البحث

عبارات مقترحة:

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

الشهادات الرمضانية

العربية

المؤلف صالح بن عبد الله بن حميد
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - الصيام
عناصر الخطبة
  1. مواسم الطاعات منّة من الله .
  2. رمضان شهر المحاسبة .
  3. تأملنا في دعائنا ( اللهم اجعله شاهدا لنا لا علينا ) .
  4. لماذا شهادة رمضان متميزة ؟ .
  5. من خصائص الصوم .
  6. من أحوال الصائمين .
  7. السبيل إلى التغيير والإصلاح .
  8. رمضان فرصة للتائبين . .
اهداف الخطبة
  1. بيان فضيلة رمضان
  2. الحث على الاستفادة من رمضان
  3. بيان وسائل التغيير والإصلاح في رمضان

اقتباس

هل ندرِك ونحن نتأمَّل هذه الشهاداتِ الرمضانية أننا أصبَحنا في أمسِّ الحاجة إلى التغيير وأننا لا نزال يملؤُنا التفاؤُل بغدٍ أفضَل وواقع أمثَل. إنَّ وسائلَ العلاج وأدواتِ النجاح ليست عنّا ببعيد، فنحن أمّةُ القرآن وأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، أمّة هذا الشهر الكريم الشاهدِ، ونحن الأمّةُ الشاهدة.

أمّا بعد:

فأوصيكُم ـ أيّها النّاس ـ ونفسِي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتقوا اللهَ رحمكم الله، واغتنِموا مواسمَ الأرباحِ فقد فُتِحت أسواقها، وداوموا قرعَ أبواب التوبة قبل أن يحينَ إغلاقها. الغَفلةُ تمنَعُ الرِّبحَ، والمعصيةُ تقودُ إلى الخُسران. الواقفُ بغير بابِ الله عظيمٌ هوانُه، والمؤمِّل غيرَ فضلِ الله خائبةٌ آماله، والعامِل لغير الله ضائعةٌ أعمالُه. الأسباب كلُّها منقطِعة إلا أسبابه، والأبوابُ كلّها مغلَقة إلا أبوابُه. النّعيمُ في التلذُّذ بمناجَاةِ الله، والرّاحة في التّعَب في خدمةِ الله، والغِنى في تصحيحِ الافتقارِ إلى الله.

أيّها المسلمون، الأيّام تمرُّ عجلَى، والسّنون تنقضِي سِراعًا، وكثيرٌ من الناسِ في غَمرةٍ ساهون وعن التّذكِرة معرِضون، وفي التنزيل العزيز: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان:62].

ولما كان العُمر ـ يا عبادَ الله ـ محدودًا وأيّامُ العَبدِ في هذه الدّنيا معدودَة فقد امتنَّ الله على عبادِه بمواسمِ الخيرات ومِنَح النّفَحات، وأكرَمَ بأيّامٍ وليالٍ خصَّها بمزيدٍ منَ الشَّرَف والفَضلِ وعَظيمِ الثّوابِ ومُضَاعَفة الأجرِ، وجعَل فيها بمنِّه وكرَمِه ما يُعوِّض فيهِ الموفَّق قِصَرَ حياتِه وتقصيرَ أعماله. وإنّ أيّامَكم هذه من أفضلِ الأيّام، وهذه العَشرُ الأخيرةُ هي الأفضَلُ والأكرَم.

أيّها المسلمون، ما أحوجَ العبدَ إلى موقفِ المحاسبة في هذه الأيّام الفاضلة، إنها مناسَبَة مناسِبَة من أجل التّغيير والتصحيح والإصلاحِ في حياة الفرد وفي حياةِ الأمة، يقول رسول الله صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلّم: " إذا دخل رمضانُ فتِّحت أبواب الجنّة وغُلِّقت أبوابُ النار وسُلسِلت الشياطين" أخرجه الترمذي، وفي روايةٍ أخرى: " إذا كانَ أوّل ليلة من رمضانَ صُفِّدت الشياطين ومردَةُ الجنّ، وفُتِّحت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب، وغلِّقت أبواب النار فلم يُفتَح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرِّ أقصر، ولله عتقاءُ من النّار، وذلك كلَّ ليلة" إنها فرصة للمحاسبة وفرصةٌ للإصلاح وفرصة للتغيير، " يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصر" .

