الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحديث الشريف وعلومه - المنجيات |
ينبغي للمسلم مع حرصه على إتمام العمل وتكميله ليكون متقبلاً عند الله موجِبًا لنيل الرضوان والغفران فإنه في الوقت نفسه ينبغي على العبد المؤمن أن يجانِب كل سببٍ يستوجب ردَّ العمل أو تأخير قبوله؛ إذ لا خير للعبد ولا منفعة في أعمالٍ كثيرةٍ يقدِّمها ثم يجد أنها قد رُدَّت ولم تُقبل منه. وهو أمر جَلَل ينبغي على كل ناصح لنفسه أن يكون على أشد الحذر منه...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ما ترك خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون عباد الله: اتقوا الله ربكم وراقبوه في أعمالكم واذكروا نعمته عليكم، وجاهدوا أنفسكم على نيل مرضاته وابتغاء وجهه وإخلاص العمل له، ومجاهدة النفس على نيل الثواب وتحصيل الغفران والبُعد عن الأسباب الموجبة لرد الأعمال.
أيها المؤمنون: عقِب طاعة الحج يقول المسلمون بعضهم لبعض: «تقبَّل الله منَّا ومنكم»، ومثلها يقول بعضهم لبعض عقب طاعة الصيام، وعقب كل طاعة يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل- يقع في نفسه رجاء القبول والطمع في الثواب ونيل الغفران، لعلْم كل مسلمٍ أن الله -عز وجل- إنما يتقبَّل عمل المتقين من عباده، ولهذا قال الله -عز وجل- في صفة عباده المؤمنين الكُمَّل (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)[المؤمنون:60].
أيها العباد: ولهذا ينبغي للمسلم مع حرصه على إتمام العمل وتكميله ليكون متقبلاً عند الله موجِبًا لنيل الرضوان والغفران فإنه في الوقت نفسه ينبغي على العبد المؤمن أن يجانِب كل سببٍ يستوجب ردَّ العمل أو تأخير قبوله؛ إذ لا خير للعبد ولا منفعة في أعمالٍ كثيرةٍ يقدِّمها ثم يجد أنها قد رُدَّت ولم تُقبل منه. وهو أمر جَلَل ينبغي على كل ناصح لنفسه أن يكون على أشد الحذر منه.
وتأملوا رعاكم الله في حديث عظيم في هذا الباب خرَّجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"، وفي رواية لمسلم "إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ"، وفي رواية أخرى له أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال على الله في كل اثنين وخميس فيُغفر لكل مسلم " وذكر نحوه.
عباد الله: لنتأمل هنا في مقام الأعمال والحرص على قبولها ونيل الغفران بها أن نحرص في هذا المقام على البُعد عما يوجب تأخير قبولها، نعم عباد الله؛ إن الأمر جدُّ خطير تأمل هذا التأكيد ثلاث مرات "أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".
أيها المؤمنون: لا يجوز لمسلم بناء على حظوظٍ دنيوية ومبتغيات آنية أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، وذلك -يا معاشر العباد- أن دين الإسلام دينٌ أوجد بفضل الله سبحانه وتعالى بين أهله أخوةً دينية ورابطةً إيمانية ووِثاقًا عظيما لا نظير له، "المُسْلِمُ أَخُو المسْلِمِ"، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10].
هذه الأخوة الإيمانية والرابطة الدينية العظيمة لا يجوز أن تُهدر وأن تضيع استنادًا إلى بعض الحظوظ الدنيوية، وكم يقع بين كثير من الناس بل بين كثير من المتحابين أن يدخل عليهم الشيطان من خلال بعض الحظوظ الدنيوية فيقعون في قطيعةٍ بينهم وعداوة وشحناء وبغضاء تبقى والعياذ بالله إلى أن يُدرج أحدهما في قبره.
وإنها والله لمصيبة عظيمة أن يُخَلَّ بهذه الأخوة الإيمانية هذا الإخلال وأن تضيَّع بهذه الطريقة لأجل بعض الحظوظ الدنيوية، ولهذا جاء في الصحيحين عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يلتقيان فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ"؛ قال «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ».
وفي الحديث المتقدم عرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس، وبين الاثنين والخميس، والخميس والاثنين فرصةٌ كافية بأن يطرح المرء ما في نفسه على أخيه، لأنه لا يحل له أن يهجر أخاه فوق ثلاث، نعم في فورة الغضب واشتداده عُفي عن الهجر في مدة زمنية لا تزيد على ثلاثة أيام، أما بعد الثلاث فإن الأمر حرام ولا يجوز.
ولهذا عباد الله عندما نتأمل في هذا الحديث العظيم عرض الأعمال على الله وتفتيح أبواب الجنة كل اثنين وخميس ندرك أن هذين الوقتين العظيمين فيهما فتح بابٍ للمسامحة، لاسيما من عبد الله الموفَّق الذي يستحضر أهمية الثواب ونيل الغفران وعدم رده، وأي مصلوحٍ للمرء أن يُعرض عمله على الله في يومي الاثنين والخميس فيؤخَّر غفران ذنوبه لا لشيءٍ إلا لشحناء بينه وبين أحد إخوانه!!
ألا فلنتق الله عباد الله ولنحرص على حفظ أعمالنا قبل كل شيء وصيانتها، وأن نحرص على موجبات قبولها ونيل غفران الله بها، فنبعِد عن أنفسنا كل سببٍ أو موجِب لردها أو تأخير قبولها.
أسأل الله جل في علاه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وبأنه الله الذي لا إله إلا هو أن يصلح قلوبنا أجمعين، وأن لا يجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا، وأن لا يجعل في قلوبنا سخيمة أو بغضاء لأحد من عباده المؤمنين (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر:10].
بارك الله لي ولكم في القرآن الحكيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الذكر العظيم، وهدانا أجمعين إلى صراطه المستقيم. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى وراقبوه مراقبة عبدٍ يعلمُ أن ربّه يسمعه ويراه.
أيها المؤمنون: بمنِّ الله -عز وجل- وفضله وإنعامه وإكرامه قضى حجاجُ بيت الله حجَّهم وأكملوا نُسُكهم وقضوا تفثهم واطَّوَّفوا ببيت الله العتيق، فنسأل الله -عز وجل- جل في علاه أن يتقبل منهم أعمالهم، وأن يضعف لهم مثوبتهم، وأن يردهم أجمعين إلى أوطانهم وديارهم سالمين غانمين، وأن يغنِّمنا أجمعين الخير والبركة والثواب والأجر، وأن يضاعف لنا المثوبة بمنِّه وكرمه جل في علاه.
واعلموا -رعاكم الله- أن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكلُّ محدثة بدعة، وكلُّ بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإنَّ يد الله على الجماعة.
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد ابن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ".
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-. اللهم انصر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصراً ومُعينا وحافظاً ومؤيدًا يا رب العالمين، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وسدِّده في أقواله وأعماله، وأعِنه ونائبيه لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.