البحث

عبارات مقترحة:

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

المعطي

كلمة (المعطي) في اللغة اسم فاعل من الإعطاء، الذي ينوّل غيره...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

الهزيمة النفسية

العربية

المؤلف محمد حسان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة
عناصر الخطبة
  1. أعراض الهزيمة النفسية .
  2. أسباب الهزيمة النفسية .
  3. ما العلاج؟! .

اقتباس

لقد ابتُلي المسلمون بنكبات وأزمات كثيرة مرورًا بأزمة الردة الطاحنة والهجمات التتارية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، وسقوط الأندلس، وزوال ظل الخلافة، وضياع القدس الشريف. ومع ذلك فإن الأمة مع كل هذه الهزائم والنكبات كانت تمتلك مقومات النصر من إيمان صادق بالله واعتزاز بهذا الدين، أما اليوم فقد فقدت جُلَّ مقومات النصر في الجانب الإيماني، والجانب المادي على حدٍّ سواء، فهزمت...

الخطبة الأولى: 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَ لُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فحيَّا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكّى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور. طبتم جميعًا وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً. حياكم الله جميعًا، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمعني وإياكم في الدنيا دائمًا وأبدًا على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار كرامته. إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.

أحبتي في الله: لقد ابتُلي المسلمون بنكبات وأزمات كثيرة مرورًا بأزمة الردة الطاحنة والهجمات التتارية الغاشمة، والحروب الصليبية الطاحنة، وسقوط الأندلس، وزوال ظل الخلافة، وضياع القدس الشريف.

ومع ذلك فإن الأمة مع كل هذه الهزائم والنكبات كانت تمتلك مقومات النصر من إيمان صادق بالله واعتزاز بهذا الدين، أما اليوم فقد فقدت جُلَّ مقومات النصر في الجانب الإيماني، والجانب المادي على حدٍّ سواء، فهزمت هزيمة نفسية نكراء، وهذا هو موضوعنا مع حضراتكم اليوم في هذا اللقاء.

وكعادتنا فسوف نركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان المهم في العناصر التالية:

أولاً: أعراض الهزيمة النفسية.
ثانيًا: أسباب الهزيمة النفسية.
ثالثًا: ما العلاج؟!

فأعرني قلبك وسمعك، فإن هذا الموضوع في هذه الأيام من الأهمية بمكان، والله أسأل أن يجعلني وإياكم جميعًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يقر أعيننا وإياكم بنصرة الموحدين وعز الإسلام والمسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أولاً: أعراض الهزيمة النفسية: أيها الأحبة: إن للهزيمة النفسية أعراضًا كثيرة خطيرة أهمها ما يلي:

العرض الأول: تنحيةُ الشريعة الربانية وتحكيمُ القوانين البشرية، وهذا -بلا منازع- هو أخطر أعراض الهزيمة النفسية التي نُكبت بها الأمة المحمدية في هذا العصر الحديث؛ يقول الله -عز وجل-: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).

فالأيام دُول، والصراع بين الحق والباطل صراع دائم لا ينتهي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا شك على الإطلاق أن الدولة والجولة الآن للغرب الذي انتصر في الجولة الأخيرة، فراحت الأمة المهزومة عسكريًّا، واقتصاديًّا، ونفسيًّا تحاكي الغرب الذي انتصر في هذه الجولة، ويا ليت الأمة راحت تنقل أروع ما وصل إليه الغرب في الجانب العلمي والتَّقَني، ولكنها بكل أسف نقلت أسوأ ما وصل إليه الغربُ في الجانب العقدي والإيماني والأخلاقي والروحي، حتى رأينا من بني جلدتنا من يدندن على هذا الوتر، يمجد الغرب ويسبح بحمده، حتى قال قائل: قد عزمنا أن نأخذ كل ما عند الغربيين حتى الالتهابات التي في رأسهم والنجاسات التي في أمعائهم؛ ولله در القائل:

قالوا لنا الغرب!! قلت:

صناعُةٌ وسياحُة ومـظاهر تغريـنا
لـكنه خـاوٍ مـن الإيمان لا يرعى ضـعيفًا أو يسر حزينًا
الغرب مقبـرة المبـادئ لم يزل يرمي بسهم المغريات الدينَ
الغرب مقبـرة العـدالة كلما رفعت يدًا أبدى لها السكينَ
الغرب يحمل خنجرًا ورصاصة فعلام يحمل قومنا الزيتـونَ
كفر وإسـلام فـأنى يلـتقي هذا بذلك أيها اللاهـونَ
أنا لا ألوم الغرب في تخطيـطه لكن ألوم المسلم المفتـونَ
وألوم أمتنا التي رحـلت على درب الخضوع ترافق التنينا
وألوم فيها نخـوة لم تنتـفض إلا لتضربنا على أيـدينا

