العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
والإنسانُ لا ينفكّ عن وصفِ العبوديّة؛ فإمّا أن يكون عبداً لله، وإلا فهو عبدٌ لغيره، عبدٌ ذليل لذلك المرادِ المعبود؛ إمّا المال وإمّا الجاه، أي: إنه إنْ لم يرض أن يكون عبداً لله استعبدتْه حاجاتُه ومطامعُه وأهواؤه وشهواتُه وطواغيتُ الجنّ والإنس وما يزيّنون لبني آدم من معبودات
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
إنَّ الله تعالى غنيّ عن العالمين، غنيّ عن عبادتهم وطاعتهم، لا تنفعه طاعةُ من أطاع، ولا تضرّه معصية من عصاه.
والإنسانُ لا ينفكّ عن وصفِ العبوديّة؛ فإمّا أن يكون عبداً لله، وإلا فهو عبدٌ لغيره، عبدٌ ذليل لذلك المرادِ المعبود؛ إمّا المال وإمّا الجاه، أي: إنه إنْ لم يرض أن يكون عبداً لله استعبدتْه حاجاتُه ومطامعُه وأهواؤه وشهواتُه وطواغيتُ الجنّ والإنس وما يزيّنون لبني آدم من معبودات.
ومن هذا يتّضحُ أنّ العبوديّة لله تحرِّر الناسَ من كلّ عبوديّة أخرى شعروا بها أو لم يشعروا بها رضوا أو سخطوا؛ فالقلبُ لا يصلح ولا يفلح ولا ينعَم ولا يُسَرّ ولا يلتذّ ولا يطيبُ ولا يسكن ولا يطمئنّ إلا بعبادة ربّه وحدَه والإنابةِ إليه، ولو حصَّل كلَّ ما يلتذّ من المخلوقات لم يسكن ولم يطمئنَّ؛ إذ فيه فقر ذاتيّ إلى ربّه بالفطرةِ من حيث هو معبودُه ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرحُ والسرور واللّذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنّه لا يقدِر على تحقيق ذلك السرورِ والسكون إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5].
فإنه لو أُعين على حصولِ كلّ ما يحبّه ويطلبه ويشتهيه ويريدُه ولم تحصل له عبادةُ الله - فلن يحصلَ إلا على الألمِ والحسرة والعذاب، ولن يخلَّص من آلام الدنيا ونكَد عيشها إلا بإخلاص الحبّ لله بحيث يكون الله هو غاية مرادِه ونهاية مقصودِه، وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكلّ ما سواه إنما يحبّه لأجله، ولا يحبّ شيئاً لذاته إلا الله، ومتى لم يحصُل هذا لم يكُن قد حقَّق حقيقةَ "لا إله إلا الله".
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يقول: "ومن أراد السعادةَ الأبديّة فليلزم عتبةَ العبودية"، وقال بعضهم: "لا طريقَ أقرب إلى الله من العبودية".
عباد الله: إنّ الله تعالى قد سهّل العبادةَ ويسَّرها غايةَ التيسير، جعلَ للخير أبواباً ليلجَها مَن للخير يقصِد ويسير، فالصلاةُ قليلةُ الكلفة كثيرةُ الأجر، خمسٌ في الفعل وخمسون في الميزان، وهي مفرَّقة في أوقاتٍ مناسبة كيلا يتسرَّب الملل إلى النفوس الضعيفة. الصلاةُ مع الجماعة أفضلُ من صلاةِ الفرد بسبع وعشرين درجة، هذه النوافل التابعة للمفروضات اثنتا عشرة ركعة من صلاهن بنى الله له بيتاً في الجنة، إذا توضّأ الإنسانُ فأسبغ الوضوءَ ثم قال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" فُتحت له أبوابُ الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء.
هذه الصدقاتُ إذا كانت بنيّةٍ خالصة ومِن كسبٍ طيّب فإنَّ اللهَ يقبلُها بيمينه ويربّيها لصاحبِه حتّى يكون ما يعادل الثمرةَ مثلَ الجبل العظيم، فما أعظمَه من أجرٍ جزيل.
حجاجَ بيت الله: مِن رحمة الله بعباده أن وسّع لهم أبوابَ التقرّب والعبادة من تلاوةٍ وذكرٍ وصيام وصدقة، فيشعر المسلمُ أنَّ أبوابَ الخير واسعة ومجالاتِ الإحسان ليست قاصرةً على نوعٍ من أنواع الطاعات.
ذلك أنَّ مفهوم العبادة في الإسلام مفهومٌ واسع يتجاوز حدودَ العبادات، ويشمل حتى الأعمال إن أحسنّا النيةَ فيها وفعلناها إرضاءً لله تعالى واجتناباً لنواهيه.
اتِّساعُ مفهوم العبادة يهدِف إلى توجيه الناسِ إلى أعمالِ الخير والبرِّ كي يسعدَ الناس بمساعدة بعضهم بعضاً، ولو كانت العبادة وحدَها هي الطريق الوحيدة لتحصيل الأجر لقعد الناس عن العمَل وعن فِعل الخير.
