اللطيف
كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
وكيف لا يستمتعُ بالصَّومِ والقرآنِ مَنْ يتخيَّلُ صُحبَتَهما له يومَ القيامةِ للشَّفاعةِ عندَ ربِّ العالمينَ، قالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ: مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ".
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ، العَلِيمِ المَجِيدِ، يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ العظيم، فَلَهُ الحَمْدُ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، قَسَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ دِينَهُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهِدَايَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَهَدَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ كُتِبَتْ سَعَادَتُهُمْ، وَعَمِيَ عَنْهُ مَنْ كُتِبَتْ شِقْوَتُهُمْ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَلَنْ يَضِلَّ وَلَنْ يَشْقَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ.
أما بعد:
لقدْ جعلَ اللهُ تعالى التقوى خيرَ زادٍ فقالَ سبحانَه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْا- قَالَ: أَنْكَحَنِي أَبِي امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ -أَيْ امْرَأَةَ ابْنِهِ-، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ: نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ، لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "الْقَنِي بِهِ"، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ: "كَيْفَ تَصُومُ؟!"، قُلْتُ: كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: "وَكَيْفَ تَخْتِمُ؟!"، قُلْتُ: كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ: "صُمْ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةً، وَاقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ"، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْجُمُعَةِ". يعني في الأسبوعِ، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "أَفْطِرْ يَوْمَيْنِ وَصُمْ يَوْمًا"، قُلْتُ: أُطِيقُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: "صُمْ أَفْضَلَ الصَّوْمِ، صَوْمَ دَاوُدَ، صِيَامَ يَوْمٍ وَإِفْطَارَ يَوْمٍ، وَاقْرَأْ فِي كُلِّ سَبْعِ لَيَالٍ مَرَّةً".
قد تعجبونَ من قوَّةِ هذا الشَّابِ من شَبابِ الصَّحابةِ على العِبادةِ، ولكن سِرعانَ ما سيزولُ عَجبُكم إذا علمتُم أنه كانَ يستمتعُ بهذه العبادةِ استمتاعَ المُحبِّينَ، ويتلذَّذُ بها تلذُّذَ المُشتاقينَ، كما جاءَ في روايةٍ أخرى أنه قالَ: جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُ بِهِ فِي لَيْلَةٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَمِنْ شَبَابِي، فَقَالَ: "اقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَمِنْ شَبَابِي، قَالَ: "اقْرَأْهُ فِي عَشْرٍ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَمِنْ شَبَابِي، قَالَ: "اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَمِنْ شَبَابِي، فَأَبَى.
وكيف لا يستمتعُ بالصَّومِ والقرآنِ مَنْ يتخيَّلُ صُحبَتَهما له يومَ القيامةِ للشَّفاعةِ عندَ ربِّ العالمينَ، قالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ: مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ".
كانوا يستمتعونَ في شبابِهم بحبِّ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الذي ملأَ قُلوبَهم، لذلك لم يكنْ في قلوبِهم مكانٌ للعِشقِ المُحرَّمِ، حتى أصبحَ أحبَّ إليهم من أنفُسِهم والناسِ أجمعينَ، بل كانوا يفدونَه بالأرواحِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا -أيْ أقوى منهما-، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ: هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟! قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟! قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِى جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهُ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: "أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟!"، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟!"، قَالاَ: لاَ، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: "كِلاَكُمَا قَتَلَهُ".
كانوا يستمتعونَ بشبابِهم في طَلبِ العلمِ الشَّرعيِّ، لأنهم كانوا يعلمونَ أن "مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقاً إِلى الْجَنَّةِ"، وكيفَ لا يَفرحُ من اشتغلَ بطلبِ العلمِ وهو يَستشعرُ: "إِنَّ المَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضاً بِمَا يَصْنَعُ"، قالَ عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهما-: "لَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قلتُ لِفتىً من الأَنْصَارِ: يا فُلَانُ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- فَإِنَّهُمْ الْيَوْمَ كَثِيرٌ، فقال: واعجباً لك يا ابنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إِلَيْكَ وفي النَّاسِ من أَصْحَابِ النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- من تَرَى؟! فَتَرَكَ ذلك، وَأَقْبَلْتُ على الْمَسْأَلَةِ، فَإِنْ كان لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عن الرَّجُلِ فَآتِيهِ وهو قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي على بَابِهِ فَتَسْفِي الرِّيحُ على وَجْهِي التُّرَابَ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فيقول: يا ابنَ عَمِّ رسولِ اللَّهِ: ما جاء بِكَ؟! ألا أَرْسَلْتَ إليّ فَآتِيَكَ؟! فَأَقُولُ: أنا أَحَقُّ أن آتِيَكَ، فأسألُه عن الحديثِ، قالَ: فَبَقِيَ الفتى حتى رَآنِي وقد اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، فقال: كانَ هذا الْفَتَى أَعْقَلَ مِنِّي".
كانوا يستمتعونَ بشبابِهم في بِرِّهم لآبائهم وأمهاتِهم ولو كانوا مُشرِكينَ؛ لأن اللهَ تعالى قالَ: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، وكيفَ لا يشعرُ بالسَّعادةِ من أَرْضَى والِديه وهو يحفظُ حديثَ: "رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ"، ويجمعونَ مع ذلكَ لذَّةَ الدَّعوةِ إلى اللهِ تعالى، فعن أَبي هُرَيْرَةَ -رضيَ اللهُ عنه- قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِى فِي رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- وَأَنَا أَبْكي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ"، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَاف، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَبْشِرْ؛ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ"، فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِى وَلاَ يَرَانِي إِلاَّ أَحَبَّنِي.
