-.

وهكذا المؤمن يرد النِعم إلى واهبها، ولا يغتر بما أُوتي من نعمة مالية أو بدنية، أو نعمة جاه أو سلطان أو منصب أو غير ذلك, قارن كلمة هذا الغلام الصغير بكلمة قارون حينما وُعظ بما وُعظ به فقال بكل استعلاء وجبروت وتكبر: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص:78] تلك لغة المؤمنين، وهذه لغة الطغاة والمجرمين.

يقول عليه الصلاة والسلام: «فأخذه فلم يزل يُعذبه» أي: يُعذب هذا الغلام حتى دل على الراهب المُعلم الأول, فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك, فأبى, فدُعي بالمنشار فوُضع في مفرق رأسه فشقَّه به حتى وقع شقاه!

وهذا -أيها الأحبة- هو عين ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- لما جاء إليه خباب رضي الله عنه يشكو إليه الأذى الذي لحق بالمؤمنين في مكة, وكان -عليه الصلاة والسلام- متوسدًا بردةً في ظل الكعبة, فقام -صلى الله عليه وسلم- واعظًا خباب ومن معه من الصحب الكرام رضوان الله عليهم, فقال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».

ثم جيء بالغلام فقيل له كما قيل للراهب: ارجع عن دينك؟ فأبى أن يرجع عن دينه.

وهنا الأمر الآن انحصر في شأن هذا الغلام, فالأعمى قد قُتل، والراهب قد قُتل، فلم يبق على الحق في تلك البلد إلا هذا الغلام, فأبى هذا الغلام، مع أنه صغير كان يمكنه أن يتعذر بصغر سنه, وأن الله سيهيأ غيرَه فيما بعد ليقوم بحمل الدعوة, لكنه لم يفعل شيئًا من ذلك, بل ثبت, وهذا هو الواجب في المواقف التي لا يُعرف الحق فيها إلا بشخصٍ معين.

وهذا أحد أسباب ثبات الإمام أحمد -رحمه الله بعد توفيق الله جل وعلا-, فإنه لما دُعي إلى تلك البدعة المنكرة -القول بخلق القرآن- كان الناس في رحبة بغداد معهم أقلامٌ ومحابر, فكان المعتصم ومَن حوله من وزراء السوء يقولون له: يا أبا عبد الله - كلمة واحدة فقط – قل: القرآن مخلوق, فكان أحمد يقول: انظر لهؤلاء الناس في الساحة ما معهم؟ قال: معهم أقلامٌ ومحابر, فقال: أتريدني أن أُضل هؤلاء كلهم ويأتون يوم القيامة بكلمة أقولها! لا والله! القرآن كلام الله غير مخلوق, فثبت وصبر فظفر، رحمه الله ورضي عنه.

هنا قال عليه الصلاة والسلام: "فدفع الملك هذا الغلام إلى نفرٍ من أصحابه".

وتأملوا كيف أنه لم يقتله كما فعل بالراهب والأعمى, فأولئك كانوا كبارًا في السن, أما هذا الغلام فإن هذا الطاغية مارس معه أساليب أخرى في التعذيب والفتنة, ورغبةً منه في استبقاء هذا الغلام الذي ذاع خبره في الناس ليستمر في الانتفاع به -إن صحت العبارة- بإضلال عباد الله -عز وجل-, وتقريبهم للملك الذي لديه غلام يشفي ويُبرأ...بإذن الله تعالى.

وهذا منهج مسلوك في حرص الأعداء على إضلال الشباب والفتيات أكثر من استهدافهم لكبار السن, والواقع اليوم يشهد بهذا؛ فإن أعداء الله -جل وعلا- سلطوا سهامهم في الإعلام وفي غير الإعلام على استهداف الشباب، واختطاف عقولهم وقلوبهم، فهل ينتبه شبابنا لذلك؟

قال الملك لأصحابه: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع وإلا فألقوه, فذهبوا به فصعدوا به الجبل فلما بلغ قمّته وأرادوا أن يلقوه؛ قال بكل ثقةٍ وثبات: "اللهم اكفنيهم بما شئت".

هنا أيها الأحبة: تظهر ثمرة التربية على التوحيد والتعلق بالله -عز وجل-، وهذه تذكرنا بوصايا النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عباس: «احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك...» الحديث.

ولما دعا الغلام بذلك الدعاء؛ رجف بهم الجبل فسقطوا ونجى هذا الغلام.

والسؤال: مَن ربُّ هذا الجبل؟ إنه الله!

لذا -أيها الشاب، بل يا كل مسلم-: اعتمد على الله، واصدق في التوكل عليه يكفك ما أهمك.

جاء هذا الغلام يمشي إلى الملك! وهذا عجبٌ من العجب, وغاية ما يكون في الثبات, فإن المتوقع أن يهرب هذا الغلام ويُغيِّب وجهه عن هذا الملك الجبار الظالم, لكن يبدو -والله أعلم- أنه أوحي إليه وحي إلهام وليس وحي نبوة: أن امضِ إلى هذا الملك لتُبين له مدى قوتك وثباتك وقناعتك بهذا الطريق، وأن ربك الذي آمنت به سيغلب هذا الملك الظالم الذي ادعى الربوبية.

فقال الملك له متعجبًا: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله.

وكأنه يُرسل له رسالة: الله ربيّ قد كفاني؛ فماذا فعلت -أيها الرب المزعوم- بأصحابك؟ لمَ لمْ تكفِهِم, بل انكفئ بهم الجبل الذي هو مربوبٌ لله -جل وعلا- فطرحهم وماتوا وهلكوا! فهات ما عندك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه, فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور»، وهو القارب صغير، «فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه فيه في البحر, فذهبوا به فقال كما قال في الأول: "اللهم اكفنيهم بما شئت. فانكفأت بهم السفينة فغرقوا جميعًا وسلم هذا الغلام».