معاشرَ المسلمين، ومن أجلِ مزيدٍ منَ التأمُّل واستشعارٍ جادٍّ للمحاسَبَة وإدراكٍ عميق لهذه الفرصَة السانحة هل تأمَّلتم في دعاءٍ يردِّده المسلمون في هذا الشهرِ الكريم، وبخاصّةٍ في مثل هذه الأيام حين تبدأ أيّام الشهر في الانقضاءِ وهِلاله بالأفول، ويستشعرون فِراقَه ويعيشون ساعاتِ الوداع ومشاعِر الفِراق، دعاءٌ يصاحبه دفقٌ شعوريّ مؤثِّر من القلوبِ الحيَّة والنفوسِ المحلَِّقةِ نحوَ السموّ بشعورٍ إيمانيّ فيّاض، يرفَعون أيديَهم مُناشدين ربَّهم ومولاهم: "اللهمَّ اجعله شاهدًا لنا، لا شاهدًا علينا". هل تأمَّلتم هذا الدعاءَ؟! وهل فحَصتم مضامينَه وعواقبَه وحقيقتَه ونتيجتَه؟!

أيّها الصائمون، إنّ شهادةَ شهرِ رمضان غيرُ مجروحةٍ، إنّه موسم يتكرّر كلَّ عامٍ، يشهد على الأفرادِ، ويشهَد على الأمة، إنّه يشهَد حالَكم، فهل سيشهَد لنا أو يشهَد علينا؟! يرقب حالَنا؛ هل سوف يزدرِينا أو سوفَ يغبِطنا؟! ماذا في استقبالنا له؟! وماذا في تفريطنا فيه، بل في كلّ أيّام العام والعُمر؟ هل نجتهد فيه ثم نضيِّع في سائرِ أيّام العام؟!

عبادَ الله، الأيّام تشهَد، والجوارِح تشهد، والزّمان يشهد، والمكان يشهَد، إنّ تأمُّلَنا في شهادة هذا الشهر الكريم لنا أو علينا فرصَة عظيمةٌ صادقة جادّة في المحاسبة ومناسبةٌ حقيقيّة نحو التغيير والتعويض، "يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصر" وقد يكون لشهادةِ رمضان المعظَّم نوعٌ من التميُّز ولونٌ من الخصوصيّة، لماذا؟ لأنَّ شهرَ رمضانَ هو شهر الصّبر، شهر مقاومة الهوى وضبطِ الإرادة ومقاومَة نزوات النفس ونوازعها.

شهر رمضان ـ معاشرَ الصائمين ـ ميدانُ التفاوت بين النفوسِ الكبيرة والنفوسِ الصغيرة، بين الهِمَم العالية والهِمَم الضعيفة. هذا الشهرُ الشاهد فرصةٌ حقيقيّة لاختبار الوازِع الداخليّ عند المسلم، الوازع والضمير هو مِحوَر التربية الناجحة.

ومن أجل مزيد من التأمُّل والنظَر والفحص في هذه الشهادةِ الرمضانية فلتنظُروا في بعض خصائصِ الصّيام وأحوال الصائمين. الصّوم سرٌّ بين العبدِ وبين ربِّه، وقد اختصَّه الله لنفسِه في قوله سبحانَه في الحديث القدسي: " الصّوم لي وأنا أجزِي به، يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي" .

أيّها الإخوة في الله، الصومُ عن المفطّرات الظاهِرَة يسيرٌ غير عسير لكثيرٍ من الناس، يقول ابن القيم رحمه الله: "والعبادُ قد يطَّلعون من الصائمِ على تركِ المفطرات الظاهرةِ، وأما كونه ترك طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجل معبودِه فهو أمر لا يطّلع عليه بشَر، وتلك حقيقة الصوم".

واقرِنوا ذلك ـ رحمكم الله ـ بقوله صلى الله عليه وسلم: " من صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه" مَن ـ تُرى ـ يحقِّق الإيمانَ والاحتساب على وجهه يا عباد الله؟! " يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" .

تأمّلوا أحوالَ بعض الصائمين مع الطعامِ وفضول الطعام، يسرِفون على أنفسِهم في مطاعمهم ومشاربهم ونفقاتهم، يتجاوَزون حدَّ الاعتدال والوسَط، ساعدهم في ذلك إعلامٌ هَزيل قد جعَل مساحاتٍ هائلةً للأكل والموائد مع ممارساتٍ غير سويّة من التجارِ والمستهلكين.

وتأمّلوا ـ حفظكم الله ـ وأنتم في رحابِ هذا الشهرِ الشّاهد، تأمّلوا أحوالَ بعض الغافِلين الذين يضيِّعون هذه الأوقاتَ الفاضلةَ والليالي الشريفة مع اللهوِ والبطّالين فيما لا ينفَع، بل إنّ بعضها فيما يضرّ ويُهلك ويفسِد الدّينَ من الغيبة والنميمةِ والمسالك المحرَّمة، انقلبت عليهم حياتهم ليجعَلوا نهارَهم نومًا وليلَهم نهارًا في غير طاعةٍ ولا فائدة، لا لأنفسِهم ولا لأمّتهم، تجمّعاتٌ ليليَّة، إمّا تضييع للواجباتِ والمسؤوليات، وإمّا وقوع في المنهيّات والمهلكات، يعينهم في ذلك قنواتٌ وفضائيّات في مسلسلاتٍ هابطة وبرامجَ للتسلية هزيلة.

