الوكيل
كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...
العربية
المؤلف | عادل العضيب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - السيرة النبوية |
أتحسبون أن كثرة القتلى، أن الدماء والأشلاء لا تأتي إلا من الصواريخ والطائرات،.. لقد لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبته الكرام أمَرَّ مما رأينا، وتألموا لدماء المسلمين أكثر مما تألمنا. ما وقع في أحد مصيبة من أعظم المصائب سبعون من الصحب الكرام يُقتَلون مرة واحدة، سبعون يرحلون من مجتمع صغير وعدد قليل. فيا كل من بكى الإسلام وأهله أو بكى حبيبًا على قلبه؛ إن لك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام سلوى. أتدرون ما الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد انقضاء المعركة بعد الهزيمة بعد القتل بعد التشويه للجثث قال لأصحابه: "استووا حتى أثني على ربي"، يثني على ربه على ماذا؟..
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالحق المبين، وأيده بالآيات البينات لتقوم الحجة على المعاندين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله! أيها المسلمون! الدنيا دار الآلام والأحزان، ولا بد أن يعيش الإنسان مهما أوتي من مال أو قوة أو سلطان لا بد أن يعيش لحظات من الآلام تقطع قلبه، وتُجري دمعه وتهز كيانه، هذه اللحظات المرة عاشها سيد الخلق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في حادثة من أبكى الحوادث في تاريخ الإسلام ويوم من أصعب الأيام على نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحب الكرام.
فبعد غزوة أحد وفي أرض المعركة وقف -عليه الصلاة والسلام- بجسد أسخنته الجراح على جرح أشد نزفًا وألمًا، جرح غائر في أعماق قلبه الشريف حين نظر إلى شهداء أُحد فقد كان المنظر يفتت الأكباد.
سأل القائد أصحابه سؤالا ينبئ عن نار تستعر في القلب، من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل أنا رأيته فقال -صلى الله عليه وسلم- فانطلق أرنا.
انطلق الرجل يمشي يتخلل الجثث الدامية حتى اقترب منه، فإذا الجسد لا يشبه جسد حمزة فقد قطع أنفه وأذنه، وشق بطنه وشوِّه، فتكدر الرجل واستدار مباشرة نحو نبينه -عليه الصلاة والسلام- خشية أن يراه.
هذا حرص المحب على مشاعر حبيبه، فقال وصوته يتفطر حزنًا وألمًا: يا رسول الله مُثِّل به والله، فكره -صلى الله عليه وسلم- أن ينظر إليه لكنه قال كلمة مبكية تدل على شدة المصيبة على نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية، فيُحشر من بطون الطير والسباع"، لكنه -صلى الله عليه وسلم- خشي على مشاعر عمته.
أخي في الله: هل وقفت على حبيب لك ودع الحياة؟ هل عشت لحظات من الألم صدَّعت قلبك، ومزَّقت فؤادك وأنت ترى من سكن قلبك فارق دنياك بلا رجوع وأنت لا تملك إلا أن تتبع الزفرة بزفرة، والعبرة بعبرة، لئن عشت هذه اللحظات، لقد عاش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما هو أشد وأبكى وهو يرى عمه وأصحابه مُزِّقَت أجسادهم وشُوِّهت أشكالهم لكنه -عليه الصلاة والسلام- صبَر على مُرّ القضاء، واستسلم لحكم رب الأرض والسماء.
علمت صفية عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما فُعِل بأخيها وهي بين النساء تسعف وتداوي الجرحى فتركت ما معها، وانطلقت والألم يقطع قلبها، وأخذت معها ثوبين وأقبلت تركض ملهوفة تبحث عن شقيقها، ولما اقتربت من الأجساد المشوهة لمحها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بعيد فلم يعرفها، لكنه كره أن ترى النساء الأجساد الممزقة فأمر بإيقافها وصاح "المرأة المرأة".
كان ابنها الزبير بن العوام بجانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرفها عرف أمه فتوجه يركض نحوها ليوقفها، واستمرت تركض حتى اعترضها برفق، لكنها ضربت صدره ضربة غاضبة ونهرته قائلة: إليك عني لا أبى لك، فأبلغها بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوقفت لكن دموعها لم تتوقف.
أخرجت قطعتي القماش ومدتها لابنها الزبير وقالت -وقد انفطر قلبها-: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فكفِّنوه فيهما، ثم انطوت على جمر الفراق وعادت فلن ترى حمزة بعد اليوم.
ما أصعب اللحظات وما أبكاها.
أخذ الزبير الثوبين وعند وصوله لأصحابه رأوا شهيدًا أنصاريًّا قد شوَّهه الوثنيون أيضًا، هنا تقاسم المهاجرون والأنصار الأكفان كما تقاسموا الأحزان، وكما تقاسموا الديار والأموال -رضي الله عن تلك الأجساد الطاهرة-، جمعتهم لا إله إلا الله لم تجمعهم الأحساب ولا الأنساب، لهذا سادوا الدنيا.
يقول الزبير: "وجدنا فظاظة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فقدرنهما فكان أحدهما أكبر من الآخر لذا أجرو القرعة بينهما".
يا الله ما أبكاه حين يتقاسم الأحبة الأكفان، ما أبكاه حين يتقاسم الأحبة الأكفان، هل سمع التأريخ بمثل هذا، هل مر على الدنيا كهؤلاء الرجال؟
لا والله..
قرعة تجرى حتى لا يحظى أحد بكفن أفضل من أخيه، أجرى الصحابة القرعة، فكان لحمزة لعم قائد الدولة الإسلامية لسيد الشهداء قطعة قماش إذا مُدَّت على رأسه بدت رجلاه، وإذا مدت على رجلاه بدا رأسه.
