الكريم
كلمة (الكريم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل)، وتعني: كثير...
العربية
المؤلف | أحمد بن ناصر الطيار |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - المهلكات |
عقوق الوالدين من أعظم وأخطر المشاكل الأُسرية, والبيت الذي فيه عاقٌّ يعيشُ أهلُه في نكد, ولا يستمتعون بطعم وحلاوةِ ترابطِ الأُسرة, ولا يهنئون بلذة العيش, فالعاقّ كدَّر عيشهم, وأفسد وحدتهم, ونغَّصَ حياتهم.. الجزاء من جنس العمل, فمن أحسن إلى والديه, وحنا عليهما, وبرهما, رزقه الله أولادًا يحسنون إليه ويبرونه، ومن عق والديه: عُوقب بأولاد يعقونه, وينكرون فضله, ويسيئون إليه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم المنان، صاحب الفضل والإنعام، والجود والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل رحمةً من رحماته، فغرسها في قلوب الإنس وسائر الحيوان، وخص بها الأم من بين سائر الأنام، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، جعله الله رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، صلى الله عليه, وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن تقوى الله سببٌ لبلوغِ رحمته، ونيلِ جنته في دار كرامته.
عباد الله: إنَّ الحديث عن عقوق الوالدين يقشعرّ من هولِه البدنُ, ويضطرب منه القلب؛ لِمَا فيه من الْمواجِعِ الْمُؤلمة, والقصص الشنيعة.
عقوق الوالدين, والتقصيرُ في حقّهما, هو من أمّهات أسْباب الخلافات الأسرية, بل هو المشكلة والمعضلة.
والعاقُّ لا يُرجى خيرُه لأُسرته وأهله, فمن لم يكن به خيْرٌ لوالديه كيفَ يكون فيه ذرُّةُ خيرٍ لغيرهما؟
والأدلة من الكتاب والسنة مُسْتفيضةٌ وصريحةٌ في وجوب برهما, والقيام بحقهما, وسأذكر بعضًا منها: قَالَ الله تَعَالَى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23]، أَي: وصَّى بتوحيده وإفراده بالعبادة, وأمر ببرهما والشفقة والعطفِ عَلَيْهِمَا.
ثم أكَّدَ على الابن والابنة ذلك حال كبر والديهما فقال: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) [الإسراء: 23]، أي: لا تُسمعهما قولاً سيئًا, حتى ولا التأفيف, الذي هو أدنى مراتب القول السَّيِّئ.
قال الحسين بن علي -رضي الله عنهما-: "لو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من الأفّ لحرّمه".
فإذا كان قول أفٍّ لا يجوز، فكيف بمن يرفع صوته عليهما، أو يرد عليهما, كيف بمن يعصي أوامرهما، ولا يلبي طلباتهما في غير معصية الله، بل وكيف بمن يسبهما ويرفع يده عليهما والعياذ بالله.
ثم تأمّل قوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ)، فكلمة: (عِندَكَ) تدلّ على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنْهَيَا مُهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وهاهي مهمتك: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [الإسراء: 23].
فيجب عليك أَنْ تتولى خدمتهما وهما في هذا السنّ الكبير, فطالما قامَا بخدمتك وتنظيفك, وَكَيف يَقع التَّسَاوِي وَقد كَانَا يحْملَانِ أذاك راجين حياتك، وَأَنت إِن حملت أذاهما رَجَوْت مَوْتهمَا!!
ثم قال تعالى: (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) أي: ولا يصدر منك إليهما فعلٌ قبيح, قال عطاء بن رباح -رحمه الله تعالى-: "أي لا تنفض يدك عليهما".
ثم بالغ في الأمر ببرهما فقال: (وَقُل لّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) أي: ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم.
ثم زاد على ذلك فقال: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ) أي تواضع لهما بفعلك, مُتذلّلاً مُسْتكينًا, خافضًا صوتك عند حديثك معهما, وَقُل دائمًا وأبدًا: (رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 24]، أي: الطف بهما في كبرهما وعند وفاتهما.
وأما الأحاديثُ الصحيحةُ فكثيرةٌ جدًّا, منها ما ثبت في الصَّحِيحَيْنِ أنَّ رجلاً جَاءَ يسْتَأْذن النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي الْجِهَاد مَعَه فَقَالَ النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: أَحَيٌّ والداك؟ قَالَ: نعم, قَالَ: ففيهما فَجَاهد.
فَانْظُر كَيفَ فضَّل بِرَّ الْوَالِدين وخدمتهما على الْجِهَاد في سبيل الله تعالى, مع ما فيه مِن بذل الروح والنفس في سبيل الله.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قَالَ: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» -قَاَلَها ثَلاَثًا-، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ».