إنَّ كلَّ عملٍ اجتماعيّ نافعٍ يعدّه الإسلام عبادةً من أفضل العبادات ما دام قصدُ فاعلِه الخير، لا تصيّد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس، فليست العبادة مجرَّدَ الانزواء عن الحياة وعكوفٍ عن المساجد.
وإنما شُرعت العبادةُ في الإسلام؛ لتكونَ محقّقة للعقيدة، وثمرةً سلوكيّة عمليّة لها، ولذلك لم يقتصِر مفهومُ العبادة في الإسلام على النُّسك والعبادات الراتبة التي تُقام في أمكنةٍ معيّنة وبكيفيات مخصوصة، ولا بالاتجاه إلى جِهة معيّنة، بل شملت العبادة كلَّ جوانبِ الحياة، قال تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَلْمَغْرِبِ وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِللَّهِ وَلْيَوْمِ الآخِرِ وَلْمَلَـئِكَةِ وَلْكِتَـابِ وَلنَّبِيّينَ وَءاتَى الْمَالَ عَلَى حُبّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَلْيَتَـامَى وَلْمَسَـاكِينَ وَبْنَ السَّبِيلِ) [البقرة:177]
إن حياتَنا كلَّها عبادة؛ فالعملُ عبادة، فإذا خرج الإنسانُ يعمل لينفقَ على أهلهِ ويكفيَهم المؤونةَ فذلك عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنَّ المسلمَ إذا أنفَق على أهله نفقَة وهو يحتَسبها كانت له صدقة" أخرجه مسلم.
طلبُ العلم عبادة، بل هو فريضة لقوله: "طلبُ العلم فريضة على كلّ مسلم" أخرجه ابن ماجه.
برُّ الوالدين حسنُ صحبتهما عادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام للرّجل الذين أقبل لمبايعة الرسول على الهجرة والجهاد: "فهل من والديك أحدٌ حيّ؟" قال: نعم، بل كلاهما، قال: "فتبتغي الأجرَ من الله؟" قال: نعم، قال: "فارجِع إلى والدَيك فأحسِن صحبتَهما" أخرجه مسلم.
صلةُ الأرحام عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: "الرحمُ معلّقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعَني قطعَه الله" أخرجه مسلم.
إماطةُ الأذى عن الطريق عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: "كانَ على الطريق غصنُ شجرةٍ يؤذي الناسَ، فأماطَها رجل، فأدخِل الجنة" أخرجه ابن ماجه.
طلاقةُ الوجه عند اللقاءِ عبادةٌ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق" أخرجه مسلم.
يقول الإمام النوويّ -رحمه الله-: "وفي هذا دليل على أنَّ المباحاتِ تصير طاعاتٍ بالنية الصّادقة".
إخوةَ الإسلام: العبادةُ نظامٌ شامل للحياة. وأخذُ جانبٍ من العبادة مع إهمال غيرها مجانبة للصواب ومخالفة لهدي الرسول ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي ، فلمّا أُخبِروا كأنهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ؟! قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أمّا أنا فإنّي أصلّي الليل أبداً، وقال آخر: أما أنا أصوم الهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزلُ النساء فلا أتزوّج أبدا، فجاء رسول الله إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصومُ وأفطر، وأصلّي أرقُد، وأتزوّج النساء، فمن رغِب عن سنّتي فليس منّي" أخرجه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي منَّ علينا بالصالحات ووفَّقنا للطاعات، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله البريَات، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله قادَ من شاء الله بتوفيق الله إلى الجنّات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي النهى والمكرمات.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى.
عباد الله: احرِصوا على الخير الذي قدَّمتموه والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح.
من علامة قَبول التوبة والأعمال أن يكونَ العبد أحسنَ حالاً بعد الطاعة عما قبل، ومن علامة القبول التوفيق بعد العمل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: "جزاءُ الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاءُ السيئة سيئةٌ بعدها"، فالأعمال الصالحات يستجرّ بعضُها بعضاً، والأعمالُ السيئة يسوق بعضها بعضاً، قال بعضُ السلف: "من وجَد ثمرةَ عملِه عاجلاً فهو دليل على وجودِ القبول آجلاً".
إخوةَ الإسلام: المداومةُ على الأعمال الصالحة تدلّ على اتّصال القلب بخالقه، ممّا يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل، واعتبر بعضُ أهل العلم هذا الأثرَ من الحِكَم التي شُرعت من أجلها الأذكارُ المطلقة والمقيّدة بالأحوال.
المداومةُ على الأعمال الصالحةِ من أحبِّ الأعمال إلى الله، كما في الحديث القدسي: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ ممّا افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتّى أحبَّه" أخرجه البخاري.
ومن هدي الرسول المداومةُ على الأعمال الصالحة، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إذا عمل عملاً أثبتَه، وكان إذا نام من الليل أو مرِض صلـّى من النهار ثنتي عشرة ركعة" أخرجه مسلم.
ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.