راحت الأمة تقلد الغرب المنتصر في هذه الجولة، وظنت الأمة المسكينة أنها بتنحيتها للشريعة الربانية وتحكيمها لشريعة الغرب العلمانية، ظنت أنها قد ركبت قوارب النجاة وسط هذه الرياح الهوجاء والأمواج المتلاطمة، فخابت الأمة وخسرت، وغرقت الأمة وأغرقت، ولا تزال الأمة إلى هذه الساعة تجني ثمار الخذلان واليأس والهزيمة النفسية، بل والعسكرية والاقتصادية والعلمية.

والعودة إلى شريعة رب البرية ليست نافلة ولا تطوعًا ولا اختيارًا، فإن الحياة البشرية من خلق الله، ولن تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولن تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يقدم لها من يد الله، ولا يمكن أبدًا أن يتعدى هذا الدواء كتاب الله وسنة الحبيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ قال الله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور: 51-52]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 1-2].

قال ابن القيم: "إذا كان مجرد رفع الصوت على النبي يحبط العمل، فما ظنك بمن قدّم قوله وفعله وسياسته على قول الله وفعل رسول الله".

أسأل الله أن يرد الأمة إلى الشريعة الربانية ردًّا جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

العرض الثاني: اليأس من إمكانية التغيير: وهذا عرض خطير أصاب كثيرًا من المسلمين في هذه الأيام ممن يرددون هذه الكلمات التي أصبحت تمثل معتقدًا لدى غالب المسلمين، فهم يرددون "لا فائدة"، "أنت تؤذن في خرابة"، "أنت تنفخ في رماد"، "عش عصرك"، "ربِّ أولادك"، "تفرغ لتجارتك ولأولادك"، "لمكتبك"، "لكرسيك"، "لوظيفتك"، "هلك الناس"... إلى آخر هذه الكلمات التي تزيد المهزوم هزيمة، والنشيط يأسًا وخذلانًا.

وقد شخَّص المصطفى هذه النفسيات المهزومة تشخيصًا دقيقًا في حديث صحيح رواه الإمام مسلم فقال: "إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهَلكهم".

قال الإمام النووي: "أهلكهم: برفع الكاف وفتحها، والرفع أشهر، ومعناها: أشدهم هلاكًا، وأما رواية الفتح فمعناها: هو جعلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة. واتفق العلماء على أن هذا الذم إنما يقال على سبيل الازدراء على الناس واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم، لا أنهم هلكوا في الحقيقة؛ لأته لا يعلم سر الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزُّنًا لما يرى في نفسه، وفي الناس من النقص في أمر الدين فلا بأس عليه". اهـ.

فهذا عَرَض خطير من أعراض الهزيمة النفسية، ألا وهو اليأس من إمكانية التغيير لهذا الواقع المر الأليم الذي تحياه الأمة ويريد كثير من أبنائها أن يفرضوا سياسة الأمر الواقع على النشطين ممن يتحركون لدين الله ودعوة الله -جل وعلا-.

العَرَض الثالث: السلبية القاتلة في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لقد ظلت سماء الأمة سحابة قاتمة من هذه السلبية القاتلة. فالمسلم يرى أخيه المسلم على معصية، فيهز كتفه ويمضي كأن الأمر لا يعنيه.

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا

كنقص القادرين على التمام

وفي الحديث الذي رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني ولو آية".

وقال كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وتغيير المنكر -كما نعلم جميعًا- يكون بالضوابط الشرعية المعلومة.

فلا عذر لك أمام الله -عز وجل-، فنحن جميعًا نركب سفينة واحدة فيها الصالح والطالح، وإن نجت السفينة نجا الجميع، وإن هلكت هلك الجميع كما في الحديث من حديث النعمان: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم وآذوهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا".

العَرَض الرابع: الدفاع عن الإسلام كمتهم في قفص الاتهام، وهذا عرض خطير، فالغرب يثير من آن لآخر -بل في كل آن- شبهات خطيرة ضد الإسلام مثل: الإسلام دين إرهاب، الإسلام دين تطرف، الإسلام ظلم المرأة، البيت للمرأة المسلمة سجن مؤبد، الزواج سجّان قاهر، الأمومة تكاثر حيواني، لماذا تزوج محمد تسعة؟! لماذا يتزوج الرجل في الإسلام أربعة؟! لماذا حرم الإسلام الخلوة بين الرجل والمرأة؟! لماذا حرم الإسلام الاختلاط؟! لماذا تقطع يد السارق؟! لماذا يرجم الزاني؟! إلى آخر هذه الشبهات التي تثار.

فينبري للرد على هذه الشبهات فريق من أهل العلم ولكن بمنطق أن الإسلام متهم في قفص الاتهام، فتأتي الردود هزيلة، لأنها ردود المهزوم نفسيًّا.

ومن الجفاء أن أذكر هذا العرض الخطير ولا أُذَكِّر بهذا الوجه المضيء المنير لسلفنا الصالح يوم أن اعتزوا بهذا الدين وارتفعت به رؤوسهم لتعانق كواكب الجوزاء، أو إن شئت فقل: لفضلهم وكرمهم تنزلت كواكب الجوزاء لتتوج هذه الرؤوس التي وحَّدت الهر -جل وعلا-.

فها هو ربعي بن عامر، ذلكم البطل المسلم، ضعيف البنية، قوي الإيمان، الذي ركب جواده وانطلق لمقابلة قائد الفرس، وكلكم يعلم القصة، ولكني أردت أن أنبه لأمر مهم، ألا وهو الاستعلاء، العزة بهذا الدين، وأراد الحرس أن يدخل ربعي على رستم وهو يمشي على قدميه فأبى ودخل على ظهر جواده، فسأله رستم قائد الجيوش الكسروية وقال: من أنتم؟! وما الذي جاء بكم؟!

فقال ربعي: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد -إن شاء الله- من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". ابتعثنا الله بدينه لندعو الناس إليه، فمن حال بيننا وبين دعوة الناس إلى دين الله قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله.

قال رستم: وما موعود الله؟!

قال ربعي: الجنة لمن مات على ذلك، والنصر لمن بقي منا.

فقال رستم: لقد سمعت مقالتك، فهل لكم أن تؤجِّلوا هذا الأمر لننظر فيه ولتنظروا؟! فقال ربعي: كم أحب إليكم، يوم أو يومان؟!

قال رستم: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.

قال ربعي: لا، قال رستم: ولم؟! قال: ما سن لنا رسول الله أن نؤجل الأعداءَ عند اللقاء أكثرَ من ثلاث، فانظر أمرك وأمرهم!!

قال رستم: أسيدهم أنت؟!

قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد، يجير أدناهم على أعلاهم.

عزة، استعلاء، أما آن فقد شربت الأمة كؤوس الذل والهوان ألوانًا وأصنافًا وأشكالاً، هُزمت وراحت لتركعَ ولتخضعَ في محرابٍ الشرق الملحد تارة، ومحراب الغرب الكافر تارة أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

العَرَض الخامس: الخوف من إظهار الهوية الإسلامية: وهذا عرض فَتَاك من أعراض الهزيمة النفسية، يخشى المسلم الآن في ظل هذه الظروف أن يُظهر السُنة، وأن يظهر هويته بعزة واستعلاء، ويخشى أن يُتَّهم بالإرهاب، يخشى أن يُتهم بالتطرف، ويخشى أن يُتهم بالجمود والرجعية والتخلف وضيق الأفق وعدم القدرة على الانفتاح العصري... إلى آخر هذه التهم التي يغني بطلانها عن إبطالها وفسادها عن إفسادها وكسادها عن إكسادها.

بل تجد المسلم الآن -إلا من رحم الله- إذا تعامل مع غير المسلمين أو سافر إلى بلاد الشرق والغرب يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويلبس كما يلبسون، ويتكلم كما يتكلمون، بل ويخشى أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، وهذه سُنّة وهذه بدعة، وهذا حق وهذا باطل، لماذا؟! لأنه مهزوم من داخله، هُزم نفسيًّا فلا يعتز بدينه، ورحم الله من قال:

ومـما زادنـي فخرًا وتيهًا

وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن أرسـلت أحمد لي نبيًّا

ارفع رأسك واعتز بتوحيدك، أعلن هويتك بكل كرامة، وأعلن السُنَّة، تمسَّك بهذا الدين فأنت لك وظيفة، أنت لك غاية، لا تعش كهؤلاء الذين قال الله في حقهم: (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف: 179]، وقال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].