كانوا يستمتعونَ بشبابِهم في مجاهدةِ النَّفسِ عن الشَّهواتِ، والاستعانةِ بنصيحةِ العُلماءِ القُدُواتِ، فعَنْ أَبِي أُمَامَة أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه: اِئْذَنْ لِي بِالزِّنَا. فهذا الشَّابُّ يعلمُ علمَ اليَقينِ أن النَّبيَّ -عليه الصلاةُ والسلامُ- لا يُمكنُ أن يُحلَّ له ما حرَّمَ اللهُ تعالى، ولكنَّه جاءَ للنَّصيحةِ وأرادَ أن يُوصِلَ له مِقدارَ تَعلُّقِه بالزِّنا حتى إنَّه لن يُطفئ حرارتَه في قلبِه إلا أن يُمارسَه كما يُمارسُ الشيء الحلال، فَأَقْبَلَ الْقَوْم عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ، فَقَالَ: "ادْنُهْ"، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا فَقَالَ: "اِجْلِسْ"، فَجَلَسَ فَقَالَ: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّك؟!"، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ"، قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِك؟!"، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ"، قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِك؟!"، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاس يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ"، قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِك؟!"، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاس يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ"، قَالَ: "أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِك؟!"، قَالَ: لَا وَاَللَّهِ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: "وَلَا النَّاس يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ"، قَالَ فَوَضَعَ يَده عَلَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اِغْفِرْ ذَنْبَه، وَطَهِّرْ قَلْبَه، وَأَحْصِنْ فَرْجَه"، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْد ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِت إِلَى شَيْءٍ.
اللهُ أكبرُ، هكذا كانَ شبابُ الإسلامِ يستمتعُ بشبابِه، عبادةٌ وصيامٌ، وقرآنٌ وقيامٌ، دعوةٌ للإسلامِ، ومجاهدةُ النَّفسِ عن الآثامِ، طلبُ علمٍ وبِرُّ والِدينِ وحبٌّ للنَّبيِّ المُختارِ، (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)، ويَرْجونَ رحمةً وسعتْ كلَّ شيءٍ من الرَّحيمِ الغفَّارِ، ويتمنَّونَ أن يكونوا من السَبْعةِ الذينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: ومنهم شَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي خلقَ فسوى، والذي قدَّرَ فهدى، أحمدُه سبحانَه على نِعمِه التي لا تُحصى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الحمدُ في الآخرةِ والأولى، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيدّنا محمداً عبدُه ورسولُه المرتضى، اللهم صلِّ وسلمْ وباركْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ المصطفى، وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعَهم واقتفى.
أما بعد:
كانَ الشَّبابُ يستمتعونَ بشبابِهم في الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى وطلبِ الشهادةِ، نُصرةً للدِّينِ، ودحراً للمُجرمينَ، قالَ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ -رضيَ اللهُ عنه-: رأيتُ أخي عُميرَ بنَ أبي وقَّاصٍ قَبلَ أن يَعْرِضَنا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ- للخروجِ إلى بَدرٍ يَتَوَارَى، فقلتُ: ما لكَ يا أخي؟! فقالَ: إني أخافُ أن يَراني رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ-، فيَسْتَصْغِرَني فيَرُدَّني وأنا أُحِبُّ الخروجَ لعلَّ اللهَ يرْزُقُني الشَّهادةَ، قالَ: فعُرضَ على رَسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ- فاستصغرَه وقالَ: "ارجعْ"، فبكى عُميرٌ فأجازَه رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ-، قالَ سعدٌ: فكنتُ أَعقِدُ له حمائلَ سَيفِه من صِغَرِهِ، فقُتِلَ ببدرٍ وهو ابنُ ستَّ عشرةَ سنةً.
ولمَّا خرجَ المسلمونَ إلى أُحُدٍ للِّقاءِ المشركينَ، استعرضَ النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الجيشَ، فردَّ من استصغرَ منهم شفقةً عليهم، وكانَ فيمن ردَّه رافعُ بنُ خَديجٍ، وسَمرةُ بنُ جُندبٍ، ثم أجازَ رافعاً لما قِيلَ له: إنه رامٍ يُحسنُ الرِّمايةَ، فبكى سَمرةُ وقالَ لزوجِ أمِّه: أجازَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- رافعاً وردَّني مع أني أَصرعُه، فبلغَ رسولَ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- الخبرُ، فأمرَهما بالمصارعةِ، فكانَ الغالبُ سُمرةُ، فأجازَه -عليه الصلاةُ والسلامُ-.
فعجباً لشبابٍ يستمتعونَ ببذلِ الأرواحِ في سبيلِ إعلاءِ كلمةِ اللهِ تعالى، وأنت ما الذي تستمتعُ به -أيها الشَّابُ-؟!
اللهم اهدِ شبابَ المسلمينَ، ورُدَّ ضالَهم إليك رداً جميلاً، اللهم جَنبْهم قُرناءَ السُّوءِ والفَسادِ، اللهم أَقرَّ عُيونَ الآباءِ والأمهاتِ بصلاحِ أبنائِهم وبناتِهم يا ربَّ العالمينَ، اللهم اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ، والمؤمنينَ والمؤمناتِ، الأحياءِ منهم والأمواتِ، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِّ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم يا حيٌ يا قيومٌ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ، يا ذا الطَولِ والإنعامِ، نسألُك نصراً وعزاً وتمكيناً للإسلامِ والمسلمينِ، اللهم انصر إخوانَنا المجاهدينَ في سبيلِك، الذين يُقاتلون أعداءَك لإعلاءِ كلمتِك، اللهم انصرْهم في كلِ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ.