البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

التوكل على الله

العربية

المؤلف عبدالمحسن بن محمد القاسم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المنجيات
عناصر الخطبة
  1. منزلة التوكل في القرآن .
  2. ثمرات التوكل .
  3. عواقب التوكل على غير الله .
  4. قسم الله الأرزاق لكل دابة .
  5. موقف المؤمن من الأسباب .
  6. حقيقة التوكل .
  7. صور من توكل الأنبياء والصالحين .
  8. المعرفة بالله توصل إلى حسن الظن به .
  9. على قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل .
  10. التوكل روحه وثمرته .
  11. هل ثمرة التوكل عاجلة ؟ .
اهداف الخطبة
  1. حث المسلمين على التوكل على الله
  2. بيان تحقق ثمرة التوكل ولو بعد حين

اقتباس

الأرزاقُ بيدِ الخلاّق، فما كان لك منها أتاك على ضعفِك، وما كان لغيرِك لم تنلْه بقوّتك، ورزقُ الله لا يسوقه إليك حرصُ حريص، ولا يردّه عنك كراهيةُ كاره، والرزقُ مقسومٌ لكلّ أحد من برٍّ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عزّ وجلّ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6].

أمّا بعد:

فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، فمن اتّقى ربَّه علا، ومن أعرضَ عنه فإنّ له معيشةً ضنكا.

أيّها المسلمون، أسعدُ الخلق أعظمُهم عبوديةً لله, وكلَّما كان العبدُ أذلّ لله وأعظمَ افتقارًا إليه كان أقربَ إليه وأعظمَ قدرًا عندَه وعندَ خلقِه، والعبدُ عاجزٌ عن الاستقلال بجلبِ مصالحه ودفع مضارّه، محتاجٌ إلى الاستعانة بخالقِه، والله سبحانه هو الصّمد الغنيّ عمّا سواه, وكلّ ما سواه فقيرٌ إليه.

وذنوبُ العباد كثيرة، ولا نجاةَ لهم منها إلاّ بمعونة الله وعفوِه، وكثيرٌ من الكبائر القلبيّة مِن الرّياء والكبر والحسَد وترك التوكّل قد يقع فيها المرءُ وهو لا يشعر بها، وقد يتورّع عن بعض الصّغائر الظاهرة وهو في غفلةٍ عن هذه العظائم.

والأسبابُ المجرّدة تخذل المرءَ عن تحقيقِ مُناه، وقد يطرُق بابًا يظنّ أنّ فيه نفعَه فإذا هو ضررٌ محض، ولا ينجي من ذلك إلاّ التوكّل على العزيز الرحيم؛ لذا عظّم الله من شأن التوكّل وجعله منزلةً من منازل الدين, وقرنَه بالعبادة في قوله: (فَعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود:123]، وجعله سببًا لنيل محبّته (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ) [آل عمران:159]، وجعله شرطًا لحصول الإيمان به (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:29].

مقامٌ جليلُ القدر عظيم الأثر، فريضةٌ من ربّ العالمين، به رضا الرحمن, وفيه منَعَة مِن الشّيطان، منزلتُه أوسع المنازلِ وأجمعُها، أقوى السّبل عند الله وأحبُّها، أمر الله به رسولَه عليه الصلاة والسلام في قولِه: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِللَّهِ وَكِيلاً) [الأحزاب:3].

والرّسُل هم أئمّة المتوكّلين وقدوتُهم، قال تعالى عن نوحٍ عليه السلام أنّه قال لقومه: (إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) [يونس:71]، وقال الخليل عليه السّلام: (رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4]، وقال هودٌ عليه السّلام: (إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُمْ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:56]، وقال يعقوب عليه السّلام: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ) [يوسف:67]، وقال شعيبٌ عليه السّلام: (وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88]، وقال رسُل الله لأقوامِهم: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) [إبراهيم:12]، وقال مؤمنُ آل فرعون: (وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِلْعِبَادِ) [غافر:44].

وفي مطلعِ النبوّة والتنزيل أمرٌ بالتوكّل وأنه يفتح المغلَق (قْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) [العلق:3]، وجعله الله صفةً لأهل الإيمان يتميّزون به عمّن سواهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـانًا وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].

والشّيطان لا سلطانَ له على عبادِ الله المتوكّلين, قال عزّ وجلّ: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:99].

والتوكّل مانعٌ من عذابِ الله كما قال سبحانه: (قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَـافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَـانُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا) [الملك:28، 29]، وموجبٌ لدخولِ الجنّات كما قال سبحانه: (وَلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَـارُ خَـالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَـامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت:58، 59].