أحبتي في الله: إن هذه الأعراض كانت نتيجة لأسباب عديدة، وهذا هو عنصرنا الثاني.

أسباب الهزيمة النفسية في واقعنا عديدة عجيبة؛ منها أسباب داخلية وأخرى خارجية، اسمحوا لي أن أستهل الحديث بالأسباب الداخلية؛ لأنه بكل أسف يقلل غالب المسلمين من شأنها مع أن الله -عز وجل- قال: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]. الهزيمة من عند أنفسنا من الداخل.

أولاً: الأسباب الداخلية:

السبب الأول: ضعف الإيمان عند غالب المسلمين: أيها الحبيب: هذا بلا منازع أخطر سبب من أسباب الهزيمة النفسية، والإيمان ليس قولاً باللسان فحسب، ولكن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان.

الإيمان يزيد وينقص، ويقوى ويضعف، وهذا أصل من أصول أهل السنة، وقد جسد لنا الحبيب هذه الحالة تجسيدًا دقيقًا في حديثه الصحيح الذي رواه أبو النعيم من حديث علي -رضي الله عنه- مرفوعًا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم، إذ تجلت عنه فأضاء".

فكذلك القلب، تعلوا القلب من آن لآخر سحب مظلمة من آثار المعاصي والذنوب، فتضعف الإيمان في القلب، فإذا زاد الإيمان وذاق الإنسان حلاوته انقشعت تلك السحب وأشرق القلب بأنوار التوحيد، وقوي صاحب هذا الإيمان.

أيها الحبيب: إذا أردت أن تتعرف على سر الإيمان إذا استقر وازداد في القلوب فبسرعة ارجع إلى التاريخ وعد إلى أصحاب الحبيب محمد الذين حوّلهم الإيمان من رعاة الإبل والبقر والغنم إلى سادة وقادة لجميع الأمم، انطلقوا بهذا الإيمان إلى أعظم الإمبراطوريات على هذه الأرض، وأقاموا للإسلام دولة وسط صحراء تموج بالكفر موجًا في مدة لا تساوي في حساب الزمن شيئًا.

الإيمان هو الذي جعل هذا البدوي الذي لا ذكر له في أرض الجزيرة يُرفع إلى عنان السماء يوم أن ترس بجسده على الحبيب المصطفى وجعل من ظهره حائط صَد منيعًا لتتحطم عليه رماح وسيوف الأعداء؛ ليحمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول للحبيب: نحري دون نحرك يا رسول الله.

الإيمان هو الذي جعل هذا العربي البدوي في أرض الجزيرة يقول للحبيب -صلى الله عليه وسلم- والله لا نقول لك ما قالته بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول لك يا رسول الله: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

إنه الإيمان، إنه الإيمان الذي يصنع الأعاجيب، فضعفُ الإيمان سبب خطير من أسباب الهزيمة النفسية عند غالب المسلمين في هذه الأيام، أسأل الله أن يزيد إيماننا وإيمانكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

السبب الثاني: ترك الجهاد في سبيل الله: ترك الجهاد يساوي الذل والهوان والاستسلام، وهذا هو كلام الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر أنه قال: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".

إنه الذل، إنه الهوان بترك الجهاد.

أيها الأحباب: إن أعداء الأمة يعلمون علم اليقين أن الأمة إذا رفعت من جديد راية الجهاد في سبيل الله لأذلت الشرق والغرب، ولذا هم يحرصون كل الحرص على أن تُنحَّى الأمة عن الجهاد وروح الجهاد، وعلى ألا تُربَّى هذه الأجيال على سِير الجهاد وسِيرْ الأبطال الفاتحين، لتظل الأمة ذليلة مبعثرة كالغنم في الليلة الشاتية الممطرة.

لا عزّ لهذه الأمة إلا إذا عادت من جديد لترفع راية الجهاد في سبيل الله العزيز الحميد، ولترفع ذروة سنام هذا الدين.