من رب البحر يا عباد الله؟ إنه الله, فأين رب هؤلاء أعوان هذا الملك الطاغية؟ أين ذهبوا؟! لقد غرقوا وهو لا يعلم عنهم شيئًا, فالذي يُنجي ويُغرق هو الله -عز وجل-، أغرق أولئك وأنجى هذا, ويجيء بكل ثبات مرةً ثانية إلى الملك! فيقول له ذاك الملك في ذهول: ما فعل أصحابك؟ فيقول بكل ثباتٍ: كفانيهم الله -عز وجل-.

هنا يظهر موقفٌ آخر، هو من أعجب مواقف العزة والثبات على الحق, فيقول له الغلام: أيها الملك! إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به! الله أكبر .. الله أكبر؛ إنها الثقة المُطلقة بوعد الله -عز وجل-, والثقة المطلقة بهذا الحق الذي سلكه, قال الملك: وما هو؟

جواب هذا السؤال نعرفه في الخطبة الثانية إن شاء الله, بارك الله ليّ ولكم في القرآن والسُنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ر العالمين...أما بعد:

قال الغلام للملك: تجمع الناس في صعيدٍ واحد.

تأملوا كيف شرح له طريقة قتله بالتفصيل, ولا شك أن هذا إلهامٌ من الله -عز وجل-, وإلا فالإنسان ابتداءً لا يجوز أن يقتل نفسَه أو يُعين على قتلها, لكن في قتله مصلحةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ كما سيتبين.

قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام, ثم ارمني, فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.

هنا عرف الغلام أن أغلى أماني الطاغية في ذلك الوقت: أن يتخلص من هذا الغلام الذي بظنّه أنه يفتن الناس عن دينهم الذي هم عليه وهو: أن يعبدوا هذا الملك, لكن الغلام رمى إلى شيء أبعد, والمؤمن الحق -رزقنا الله وإياكم الثبات- لا يهاب الموت, فالموت كما قال المتنبي:

فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ

  كطعم الموت في أمرٍ خطير

إنما المهم للمؤمن: أن يموت على الحق, وأن يموت ونظره وعينه على الآخرة، كما قال سحرة فرعون (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) يا فرعون اقض ما أنت قاضٍ, افعل ما تشاء, ما حدودك؟ (إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)[طه:72]، وإذا سألت عن سر هذا الثبات؛ وجدته في قولهم: (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:73].

فجمع ذلك الملك الناسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصلبه على جذعٍ، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: بسم الله رب الغلام.

وهنا حكمةٌ بالغة: لم يقل له الغلام: "قل بسم الله" وكفى, بل أراد أن يوصل له رسالة, مفادها أن يعلم الناس الذين اجتمعوا في ذلك الصعيد أنه إنما استطاع أن يقتله بسم الله رب هذا الغلام الذي قُتِل, وليس باسم ذلك الملك الذي ادَّعى أنه ربٌ للناس من دون الله, ثم رماه, فوقع السهم في صدغه -ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن- فوضع يده في صدغه فوقع السهم فمات الغلام.

هنا قال الناس بصوتٍ واحد: "آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام".

الله أكبر! يموت فردٌ وتحيى أُمة, يموت شابٌ صغيرٌ وتحيى به بلدة كاملة, فيا شبابنا! من منكم كذلك؟ ليس بالضرورة أن يُصلَب ويُقتل -عافنا الله وإياكم من الفتن- ولكن حياة الأمة يمكن أن تكون بأن تهيئ نفسك لأن تكون رقمًا مؤثرًا، وأن يكون لك بصمة في مجتمعك تبدأ من بيتك، ثم من حولك، ثم بلدك، ثم أمتك كلها، تستطيع أن تكون رقمًا مؤثرًا كما كان هذا الغلام, وكما كان ابن عباس رضي الله عنه وغيرهم من الأكابر والعظماء المؤثرين في أُممهم وبلدانهم.

فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذَر؟! قد والله نزل بك حذرك! لقد آمن الناس كلهم!

هنا يلجأ هذا الطاغية إلى أسلوب آخر؛ ظنًا منه أنه يقضي ويطفئ نور الله (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التوبة:32]، فأمر بالأخدود –وهو الشق العظيم في الأرض- فخُد، وأضرمت فيه النيران، وأصدر أمرَه الظالم فقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه, أو قيل له: اقتحم, ففعلوا؛ فأُلقي الناس كلهم, هنا ينتقل المشهد ببلاغةٍ نبوية بارعة! فيقول -صلى الله عليه وسلم- مسلطًا الضوء على هذا المشهد العجيب: "فجاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ...".

قيل في بعض الروايات: "كان عمره سبعة أشهر" فتقاعست هذه المرأة وترددت .. أتتقدم للحفرة المليئة بالنار أم تُحجِم! لا خوفًا على نفسها, ولكن خوفًا على رضيعها!

فأنطق الله غلامها الصغير فقال: "يا أُمّه! اصبري فإنك على الحق".

وفي هذا عبرة عظيمة, وهي: أن المؤمن الصادق قد تعرِض له في طريق سيره إلى الله مواقف قد يتردد فيها -كما سبق في أول القصة- فيُهيأ الله له من الأسباب ما يُبصّره بالحق، ويزيده ثباتًا عليه.

فاللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين كما هديتنا للإسلام والسُنة أن تثبتنا عليهما حتى نلقاك يا رب العالمين.

اللهم أحينا وأمتْنا على السُنة غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين, اللهم أحينا وأمتنا على السُنة واختم لنا بالحسنى, واجعل آخر كلامنا من الدنيا: لا إله إلا الله برحمتك يا أرحم الراحمين.