فَانْظُر كَيفَ قَرَن الْإِسَاءَة إِلَيْهِمَا وَعدم الْبر وَالْإِحْسَان بالإشراك بالله تعالى.
أيها الابن الموفق والْبنتُ المباركة: اللهَ الله في بِرِّ الوالدين, وخاصَّةً الأم, "تلك المربّية المشفِقَة، لُطْفها ملأَ جَنَانها، حملتك في أحشائها تسعة أشهر، تألَّمَت من حملك، وكابَدَت آلام وضعك، حَمَلتك كُرهًا، ووضعتك كُرهًا، رأت الموت بعينيها عند ولادتك، صرخت وبكت، ولما بَصُرت بك إلى جانبها سُرعان ما نسيت آلامها، وعَلّقَت فيك جميع آمالها، رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شُغِلَت بخدمتك ليلها ونهارها، تُغذيك بصحتها، طعامُك دَرُّها، وبيتك حِجْرُها، ومركبك يداها وصدرها، سهرت ونِمْت، تألَّمَتْ لألمك، سهرتْ لراحتك، وحملتْ أذاك وهي غير كارهة، وتحمّلتْ أذاك وهي راضية، تُحِيطك وترعاك، ولو خُيّرت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها، كم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سِرًّا وجهارًا، كم كانت تجوع لتشبع، وتسهر لتنام، وتتعب لتستريح، تترك كثيرًا مما تشتهيه خشية ضرر يعتريك، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة.
أنسيت عندما كنت صغيرًا؟! إذا غابت عنك دعوتهَا، وإذا أعرضت عنك ناجيتَها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحَظَتك بعينها، فكيف بعد ذلك تعقّها؟!
رأى ابن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، وقد أتى بها من بلاده، فقال: يا ابن عمر، أتُراني جازيتها؟ قال: "لا ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا".
ولما ماتت أمُّ إياس القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فغلِّق أحدُهما".
فلله درّهنّ من أمهات مشفقات, ومربيات رقيقات, ووالدات حانيات، فجزاهنّ الله عنّا جنة عرضها الأرض والسموات".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المحمودِ بكل لسان, المعبودِ في كل مكان, الذي لا يشغله شأن عن شأن, سبحانه جل عن الأشباه والأنداد, وتنزه عن الصاحبة والأولاد.
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
أما بعد: عباد الله: لقد زرع الله تعالى الرحمة والرأفة في قلب الأم تجاه ولدها، تتحمل أذاه، وتصبر على لأواه، يقسو عليها فتلين له، يهجرها فتحن عليه، تدعو له ولا تدعو عليه، حتى لو وصل به العقوق غايته، فهذا أحد العاقين لأمه، طرد أمه من بيته، بعد إلحاح زوجته الظالمة له بأن يطردها، فتخرج من بيته وليس لها بيت سواه، خرجت كسيرة باكية، طرد أمه التي ربته طوال حياته، طرد أمه التي ربته صغيراً, وأملتْ فيه كثيراً، عقدت عليه آمالها وطموحها.
لكن في النهاية: يطردها من بيته، مضت الأيام، وأحس الابن بالندم، فخرج يبحث عنها، فأين وجدها؟ وجدها في أحد الطرقات, تمد يدها للناس لتسد جوعها وعطشها، فانكب عليها باكياً نادماً، فقالت له وهي تكفكف دموعها: "والله يا ولدي, منذ أن طردتني من بيتك, وأنا أدعو الله أن يعطف قلبك، وألا يعاقبك على فعلتك".
فاللهم اغفر لوالدينا، وارحمهم كما ربَّونا صغاراً.
واعلم أيها العاقُّ واعلمي أيتها العاقَّة, بأن الجزاء من جنس العمل, فمن أحسن إلى والديه, وحنا عليهما, وبرهما, رزقه الله أولادًا يحسنون إليه ويبرونه، ومن عق والديه: عُوقب بأولاد يعقونه, وينكرون فضله, ويسيئون إليه.
فعقوق الوالدين من أعظم وأخطر المشاكل الأُسرية, والبيت الذي فيه عاقٌّ يعيشُ أهلُه في نكد, ولا يستمتعون بطعم وحلاوةِ ترابطِ الأُسرة, ولا يهنئون بلذة العيش, فالعاقّ كدَّر عيشهم, وأفسد وحدتهم, ونغَّصَ حياتهم.
وصور العقوق كثيرة, منها التسويفُ حال أمرهم له, والتأفُّفُ والتذمّر, والقيامُ بالعمل على غير الوجه المطلوب.
نسأل الله تعالى أن يجزي والدينا خير الجزاء, وأنْ يحفظ الأحياء منهم ويغفر للموات, إنه سميع قريب مجيب.