السبب الثالث: عدم المعرفة عند غالب المسلمين بطبيعة الطريق: إن الطريق إلى الله ليس هينًا -أيها المسلمون-، الطريق إلى الله ليس مفروشًا بالورود والزهور، بل إن الطريق مفروش بالدماء والأشلاء، محفوف بالعنت وبالأذى والابتلاء، فيأتي كثير من الناس يردد كلمة الإيمان يحسبها سهلة هينة، يرددها في وقت الرخاء وهو يظن أن الكلمة هينة، فإذا ما تعرض على الطريق لأول محكٍّ عملي من الفتن والأذى انقلب على عقبيه وتخلى عن طريق الله -جل وعلا-، فهو يردد كلمة التوحيد والعقيدة، فإن ربحت فهو مع الرابحين، قال سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج: 11].

فلابد من معرفة طبيعة الطريق حتى لا تنزلق مع أول منعطف من المنعطفات على طريق المحن والفتن والابتلاءات؛ قال تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت 1-3].

أخي الحبيب: لابد أن تعي هذه الطبيعة حتى لا تنقلب على عقبيك، فمن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا، قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].

السبب الرابع: عدم المعرفة عند غالب المسلمين بالقدرات والإمكانيات والطاقات مع قلة الطموحات: فهذا سبب خطير من أسباب الهزيمة النفسية، دائمًا ما نقلل من شأن الطاقات والقدرات والإمكانيات الهائلة التي مَنَّ الله بها علينا، من أرض ومناخ وأموال وثروات وعنصر بشري هائل جبار، فضلاً عن إسلام رَضِيَهُ العزيزُ الغفار للبشرية كلها دينًا، ومع ذلك ترى من أبناء هذه الأمة من يقلل من قدر هذه القدرات والطاقات والإمكانيات.

أيها المسلمون: إن أموال المسلمين هي التي تدير دفة السياسة العالمية في بنوك الشرق والغرب، إن عقول المسلمين والعرب هي التي تخطط وتبني في بلاد الشرق والغرب، اسألوا عن علماء الذرة، اسألوا عن علماء الجيولوجيا، اسألوا عن علماء الهندسة، عقول إسلامية وعربية حُجِر عليها في بلادها فقوبلت بقانون الروتين القاتل للإبداع، فرحلت فاستُقبلت في بلاد الشرق والغرب استقبال الأبطال الفاتحين، ومنحوا الإمكانيات الهائلة للعمل والعطاء والإبداع فأبدعوها، وهذا واقع نعيشه الآن.

لقد مررت على جسر رهيب جدًّا في نيويورك على المحيط، ولو نظرت إليه كاد عقلك أن يطيش، وكانت المفاجأة حينما وصلنا إلى الشاطئ الآخر ووقف مرافقي فقال لي: هل تعلم أن الذي صمم هذا الذي ترى مهندس مسلم من باكستان؟! هذه عقولنا.

أيها المسلمون: إن سلاحًا واحدًا كسلاح البترول استخدمه المسلمون والعرب استخدامًا صحيحًا للحظات فانقلبت الموازين كلها.

إن عندنا قدرات وطاقات وإمكانيات وثروات هائلة، ولكننا لا نحسن الاستخدام، ونقلل دائمًا من شأن هذه القدرات والطاقات في الوقت الذي لا نرى فيه طموحًا على الإطلاق، لا يمكن أبدًا أن نرى شابًّا يطمح الآن إلا في أن يتخرج من الجامعة، وأن يتزوج بفتاة جميلة، وأن يسكن سكنًا مؤثثًا تأثيثًا فاخرًا، وإن مَنَّ الله عليه بسيارة فالحمد لله. وهكذا.

هل فكر في هذا الدين؟! هل فكر في أن يغير أمته؟! أبدًا، لا يفكر في هذا؟! ولا يطمح لهذا؟! ويظل المسلم غالبًا لا ينظر إلا تحت قدميه!!

ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحفر

وأختم هذه الأسباب -حتى لا أطيل- بهذا السبب المهم، ألا وهو: السبب الخامس: النظرة الضيقة للزمان والمكان: شبابنا الآن ينظرون للمكان والزمان نظرة ضيقة، فتصيبهم هذه النظرة باليأس والقنوط، كيف؟! كثُرتْ الفتن، قل الملتزمون، كثرت المتبرجات، الكتاتيب توقفت، إذًا بعد فترة لن نرى حافظًا للقرآن.