بل المتوكّلون حقًّا يدخلون جنّة ربّهم بغير حساب, كما وصفهم نبيّهم بذلك في قوله: "هم الذين لا يستَرقون ولا يكتَوون ولا يتطيّرون وعلى ربّهم يتوكّلون" متفق عليه.

وأوصى النبيّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عبّاس بالتوكّل وهو غلام صغيرٌ لتأصيل العقيدةِ في نفسه في بكور حياته فقال له: "يا غلام، احفَظ الله يحفظْك، احفظِ الله تجدْه تجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله" رواه الترمذي.

قال ابن القيم: "التوكّل أصل لجميع مقاماتِ الإيمان والإحسان ولجميع أعمالِ الإسلام، وإنّ منزلتَه منها منزلةُ الجسدِ من الرأس".

في التوكّل راحةُ البال, واستقرارٌ في الحال، ودفعُ كيدِ الأشرار، ومن أقوى الأسبابِ التي يدفع بها العبدُ ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمِهم, وبه قطعُ الطمع عمّا في أيدي الناس. سئِل الإمام أحمد عن التوكّل فقال: "هو قطعُ الاستشراف باليأس من النّاس".

والتوكّل على غير الله ظلم وامتِهانٌ للنّفس، وسؤالُ المخلوق للمخلوق سؤالٌ من الفقير للفقير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلَم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" رواه الترمذي.

ومتى التفتَ القلبُ إلى غير الله وكَلَه الله إلى من التفتَ إليه، وصارَ ذليلاً مخذولاً، قال صلى الله عليه وسلم: "من تعلّق شيئًا وُكل إليه" رواه الترمذي، قال شيخ الإسلام: "ما رَجا أحدٌ مخلوقًا أو توكّل عليه إلا خاب ظنّه فيه".

وكلُّ من أحبَّ شيئًا لغير الله فلا بدّ أن يضرّه, وهذا معلومٌ بالاعتبار والاستقراء. ولا يحملنّك عدمُ رجاء المخلوق على جفوةِ الناس وترك الإحسانِ إليهم واحتمالِ الأذى منهم, بل أحسِن إليهم لله لا لرجائِهم, وكما أنّك لا تخافهم فلا ترجُهم، وارجُ اللهَ في الناس, ولا ترجُ النّاسَ في الله.

أيّها المسلمون، الأرزاقُ بيدِ الخلاّق، فما كان لك منها أتاك على ضعفِك، وما كان لغيرِك لم تنلْه بقوّتك، ورزقُ الله لا يسوقه إليك حرصُ حريص، ولا يردّه عنك كراهيةُ كاره، والرزقُ مقسومٌ لكلّ أحد من برٍّ وفاجر ومؤمنٍ وكافر، قال عزّ وجلّ: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود:6]. والرزق يساق إلى الدواب مع ضعف كثيرٍ منها وعجزها عن السّعي في طلب الرزق، قال جل وعلا: (وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ) [العنكبوت:60]، وقد ييسِّره الله لك بكسبٍ وبغير كسب.

والنّاس يؤتَون من قلّة تحقيقِ التوكّل, ومن وقوفِهم مَع الأسباب الظّاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، ولو حقّقوا التوكّلَ على الله بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقَهم مع أدنى سبب, كما يسوق للطير أرزاقها بمجرّد الغدوّ والرّواح، وهو نوعٌ من الطلب والسّعي لكنّه سعيٌ يسير، قال عليه الصلاة والسلام: "لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطيرَ تغدو خِماصًا وتروح بطانًا" رواه أحمد.

فلا تضيِّع زمانَك بهمِّك بما ضُمِن لك من الرّزق، فما دامَ الأجلُ باقيًا كان الرزقُ آتيًا، قال حاتم الأصمّ: "لمّا علمتُ أنّ رزقي لن يأكلَه غيري اطمأنّ قلبي".

أيّها المسلمون، وقّت الله للأمور أقدارَها وهيّأ إلى الغايات أسبابَها، وأمورُ الدنيا وزينتُها قد يدرِك منها المتوانِي ما يفوت المثابر، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازم.

والالتفاتُ للأسباب نقصٌ في التّوحيد, ومحوُ الأسبابِ أن تكونَ أسباباً نقصٌ في العقيدة، والإعراضُ عن الأسباب التي أمِر بها قدحٌ في الشرع، وعلى العبدِ أن يكونَ قلبه معتمِدًا على الله لا على الأسباب.

ونبينا محمّد صلى الله عليه وسلم أكملُ المتوكّلين، ولم يخلَّ بالأسباب؛ فقد ظاهرَ بين دِرعين يومَ أحد، واستأجَر دليلاً يدلّه على طريق الهِجرة، وحفَر الخندقَ غزوةَ الأحزاب.

وحقيقةُ التوكّل القيام بالأسباب والاعتمادُ بالقلب على المسبِّب, واعتقادُ أنّها بيده، فإن شاء منَع اقتضاءَها, وإن شاء جعلها مقتضيةً لضدّ أحكامِها, وإن شاء أقام لها موانعَ وصوارفَ تعارِض اقتضاءَها وتدفعه.

والموحّد المتوكّل لا يطمئنّ إلى الأسباب ولا يرجوها، كما أنّه لا يهمِلها أو يبطلها، بل يكون قائمًا بها ناظِرًا إلى مسبِّبها سبحانه ومجرِيها. وإذا قويَ التوكّل وعظم الرجاء أذِن الله بالفرج، ترك الخليلُ زوجتَه هاجرَ وابنَها إسماعيل صغيرًا رضيعًا بوادٍ لا حسيسَ فيه ولا أنيسَ ولا زرعَ حوله ولا ضرع توكّلاً على الله وامتثالاً لأمره، فأحاطهما الله بعنايتِه، فإذا الصّغيرُ يكون نبيًّا وصفَه الله بالحِلم والصّبر وصدقِ الوَعد والمحافظةِ على الصلاة والأمرِ بها، والماءُ المبارك زمزَم ثمرةٌ من ثمار توكّل الخليل عليه السلام.

ولمّا عظم البلاءُ ببني إسرائيل وتبِعهم فرعونُ بجنوده وأحاطوا بهم وكان البحر أمامَهم (قَالَ أَصْحَـابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61], قال نبيّ الله موسى الواثق بنصر الله: (كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62], فأمره الله بضربِ البحر فصار طريقًا يبَسًا, (كُلُّ فِرْقٍ كَلطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [ٍالشعراء:63].

ويونسُ التقمَة حوتٌ في لجَج البحر وظلمائه، فلجأ إلى مولاه وألقى حاجته إليه: (لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّـالِمِينَ) [الأنبياء:87]، فنُبذ وهو سقيم في العراء، ومضى مجرَّدًا في الخلاء.

وأمّ موسى ألقَت ولدَها موسى في اليمّ ثقةً بالله امتثالاً لأمره, فإذا هو رسولٌ من أولي العزم المقرّبين.

ويعقوبُ قيل له: إنّ ابنَك أكله الذئب، ففوّض أمره إلى الله وناجاه, فردّه عليه مع أخيه بعد طول حزنٍ وفراق.

ولمّا ضاق الحال وانحصَر المجَال وامتنَع المقال من مريمَ عليها السلام عظُم التوكّل على ذي العظمَة والجلال, ولم يبقَ إلاّ الإخلاصُ والاتّكال, فأشارت إليه، فقالوا لها: (كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم:29]، فعندها أنطقَه الله فقال: (إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِىَ الْكِتَـابَ وَجَعَلَنِى نَبِيًّا) [مريم:30].

ونبيّنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم يتوارى مع صاحبِه عن قومِه في جبلٍ أجرَد في غارٍ قفرٍ مخوف, فبلغ الروع صاحبَه, فقال: يا رسول الله، واللهِ لو أنّ أحدَهم نظرَ إلى قدميه لأبصرَنا، فقال الرّسول صلى الله عليه وسلم وهو واثقٌ بربّه: "يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين اللهُ ثالثهما" ، فأنزل الله تأييده ونصرَه وأيّده بجنودٍ لا ترى، فسكن الجأش وحصَل الأمنُ وتمّت الهجرة وانطلقت الرّسالة.

وإذا تكالبَت عليك الأيّام وأحاطت بك دوائرُ الابتلاء فلا ترجُ إلا الله، وارفَع أكفَّ الضراعة, وألقِ كنفَك بين يدي الخلاّق, وعلِّق رجاءَك به, وفوِّض الأمرَ للرّحيم، واقطَع العلائقَ عن الخلائِق، ونادِ العظيم, وتحرَّ أوقاتَ الإجابة كالسّجود وآخر الليل.

وإذا قويَ التوكّل والرجاء وجُمع القلب في الدّعاء لم يردَّ النداء، (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء) [النمل:62].

 فسلِّم الأمرَ لمالكه، والله عزيزٌ، لا يُضِلّ من استجارَ به, ولا يضيِّع من لاذ بجنابه.

وتفريجُ الكربات عند تمام الكرب, واليُسر مقترنٌ بالعسر، وتعرَّف على ربّك في الرخاء يعرفك في الشدّة، و"حسبُنا الله ونعمَ الوكيل" قالها الخليلان في الشّدائد، ومَن صدق توكّلُه على الله في حصولِ شيء ناله، ومن فوّض أمرَه إليه كفاه ما أهمّه، ومن حقَّق التوكّلَ لم يكِله إلى غيره, بل تولاّه بنفسه، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، وعلى قدرِ حسن ظنّك بربك ورجائك له يكون توكّلك عليه, فاجعَل ربَّك وحدَه موضعَ شكواك، قال الفضيل رحمه الله: "والله، لو يئِستَ من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك ما تريد".

وهو سبحانه القدير، لا تتحرّك ذرّة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقةٌ إلاّ بعلمه، (وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّـاجِدِينَ) [الشعراء:217-219]، قال إبراهيم الخوّاص: "ما ينبغي للعبدِ بعدَ هذه الآية أن يلجأ إلى أحدٍ غير الله".

ومن تعلّق بغيرِ الله أو سَكن إلى علمِه وعقلِه ودوائِه وتمائمه, واعتمَد على حولِه وقوّته وكله الله إلى ذلك وخذَله، قال في تيسير العزيز الحميد: "وهذا معروف بالنّصوص والتجارب".

وأرجحُ المكاسبِ الثقة بكفايةِ الله وحسنُ الظن به، وليكن بما في يدِ الله أوثق منه بما في يده، ومن ظنّ أنّه يُنال ما عند الله بمعصيته ومخالفتِه كما يُنال بطاعته والتقرّب إليه, أو ظنّ أنه إذا ترك شيئًا من أجلِه لم يعوّضه خيرًا منه، أو ظنّ أنّ من فعل شيئًا لأجلِه لم يعطِه أفضلَ منه، أو ظنّ أنّه إذا صدقه في التوكّل عليه أنه يخيّبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظنّ بالله ظنّ السّوء، ولا يسلم من هذا إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاتِه, وعرف موجِب حكمتِه وحمده.

قال ابن القيم: "أكثرُ الخلق, بل كلّهم إلا من شاء الله يظنّون بالله غيرَ الحقّ وظنّ السّوء، فإنّ غالبَ بني آدم يعتقِد أنّه يستحقّ فوقَ ما شاءه الله له، ومن فتّش في نفسِه وتغلغل في معرفة طواياها رأى ذلك فيها كامنًا، فليعتنِ اللبيبُ النّاصح لنفسه بهذا، وليتُب إلى الله ويستغفره في كلّ وقت مِن ظنّه بربه ظنَّ السوء, وليظنَّ السوء بنفسه".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَذْكُرِ اسْمَ رَبّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ فَتَّخِذْهُ وَكِيلاً) [المزمل:8، 9].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

أمّا بعد:

 أيّها المسلمون، لا يستقيمُ توكّل العبد حتى يصحّ توحيده، وعلى قدر تجريده التوحيدَ يكون صحّة التوكّل. ومتى التفتَ العبد إلى غير الله أخذ ذلك شعبةً من شعب قلبه، فنقص من توكّله بقدرِ ذهابِ تلك الشعبة. ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالخَلق لم تسدَّ فاقتُه، ومن سرّه أن يكون أقوى النّاس فليتوكّل على الله، ومن سرّه أن يكون أغنى النّاس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده.

والرّضا والتوكّل يكتنفان المقدور، فالتوكّل قبلَ وقوعه، والرضا بعد وقوعه، والرضا ثمرة التوكل, وروح التوكّل التفويض وإلقاءُ أمورِك كلّها إلى الله، يقول داود بن سليمان رحمه الله: "يستدَلّ على تقوى المؤمن بثلاث: حسنُ التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسنُ الصبر فيما قد فات", وكلّما كان العبدُ بالله أعرفَ كان توكّله عليه أقوى، وقوّة التوكّل وضعفُه بحسَب قوة الإيمان وضعفِه.

ومن توكّل على الله فلا يعجَل بالفرج، فالله ذكَر كفايتَه للمتوكِّل عليه, وربّما أوهمَ ذلك تعجيل الكفايةِ وقتَ التوكّل، فالله جعَل لكلّ شيء قدرًا ووقتًا، فلا يستعجِل المتوكّل, فيقول: قد توكّلتُ ودعوت فلم أر شيئًا!! فالله بالغ أمرِه، قد جعل لكلّ شيء قدرًا، والله هو المتفرِّد بالاختيار والتّدبير، وتدبيرُه لعبدِه خيرٌ من تدبيرِ العبدِ لنفسِه, وهو أرحمُ به مِنه بنفسه.

ثمّ اعلموا أنَّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهمّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...