بل إنَّ التأمّلَ في فضول الكلام ـ أيّها الصائمون ـ لا ينقضي منه العجَب، حتى في أحوالِ بعض الصالحين والمتعبِّدين ممن ينتسِب للعلم والدّين والدعوة، فلا يكاد الغافِل منهم يُفكِّر في فضولِ الكلام فضلاً عن أن يفكِّر في تجنُّبِه، ولكثرةِ كلامهم فقَدوا السَّمتَ وقلَّت عندهم الحِكمة وخلَطوا الجدَّ بالهزل، ناهيكم في الوقوعِ في داء الغيبةِ والنميمة والكذِب والرياء والسمعة.

ومن المعلوم أنَّ كثرةَ الخُلطةِ وبخاصّة في أوقات التعبُّد تدعو إلى فضولِ الكلام وتضييعِ الأوقات وكثرةِ الانشغالات وتقعِد عن المناجاة، ولاحظوا ذلك في أحوالِ بعض المعتكِفين هداهم الله وأصلَح بالَهم، يعتكِفون جماعاتٍ، فينفتِح بينهم الحديث وتتّسِع أبوابه، بل قد يكون المعتكَف مجلبَةً للزائرِين ومكانًا للتّجَمّع مما يُبعِد عن هدي الاعتكافِ وحِكمته، يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله: "كلُّ هذا تحصيل لمقصودِ الاعتكاف وروحِة عكسَ ما يفعَله الجهّال من اتِّخاذ المعتكَف موضعَ عشرَةٍ ومَجلَبَة للزائرين وأخذهم بأطراف الحديث بينهم، فهذا لونٌ والاعتكاف النبويّ لونٌ آخَر". وفي هذا يقول بعض الحكمَاء: "إذا أردتَ أن يعتزلَك الناس فدَع الحديثَ معَهم، فإنّ أكثرَ مُواصلةِ الناس بينهم بالكلام، فمن سَكَت عنهم اعتزلوه".

معاشرَ المسلمين، هذه إشاراتٌ ووقَفَات لما قد تكون عليه هذه الشهادات في أحوالِ بعض الصائمين والمتعبِّدين، "يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشر أقصر" .

أيّها المسلمون، هل ندرِك ونحن نتأمَّل هذه الشهاداتِ الرمضانية أننا أصبَحنا في أمسِّ الحاجة إلى التغيير وأننا لا نزال يملؤُنا التفاؤُل بغدٍ أفضَل وواقع أمثَل. إنَّ وسائلَ العلاج وأدواتِ النجاح ليست عنّا ببعيد، فنحن أمّةُ القرآن وأمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، أمّة هذا الشهر الكريم الشاهدِ، ونحن الأمّةُ الشاهدة.

منهجُ التغيير والإصلاحِ يتمثَّل في هذه الآيَة الكريمة الجامعة: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11]، وفي النداء الرمضانيّ الصادح: " يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" .

ليس الإصلاحُ بالاكتفاء بالنقد والتلاوُم وتحويل المسؤولية على الأعداءِ والخصوم، إنّ على المسلم الصادِقِ الجادّ المحبِّ الخيرَ لنفسه وصادقِ الغيرة على أمّته أن يتَّقيَ الله ربَّه ويدركَ الغاية من هذه الحياة والوظيفةَ في هذه الدنيا، فيحفظ وقتَه ويستغلّ شريف أيّامِه وفاضلَ أوقاته وينطلِق نحو التغيير والإصلاح، فيعيش حياةً جادّة حازِمة متوازنَة، فلا يغرَق في المباحاتِ على حساب الفرائض والواجبات، كما يجب ترويضُ النفس وتدريبها على ملازَمَة الأعمال الصّالحة وتحَرِّي السنّة وصِدق المتابعة لهديِ المصطفى صلى الله عليه وسلم.

أيّها الإخوة المسلمون، إنّ هذه العشرَ الأخيرة فرصةٌ حقيقيّة لاختبارِ النفس في التّغيير نحوَ الأفضل والأحسن.

ليس من الصعبِ بتوفيقِ الله وعونه تغييرُ النفس وقطعُها عمّا اعتادته لمن أخلصَ نيّته وصدقَ في عزيمته، يقول المنذِر بن عبيد: "تولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعد صلاة الجمعَةِ فأنكرتُ حالَه في العصر".

وإنّ من الدلائلِ على التغييرِ ومَظاهر الهِمّة وقوّة العزيمة وضَبط الإرادة في هذا الشهرِ شهرِ الصبر الاجتهاد في العمَل والإحسان في هذه الأيّام العشر تأسِّيًا بالقدوةِ والأسوة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، فقد جعل رمضانَ كلَّه فرصةً للاجتهاد، كما خصّ العشرَ باجتهاد، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهِد في رمضان ما لا يجتهد في غيرِه، وكان يجتهِد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها.