هذه النظرة الضيقة للمكان الذي يعيش فيه تصيبه باليأس والقنوط، فيهزم هزيمة نفسية قاتلة، فيشل عقله وفكره، بل وحركته إن كان يستطيع أن يفعل شيئًا، يتوقف تمامًا عن فعل أي شيء مع أنه لو خرج بها من قريته أو مدينته أو دولته ونظر نظرة أوسع، ونظرة أشمل إلى المكان، تعَلَّمَ يقينًا أن الأرض ما خلت ولن تخلوا أبدًا من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان بشهادة الصادق سيد ولد عدنان.

كن واسعَ النظرة، كن شموليَّ النظرة كذلك، لا تنظر إلى الزمان نظرة ضيقة، فشبابنا الآن يقولون: ضاع الدين، هزمت الأمة، إن الإسلام يتعرض لأشد الهجمات، بل إن المسلمين يتعرضون لأشد الضربات أيدي الأعداء، يقولون: إذًا لا فائدة، إلى آخر هذه الكلمات، مع أنه لو نظر نظرة واسعة للزمان لعلم يقينًا أن الأمة قد نكبت نكبات أشد، ومع ذلك غير الله الواقع وبدل الله الحال.

أخي الحبيب: إني أقول لك بلغة يحدوها الأمل وبقلب ملأه اليقين: إن هذا الواقع سيتغير، وإن هذا الحال سيتبدل.

يا مسلمون: لقد هجم التتار على المسلمين، فملئت شوارع بغداد بأكوام اللحوم والأشلاء، بل ولم تَصَلَّى صلاة جماعة في مسجد واحد من مساجد بغداد أربعين يومًا، إلى هذا الحد؟! نعم أغلقت المساجد. كان المسلم يخشى أن يخرج إلى المسجد خوفًا من القتل. كان المسلم إذا رأى التتري، يقف في مكانه لا يتحرك خطوة حتى يأتي المجرم ليقتله، انظر إلى حجم الهزيمة من الداخل.

ومع ذلك سلط الله على التتار منْ هزمهم شر هزيمة، وغبر الله الحال وبدل الله الواقع.

الصليبون هجموا على المسلمين، ووضعوا الصلبان على كل حوائط المسجد الأقصى، بل ومنعت الصلاة في المسجد الأقصى واحدًا وتسعين عامًا، تدبر وتذكر التاريخ، ومع ذلك قيض الله للأقصى من يطهره، وبدل الله الحال وغير الله الواقع.

وإن كان الله قد قيض للأقصى من يطهره فإننا على يقين جازم أن الذي قيض للأقصى منْ طَهَّره حي لا يموت.

فلئن عرف التاريخ أوسًا وخزرجًا

فلله أوسٌ قادمون وخزرج
وإن كـنوز الغيب تخفي طلائعًا صـابرة رغم المكائد تخرج

أيها المسلمون: وهجم القرامطة على المسلمين في بيت الله الحرام، فقتلوا المسلمين في الكعبة وهم يلبسون ملابس الإحرام، وامتلأ بيت الله بالدماء والأشلاء، وانطلق المجرم أبو طاهر القرمطي قائد القرامطة فانتزع الحجر الأسود من الكعبة المشرفة، ورفع رأسه إلى السماء وصرخ في جوف بيت الله وقال: أين الطير الأبابيل؟! أين الحجارة من سجيل؟!

إنها فتنة تعصف بالقلوب يا عباد الله، وظل الحجر الأسود بعيدًا عن الكعبة المطهرة ما يزيد على عشرين عامًا. ومع ذلك غير الله الحال وبدل الله الواقع.

فيا أيها المسلمون: لا تيأسوا ولا تقنطوا، ولا تنظروا للزمان نظرة ضيقة، فهذا من أخطر أسباب الهزيمة النفسية الداخلية.

أما الأسباب الخارجية للهزيمة النفسية: فنراها بالجملة حتى لا نطيل تتمثل في السبب الخطير: التضخيم والتهويل من قوة أعداء الإسلام: وتَرٌ يُعزف عليه بالليل والنهار بقصد أو بغير قصد، قوة الأعداء، القنابل النووية، القنابل الجرثومية، الصواريخ، الطائرات والدبابات، العلم والتكنولوجيا.

لا نود أن ننفي ما وصل إليه الغرب في هذا الجانب، ولكننا نود أن نقول: ينبغي أن نعلم يقينًا أن الله -عز وجل- ما أمر المسلمين بالإعداد إلا على قدر الاستطاعة، فقال سبحانه: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [الأنفال: 60].

وعَبَّر الله -جل وعلا- بالقوة بصيغة التنكير؛ ليبحث المسلمون عن القوة التي تناسب كل عصر وكل مصر: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال: 60].

فما عليك إلا أن تبذل أقصى ما في استطاعتك، فإن عَلِم الله منك أنك قد عملت أقصى ما في طاقتك وما في وسعك فاصبر واطمئن، وكِلْ النتائج إلى من بيده الكون كله، قال تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر: 30]، وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 14]، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].

والله لو علم المسلمون قدر قوة الله وازداد إيمانهم وثقتهم بالله، لغيَّر الله الحال ولبدَّل الله الواقع؛ لأن الله -عز وجل- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

فلنعد إلى الله ابتداءًً، ولنحقق الإيمان لأن الله قد عَلَّق النُصرة به: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)، فلا نبغي أن نضخم من قوة الأعداء في الوقت الذي يجب علينا فيه أن نبذل أقصى ما في استطاعتنا لإعداد القوة، وقد شاء الله أن يرينا كيف أرغم الفيتناميون أمريكا ووضعوا أتفهم في التراب، وكيف وضع الصوماليون الحفاة العراة الجياع أنف أمريكا في التراب، يوم أن جَر شباب الصومال بعض الجنود الأمريكيين في الشوارع والطرقات، ونقلت وكالات الأنباء هذه الصور فاضطرت أمريكا أن تسحب جيوشها من الصومال في الحال.

كيف وضع المسلمون في البوسنة أنف -لا أقول الصرب فحسب- إنما أقول كيف وضع المسلمون في البوسنة أنف تآمر عالمي حاقد يهودي صليبي علماني رهيب!! كل المراقبين قرروا أن الحرب في البوسنة لن تستمر أكثر من أسبوع، وصمد المسلمون في البوسنة، كل المراقبين قرروا أن الحرب في الشيشان كذلك، ولكن الشيشانيين مرَّغوا أنف الدب الروسي الغبي في التراب، والأفغان يوم أن صَدَقوا الله ورفعوا الراية للجهاد في سبيل الله وضعوا أنف الدب الروسي في التراب، ويوم أن رفعوا الراية للعصبية المنتنة سلَّط الله بعضهم على بعض لنَعِي سنةً ربانية لا ينبغي أن نتجاهلها أبدًا.

أيها الأحبة: يجب علينا أن نعي هذه الحقيقة وأن لا نبالغ، لأن هذه المبالغة تزيد المهزوم هزيمة، وتزيد المنتصر على نفسه خذلانًا وتكاسلاً.

وأكتفي بهذا القدر لأعرج كثيرًا على العنصر الأخير وذلك بعد جلسة الاستراحة، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستنّ بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها الأحبة الكرام: ما هو العلاج؟! العلاج في نقاط سريعة لا تحتاج إلى تفصيل: أولاً: معرفة أسباب الداء؛ فإن تشخيص الداء نصف الدواء.

ثانيًا: العودة الجادة الصادقة إلى كتاب الله وسنة رسول الله، وتربية أفراد الأمة على العقيدة الصالحة بشمولها وكمالها، ولابد أن نَعِي أن العقيدة الآن هي التي تحرك العالم كله، فالحرب في الشيشان حرب عقدية، والحرب في الصومال حرب عقدية، والحرب في فلسطين عقدية، والحرب في كشمير حرب عقدية، والحرب في البوسنة حرب عقدية، فلابد أن نربي الجيل على العقيدة الصحيحة بشمولها وكمالها.

ثالثًا: التخلص من الوهن كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث ثوبان أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أمن قلة يا رسول الله؟! قال: "لا، إنكم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن الوهن في صدروكم"، قيل له: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: "حب الدينا وكراهة الموت".

رابعًا: تربية شباب الأمة على روح الجهاد في سبيل الله.

خامسًا: العودة الصحيحة إلى التاريخ وسير السلف الصالح؛ لا لمجرد الثقافة الذهنية الباردة، وإنما لأخذ العبر من ناحية، ولتتدفق في عروق الأجيال دماءُ الغيرة والعزة والكرامة من ناحية أخرى.

وأخيرًا: الاعتزاز المطلق بهذا الدين وبنصرة رب العالمين، قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) [النور: 55]، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36]، وقال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33]، قال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، قال تعالى: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81].

أسأل الله -عز وجل- أن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا وإياكم العز والاستعلاء بالإيمان بهذا الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.