البحث

عبارات مقترحة:

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

جنة العبودية

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد أحمد عبد الكريم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. معنى العبادة .
  2. التعبد لله بالفرائض مقدم على النوافل .
  3. العبودية طريق إلى حب الله تعالى .
  4. الشرف والرفعة بالخضوع والتذلل لله .
  5. عبودية النبي لله تعالى .
  6. عبودية الصحابة وتنافسهم عليها .

اقتباس

إن الشرف والرفعة والمكانة والراحة والطمأنينة والسعادة ليست في الدور ولا في الفلل والسيارات والعمارات، ولا في الأموال والمناصب والجاه، إنها -والله- في عبادة رب الأرض والسموات، إنها في التشرف بالتذلل بين يدي الله، في الخضوع لله، في الارتباط بالله، في الاتصال بالمولى جل في علاه

 

 

 

أما بعد:

فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى، ثم أما بعد:

فيقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) [مريم:110]. ويقول سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97]

إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد: عرفنا في الخطبة الماضية وعلمنا أن الله سبحانه وتعالى لم يخلقنا في هذه الدنيا عبثاً، ولم يتركنا فيها سدى، بل خلقنا لغاية عظيمة، ومهمة جليلة، ألا وهي توحيده جل وعلا وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى.

فما هي العبادة -يا عباد الله؟- العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة.

وأول ما يجب على العبد أن يتعبد به مولاه الفرائض التي افترضها الله تعالى عليه؛ ففي الحديث القدسي: يقول رب العزة والجلال: "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما إلي افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه".

"وإذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض".

فما أعظمها من مكانة، وما أرفعها من منزلة، يوم يتشرف العبد الفقير الحقير الذليل بعبودية الرب الجليل القوي العلي القدير.

ومما زادنـي شـرفاً وتيهـاً

وكدت بأخمصي أطأ الثريادخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمـد لي نبياً

والله -يا عباد الله- إن الشرف والرفعة والمكانة والراحة والطمأنينة والسعادة ليست في الدور ولا في الفلل والسيارات والعمارات، ولا في الأموال والمناصب والجاه، إنها -والله- في عبادة رب الأرض والسموات، إنها في التشرف بالتذلل بين يدي الله، في الخضوع لله، في الارتباط بالله، في الاتصال بالمولى جل في علاه.

فليتك تحلـو والحيـاة مريرة

وليتـك ترضـى والأنـام غضابوليت الذي بيني وبينك عامـر وبينـي وبيـن العـالمـين خـرابإذا صح منك الود يا غاية المنى فالكل هين وكل ما فوق التراب تراب

عرف هذه الحقيقة أصحاب محمد وسلف هذه الأمة، فباعوا أنفسهم لله، وجعلوا حياتهم كلها لله: (قُلْ إِنَّ صلاتي وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163]

هذا محمد يتشرف بعبوديته لله -وهو أشرف الأنبياء والمرسلين وسيدنا ولا فخر- ويمدحه الله عز وجل في القرآن بالعبوديه في أشرف أحواله فيقول عنه سبحانه: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى) [الإسراء:1]. ويقول عنه: (وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن:19]، ويقول أيضاً: (تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان:1]

فكان محمد أعبد الناس لله، وأشد الناس خشية لله، بل كان لا يجد الراحة والطمأنينة واللذة إلا في عبودية ربه سبحانه، فكان يقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وكان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة، وكان يقول لمؤذنه بلال بن رباح: "أرحنا بها يا بلال"، كان يقوم الليل تتفطر قدماه، وتتشقق رجلاه من طول القيام، فيقال له: هون على نفسك فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: "أفلا أكون عبداً شكورا؟!!".

يصوم الأيام الشديدة الحر، بل يواصل الليل بالنهار، بل يواصل اليوم باليومين بالثلاثة، فأراد بعض الصحابة أن يواصلوا فنهاهم الرسول عن ذلك وقال لهم: "لا، إنكم لستم كهيأتي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" لا يطعمه ولا يسقيه شراباً وإنما حكماً ومعارفاًً وفتوحات ربانية وإلهامات إلهية.

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الطعام وتلهيها عن الزادلها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حاد

إن هذه -والله- هي الحياة؛ حياة الركعات، حياة السجدات، حياة الخضوع والتذلل والخشوع بين يدي رب البريات، قيل للحسن البصري -رحمه الله-: "ما بال أهل الليل -أي أهل قيام الليل- على وجوههم النور؟ قال: خلوا بالرحمن فأكسبهم نوراً من نوره".

وهذا أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب وأرضاه يعرف هذه الحقيقة، ويجد الراحة والطمأنينة في عبادة الله، فيخرج في ظلام الليل الدامس، ويمسك لحيته ودموعه ساقطة من عينيه ويقول: "يا دنيا يا دنية، غري غيري، ألي تزينت؟ فقد طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادك حقير وسفرك طويل، آهٍ من قلة الزاد وبعد الطريق ووحشة الموت".

وكان يقول موصياً أصحابه: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل".

وهذا الفاروق عمر بن الخطاب لما عرف شرف العبودية لله قال: "والله لولا ثلاث لما تمنيت الحياة، -لأنه ما وجد طعم اللذة والراحة والطمأنينة والسعادة إلا في هذه الأمور-: قيام الليل، وصيام الهواجر -أي صيام الأيام الشديدة الحر-، والجلوس مع أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر".

وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد يقول: "ما ليلة يُهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب مشتاق أحب إلي من ليلة شديد قرُّها -أي شديد بردها-، كثير مطرها، أصبح فيها العدو، فأقاتلهم في سبيل الله".

وكذلك قام حنظلة من فراشه -وهو في ليلة عرسه وهو جنب يوم سمع منادي الكفاح، منادي الجهاد في غزوة أحد- يقول: يا خيل الله اركبي، يا خيل الله اركبي، فما كان منه إلا أن لبس درعه وحمل سيفه وخرج إلى أرض المعركة يقاتل في سبيل الله، ويتمنى الموت في سبيل الله، ويتلذذ بالأذى في سبيله ولسان حاله يقول:

إن كان سركم ما قال حاسدنا

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

وكأن لسان حاله أيضاً يقول لزوجته:

بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنـا

شـوقاً إليكم ولا جفت مآقينـاتكاد وحين تناجيكم ضمائرنا يقضـي علينا الأسى لولا تآسيناإن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا

قاتل حنظلة إلى أن فاضت روحه إلى الله فغسلته ملائكة الرحمن وزفته إلى الجنان، حيث الحور العين، والنعيم المقيم، فجاء إليه الصحابة، فوجدوا الماء يتقاطر من جسده، فذهبوا إلى زوجته فأخبروها، فقالت لهم: "لقد خرج وهو جنب". فقال لهم الرسول: "والذي نفسي بيده، لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة بماء المزن في صحاف من ذهب وفضة".

وهذا عبد الله بن جحش الشهيد المجدع، يأتي في عزوة أحد فيسمع سعد بن أبي وقاص يدعو الله ويقول: "اللهم ارزقني رجلاً شديداً بأسه أقاتله فيك فأقتله وآخذ سلبه، فرفع عبد الله بن جحش يديه إلى السماء وقال: يا رب إني أسألك أن ترزقني رجلاً شديداً بأسه فأقاتله فيك، فيقتلني فيك، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فإذا لقيتك يا رب فقلت لي: يا عبد الله فيم جدع أنفك وقطعت أذنك؟ فأقول: فيك يا رب، فوالله ما انتهت المعركة إلا وعبد الله بن جحش شهيداً في سبيل الله قد جدع أنفه وقطعت أذنه".

هكذا كانوا رضي الله عنهم؛ رهبان الليل وفرسان النهار.

عباد ليل إذا جن الظلام بهم

كم عابد دمعه في الخد أجــراهوأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبّوا إلى الموت يستجدون رؤياهيا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشـيدون لنـا مجداً أضعنـاه

هكذا كان سلف هذه الأمة لما عرفوا حقيقة اللذة والسعادة والراحة، ويوم اتصلوا بالله فعرفهم الله منازل الصديقين كان قائلهم يقول: "والله إنا لفي لذة وفي نعيم لو علم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف"، وكان قائلهم يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، إنها جنة العبودية، إنها جنة الطاعة والتذلل والخضوع والخشوع لله والبكاء من خشية الله سبحانه وتعالى.

ولذلك كانوا يتنافسون على الطاعات، ويتسابقون إلى الخيرات، يأتي أبو ذر إلى الرسول فيقول: "ذهب أهل الدثور بالأجور -يعني ذهب أهل الأموال الأغنياء بالأجور- يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم -جاءت الحسرة في نفوس الصحابة على ذلك الأجر والثواب الذي لا يستطيعونه- فقال لهم الرسول: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؛ كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة". وعدد أبواباً من الخير، فسمع الأغنياء ففعلوا مثلما فعل الفقراء، فجاء الفقراء إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا الأغنياء ما قلت ففعلوا كما فعلنا، فقال الرسول: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

هكذا كان همهم، وهكذا كان تطلعهم، وهكذا كانوا يتطلعون ويتسابقون، كان فقراء الصحابة الذين لا يملكون شيئاً -كما جاء في صحيح مسلم- كان أحدهم لا يجد ما ينفق من الصدقة، وقد أعطاه الله بسطة في الجسم وقوة في البدن، فكانوا يتحملون الأحمال، يعمل أحدهم حمالاً، لا ليتوسع في الرزق ولا ليرفع من مستوى المعيشة ولا ليؤمن مستقبله -كما يقال- ولا ليزيد من رصيده في البنك، وإنما ليتصدق على الفقراء والمساكين، وليرفع من رصيده في بنك الرحمن الذي يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.

لقد وصل ذلك الجيل المبارك إلى حد أن يقوم أحدهم -وهو أبو ضمضم- يصلي في الليل، ثم يتوجه إلى الله بالدعاء ويقول: "اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به في سبيلك، ولا جسم أجاهد به في ذاتك، ولكني أتصدق بعرضي على المسلمين، اللهم من شتمني أو سبني أو ظلمني أو اغتابني فاجعلها لي كفارة".

فيا معاشر المؤمنين ويا معاشر الموحدين: علينا أن نراجع أنفسنا، وأن نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا الله، هل أدينا الفرائض كما أمر الله؟ هل قدمنا لأنفسنا أعمالاً صالحة تشفع لنا عند الله؟

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر على الله (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18]
 

يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟ ويا شاباً غره شبابه وطول الأمل ماذا تنتظر؟ وماذا أعددت للقاء الله؟

يا من بدنياه اشتغل

وغـره طـول الأملالموت يأتـي بغتـة والقبر صندوق العمل

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (مَّنْ عَمِلَ صَـالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لّلْعَبِيدِ) [فصلت:46].

بارك الله لي ولكم..