طوبى لأمة أنت نبيها! أيُّ عدل جئت به حتى في الأكفان، حتى مع أقرب الناس لك، حتى مع سيد الشهداء؟!
ولم يكن حمزة وحده بهذه الحال؛ فحين تهادت أقدام الحبيب -عليه الصلاة والسلام- يتفقد أحبته الذين قضوا نحبهم وسافروا إلى ربهم وقف على حبيب آخر لم يجدوا له كفنًا كافيًا إنه سفير الإسلام مصعب بن عمير مشهد ظل يبكي عبدالرحمن بن عوف سنوات؛ فقد أوتي بطعام وكان صائمًا، فقال: "قُتل مصعب بن عمير -رضي الله عنه- وهو خير مني، فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة إن غُطي به رأسه بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه بدا رأسه، ثم بُسِط لنا من الدنيا ما بُسط، أو قال أُعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عُجِّلت لنا"، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
هؤلاء نجوم الإسلام وخيار الأمة لم يجدوا لهم أكفانًا ولاعب من اللاعبين يُدفع له الملايين.
كانت مناظر التشويه فظيعة تقطع القلب حتى خشي -صلى الله عليه وسلم- على النساء من الاقتراب إلا امرأة واحدة، وذلك حين تعرف المسلمون على شهدائهم إلا واحدًا بلغ التشويه به درجة عجزوا عن التعرف عليه، فرجحوا أن يكون أنس بن النضر بين الأحياء ولا يمكن أن يفر.
نادوا أخته الربيع بنت النضر علها تتعرف عليه فأقبلت ملهوفة بين الجثث حتى أوقفوها أمام جسد تغيرت معالمه تغيرًا كاملاً حاولت تتعرف عليه فلم تقدر، عادت بذاكرتها إلى أيام الصبا فتذكرت علامات بأصابعه نظرت أطراف الأصابع، نعم! إنه أخي؛ إنه أنس بن النضر -رضي الله عنه وأرضاه-.
وبينما كانت الربيع بنت النضر تتأمل أصابع أخيها الشهيد أنس كانت فاطمة بنت حرام مشغولة بسكب دموعها على حبيبها الشهيدين زوجها عمرو بن الجموح وأخيها عبدالله، نهضت بعد أن نثرت دموع الحسرة والألم إلى بعيرها ووضعت حببيها عليه، ثم انطلقت بهما إلى المدينة لتدفنهما في مقابر العائلة.
لما أقبلت على المدينة رآها ابن أخيها جابر -رضي الله عنه- لما رأته زادت همومها بكى جابر لما رأى والده وزوج عمته وبكت عمته، لكن البكاء انقطع على صوت رجل ينادي بأعلى صوته ينادي كل الذين أخذوا شهدائهم إلى المدينة قائلاً: "ألا إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قُتلت".
عاد جابر وعمته بالشهيدين ثم أنزلهما عن ظهر البعير ثم أخذتهما موجة من البكاء انحنى جابر على وجه أبيه الحنون يكشفه ويبكي فاقترب منه بعض الصحابة ونهوه لكنه لم يستجب.
أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد رأى احتفاء في السماء فوق جابر وأبيه فاقترب فرآه يبكي والصحابة ينهونه عن البكاء فلم ينهه، ولم ينهَ عمته فاطمة التي على نحيبها، لكنه قال كلاما يطفئ نار الفقد والفراق قال -عليه الصلاة والسلام- لأخته فاطمة: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه".
ثم أمر -عليه الصلاة والسلام- بدفن الشهداء بدمائهم، ثم شهد لهم بالمنازل العلية عند الله وقال : "أنا شهيد على هؤلاء"، وقال لجابر: "أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟" قال بلى يا رسول الله، قال: "يا جابر أما علمت أن الله أحيا أباك، فقال: يا عبدي تمنَّ عليَّ أعطك، قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية".
لقد حطت أرواحهم في النعيم، قال الله: "إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون"، قال يا رب فأبلغ من ورائي فبلغ الله نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ولما وصلت رسالة الشهداء قال -عليه الصلاة والسلام- "لما أصيب أخوانكم في أحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله أنا أبلغهم عنكم وأنزل الله (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران: 169- 170].
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فيا معاشر المسلمين: أتحسبون أن كثرة القتلى، أن الدماء والأشلاء لا تأتي إلا من الصواريخ والطائرات، أتظنون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لم يروا من فواجع الإسلام كما رأينا، لا والله لقد لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبته الكرام أمَرَّ مما رأينا، وتألموا لدماء المسلمين أكثر مما تألمنا.
ما وقع في أحد مصيبة من أعظم المصائب سبعون من الصحب الكرام يُقتَلون مرة واحدة، سبعون يرحلون من مجتمع صغير وعدد قليل.
فيا كل من بكى الإسلام وأهله أو بكى حبيبًا على قلبه؛ إن لك في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام سلوى.
أتدرون ما الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد انقضاء المعركة بعد الهزيمة بعد القتل بعد التشويه للجثث قال لأصحابه: "استووا حتى أثني على ربي"، يثني على ربه على ماذا؟ على شماتة قريش، على قتل سبعين من أصحابه، على قتل عمه، إنه القلب الذي آمن بالله واطمأن لحكمه وقضائه.
يا رب! هب لنا قلوبًا مؤمنة مطمئنة ترضى بقضائك وتستلم لحكمك.
صفَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة -رضي الله عنهم- خلفه ثم قال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرِّب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك.
اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت، اللهم حبب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق".
إنه الإيمان تهون أمامه الجراح، إنه الإيمان تهوي أمامه المصائب، إنه الإيمان يحول الجراح أفراح.
عباد الله صلوا وسلموا على رسول الله امتثالا لأمر الله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة، اللهم اغفر لنا ولوالدينا اللهم ارحمهما كما ربيانا صغارًا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.