وتسمُو الهمّة ويتجلّى التوجّه نحوَ التغيير حينما يجتهِد العبدُ ليفوزَ بإدراك ليلة القدر، فيعمَل ويتحرَّى، فتسمو النّفس وتعلو الرغائِب للوصول إلى أسمى المراتِب وأعلى المطالِب؛ توبةٌ وإقلاع وعزمٌ على الإصلاحِ والإحسان، وتأمّلوا هذا الحديثَ العظيم وما فيه من الحثِّ ووقفاتِ المحاسبة: "رغِم أنفُ رجلٍ دخَل عليه رمضانُ ثم انسلَخَ فلم يُغفر له" .

معاشرَ الأحبَّة، أَروا الله من أنفسِكم خيرًا؛ صيامُ نهارٍ وقيامُ ليلٍ واعتكاف وقراءةُ قرآن وذِكرٌ وصدَقات ودُعاء ومحاسبة ومراجعة وندمٌ وتوبَة وعزمٌ على فعلِ الخيرات، " يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصِر" .

وبعد: أيّها الصائمون، فلِحكمةٍ عظيمة جاءت آيةُ الدعاء في ثنايا آياتِ الصيام: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186]، ولحكمةٍ عظيمة وسِرّ بليغ خُتِمت آيات الصّيام بهذه الآية الواعظة: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة:187].

نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمّد صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، أرشَدَ النفوس إلى هُداها، وحذَّرها من رداها، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:9، 10]، أحمده سبحانه وأشكره على نِعمٍ لا تُحصَى وآلاء لا تتناهَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له رضينا به ربًّا وإلهًا، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله أعلى الخلقِ منزلة وأعظمُهم عند الله جاهًا، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما طلعت شمس بضحاها، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد:

أيّها المسلمون، والحديثُ عن الشهادةِ الرمضانية وفُرصِ التغيير والإصلاح، فإنّ شهرَ رمضان موسِم عظيمٌ من مواسم الخير وزمَنٌ شريف من أزمِنَة النفحات، يغتَنِمه الأتقياء الصالحون للاستزَادَة من صالح العمل، ويُلقي بظلِّه الظليل على العصاةِ الغافلين والمقصّرين فيتذكّرون ويندَمون ويتوبون، فالسعيدُ السعيد من كان شهرُه مجدِّدًا للعزم والطاعةِ وحافزًا للتمسّك بحبل الله وفرصةً للتزوّد بزاد التقوى، حاديه في ذلك وسائقُه همّةٌ عالية ونفسٌ أبيّة لا ترضى بالدّون من العزمِ والعمَل، يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا طلع غَيمُ الهمّة في ليل البَطالة وأردَفه نور العزيمةِ أشرقت أرضُ القلب بنور ربها".

على أنّه ينبغي ـ أيّها المسلمون ـ لذوي الهِمَم العالية وطلاّب الكمالاتِ أن يعرفوا الطبيعةَ البشرية والضَعفَ الإنساني، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء:27، 28]، وفي مثل هذا يقول بعض أهلِ العلم والحكمة: إنّ مِنَ الخطأ والخَطَل أن ينزعَ الرجل إلى خصلَةٍ شريفةٍ من الخير، حتى إذا شعَر بالعجز عن بلوغِ غايتِها انصرَف عنها والتحَق بالطائفة الكسولةِ التي ليس لها همّة في هذه الخَصلة ولا نصيبٌ، ولكن الطريقَ الصحيح ونهجَ الحكمة ومنهجَ السعادة أن يذهبَ في همته إلى الغاياتِ البعيدة ثم يسعَى لها سعيَها ولا يقِف دونَ النهاية إلا حيث ينفَد جهده ويستفرِغ وسعَه.

ألا فاتقوا الله رحِمكم الله، واعلموا أنّ إدراكَ هذا الشهر والإحسان فيه نعمةٌ عظيمة وفضلٌ من الله كبير، لا يحظى به ولا يوفَّق إلا مَن منَّ الله عليه بجودِه وإحسانه وفتَحَ عليه أبوابَ الخيرات، فتنافسوا ـ رحمكم الله ـ في الطاعاتِ، وازدادوا من الصالحات، وجِدّوا وتحرَّوا ليلةَ القدر، وتعرَّضوا لنفحاتِ ربِّكم.

تقبّل الله منا ومنكم الصيامَ والقيام وسائرَ الطاعات، إنه سميع مجيب.

هذا، وصلّوا وسلّموا على المبعوث رحمةً للعالمين سيِّد الأوّلين والآخرين، فقد أمركم بذلك ربكم في محكم التنزيل فقال عزّ قائلاً عليمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك نبيّنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين...