المليك
كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله السبر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
فذاك هو رمضان قد مرَّ وهو يحمل بين دفَّتيه تباشيرَ سَعدٍ وَفضلْ ثم ذَهب, وجاءَ بعده شوال, وكانت خاتمةُ هذهِ المواسم الفاضلة, فريضةَ الحج, وكلَّ هذه المواسم ذهبت بما شمَّر فيها المشمِّرون, وما زرع فيها الزارعون. ولكن ماذا بعد كل هذا؟ أَلَسَنا خَائِفين وَجِلين, إلى اللهِ راجِعون, (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60], أما من وقفة حاسمة تجاه النَّفس التي تمادت في طغيانها, وأطْنَبتْ في ذنوبِها وعصيانهَا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً كثيراً متوالياً وإن كان يتضاءل دون حق جلاله حمد الحامدين, ويتقاصر أمام عزِّته ثناء الشاكرين، نحمده على إحياء نعمة الدين بعد اضمحلالها, وإعياء فهوم الملحدين عن دَرْكِها فرجعت بكَلالهِا, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته و في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته, تنزَّه عن الند وعن الشبيه, وعن المثيل وعن النظير, ليس كمثله شيء وهو السميع البصير, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أطلع به فجر الإيمان من ظلمة القلوب, وَأَنارَ به الطَريقَ إلى عَلام الغيوب, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه, وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله, فهي بستان العارفين, ورياض المتقين (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
أيها المؤمنون: فَتِئْنا ننهَل من مواسم وافرة بالأجور, وتزخَم بالفرص الرابحة, التي تتخللُّها كوامنُ الحسنات, والتي طَافت على كل فردٍ منَّا, وكُلٌ قد أبدَع فيها صِنعَته, وحصدَ فيها بِذرَته. تَقادَمت عَلينَا وَاحدةً تِلوَ الأخْرَى.
فذاك هو رمضان قد مرَّ وهو يحمل بين دفَّتيه تباشيرَ سَعدٍ وَفضلْ ثم ذَهب, وجاءَ بعده شوال, وكانت خاتمةُ هذهِ المواسم الفاضلة, فريضةَ الحج, وكلَّ هذه المواسم ذهبت بما شمَّر فيها المشمِّرون, وما زرع فيها الزارعون.
ولكن ماذا بعد كل هذا؟ أَلَسَنا خَائِفين وَجِلين, إلى اللهِ راجِعون, (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون: 60], أما من وقفة حاسمة تجاه النَّفس التي تمادت في طغيانها, وأطْنَبتْ في ذنوبِها وعصيانهَا, وفي الحديث: "فالكيِّسُ من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني" [رواه البيهقي والترمذي وابن ماجه].
يا غافلاً يا ساهي: أتاك شهر رمضان, المتضمِّنُ للرحمةِ والغفران, وأنتَ مصرٌّ على الذنوب والعصيان مقيم على الآثام والعداون, متمادياً في الجهالة والطغيان, وأتاك الحجُّ وأنتَ لاهِياً كَسلان.
أيُّها الأحبَّة: عاد الحجيج من ربٍ غفورٍ رحيم, بعملٍ صالح مقبول, وذنبٍ مغفور.
عن الحسن بن عمران بن عيينة, أنَّ سفيان بن عيينة -رضي الله تعالى عنه- قال له: بالمزدلفة في آخر حجةٍ حجَّها: "قد وَافَيْتُ هذا الموضع سبعين مرَّة أقول في كل مرَّة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان! وقد استحييت من الله -عز وجل- من كثرة ما أسأله". فرجع فتوُفِّي في السنةِ الداخلة. فهل آن للنَّفس أن تنزجر عن مهاوي الردى, وعن دروب الغِوَاية؟.
إنِّا لَنفْرَحُ بالأيَّامِ نقطَعُهَا | وكُلَّ يومٍ يُدْنِينَا من الأجلِ |
فكيف بك يا مسكين يا مغرور, يا تارك الحق والصواب, يا ظالما لنفسه, يا غافلا عن الحساب, يا من بذل نفسه لأليم العذاب, يا من تمادى في معصية رب الأرباب.
أيها المسلمون: لقد وصل الحجيجُّ إلى منزلة عالية من الأجر, فلماذا يعود إلى الذنوب مرَّةً أخرى؟ ولماذا يعيث في رياض الإيمان الطاهرة التي انبسطت في قلوبهم, فهل ضَمِنُوا قبول أعمالهم, أم وَثِقُوا في دخول جنِّة ربهم؟.
قال مجاهدُ وغيره من العلماء: "إنَّ الحجَّاج إذا قَدِموا مكة تلقَّتهُم الملائكة فسلَّموا على ركبان الإبل, وصافَحوا ركبان الحُمُر, واعتنقُوا المُشَاة اعِتِناقاً". وقال الحَسَن: "من مَات عقيب رمضَان أو عقيب غَزو أو عقيب حَجِّ مَات شهيداً". وقال عمر -رضي الله عنه-: "الحاجُّ مغفور له ولمن يستغفر له في شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرين من ربيع الأول".
وقد كان من سُنة السلف -رضي الله عنهم- أن يشيعوا الغزاة, وأن يستقبلوا الحاج ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء, ويبادرون ذلك قبل أن يتدنسوا بالآثام.
واعلموا -عبَاد الله- أنَّ الله -تباركَ وتعالى- إذا أراد بعبدهِ خيرا, أبعَد عنه شيطَانه وأعانهُ عليه ونشَّطهُ للطَاعة, وأزَالَ عن بدنهِ الكسل, فأقبلَ العبدُ عند ذلك على مولاه, وأعرضَ عمن سِواه, وآثرَ رِضَا سَيِّدهِ على هَواه فعِندَ ذلك يجعلُ الله الجَنةَ العَالية مَأوَاه.
فانظر لنفسك -يا مسكين يا ضعيف الإيمان واليقين- قبل حلول الندم, وزوال النعم, ونزول النقم حيث لا ينفع الندم.
فلا تَعُدْ للذُنوب, وتعصِي علاَّم الغُيوب, فقد أَزالَ عنك الكروب, وأذهب عنك الغُمومَ, وخلَّصك من الذنوب, فهل ترجع وتؤوب؟.
روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "ليس بغافل ولا ذاكر للموت من عدَّ غدا من أجَلِه, فربَّ مُستَقبِلٍ يوماً لا يستكْمِلُه, ومُؤملٍ غداً لا يبلَغه, لو أبصرتم الأجلَ ومُرورَه, لأبغضتم الأملَ وغرورَه".
فإذا كان أصحاب رسول الله مصابيح الإسلام, رجع ضحكهم بكاء من هول يوم الدين, وقد أفنوا أعمارهم في طاعة الله -سبحانه-, وقطعوا أيامهم في العمل للآخرة, فكيف بمن تمادوا في المعاصي والآثام وأكلوا الربا والحرام؟.
الخطبة الثانية:
روي أن رجلا جاء إلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقال: "يا أمّ المؤمنين إنَّ بي داء فهل عندك دواء؟, قالت: وما داؤك؟ قال: القسوة قالت: بئس الداء داؤك عُدِ المرضى, واشهد الجنائز, وتوقَّع الموت".
يا ابن آدم: بادر إلى حسن العمل, بينما أنت في فسحة ومهل, وتُب إلى مولاك من قبيح الخطايا والزلل, قبل أن يقال: فلان مات, فتكون رهين عملك, وسجين ذنوبك.
يا عبد, يا مسكين: أنفقت مالك في بنيان الدور, وتشييد القصور, ونسيت الموت والتحول إلى ظلمة القبور, ثاوياً فيها إلى يوم النشور.
عبد الله: إذا جاءك الموت لا ينفعك ما جمعته ولا ينجيك ما اكتسبته, فامهد لنفسك قبل مفارقة الأحباب والجيران, والخروج من الديار إلى منازل الدود, وبيت الوحدة, إلا أن يعفو الملك الوهاب, فتفكروا يا أولي الألباب.
مات رجل من أهل المدينة وكان مسرفا على نفسه, فدعي لجنازته محمد بن المُنكَدِر -رحمه الله- فأبى أن يحضر جنازته ثم حضرها, فعوتب في ذلك, فقال: "لقد استحيت من الله أن أرى أن رحمته تضيق عليه ولا تسعه فصليت عليه".
فاللهَ الله -عباد الله- لا تقبَلَوُا وسواس العدوِّ الشيطان, وارجعوا بالتوبة إلى مولاكم الرحمن فعساه أن يستر ذنوبكم وعيوبكم بستر الغفران, إنه كريم متفضل منان.